ترجمة وتحرير: نون بوست
لا يزال عمل خط أنابيب الغاز “نورد ستريم -2” الممتد بين روسيا وألمانيا على طول بحر البلطيق معلقًا. ويشُبِّه البعض هذه المعضلة بحقيبة دون مقبض في مطار لا يمكن تركها ومن المستحيل حملها. ومعظم الشخصيات الأساسية في هذه الملحمة مثل جان كلود يونكر وأنجيلا ميركل وماتيو رينزي وديفيد كاميرون وبيترو بوروشينكو، غادرت الساحة السياسية. ووحده صاحب سياسة فرق تسد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بقي صامدًا.
في سنة 2015 تم الإعلان لأول مرة عن خط الأنابيب الذي تبلغ تكلفته 11 مليار دولار (8.3 مليار جنيه إسترليني) التابع لشركة الطاقة الروسية العملاقة غازبروم المدعومة من طرف الدولة. وكان الهدف من بنائه نقل الغاز من غرب سيبيريا، لمضاعفة السعة الحالية لخط أنابيب “نورد ستريم -1″، وتدفئة 26 مليون منزل ألماني بسعر مناسب.
لكن حسب المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل فإن خط الأنابيب هذا لا يمثل مشروعًا تجاريًا بحتًا بل له نتائج جيواستراتيجية واسعة، ذلك أن كل شبر من خط الأنابيب وراءه معركة سياسية وقانونية ضارية.
وهذا المشروع من بين عدد قليل من المشاريع الهندسية التي تسببت في إثارة المشاكل. ومن بين المسائل التي فتحها هذا المشروع، استعادة إمبراطورية ما بعد الاتحاد السوفيتي، وأزمة المناخ، والمضايقات الأمريكية لأوروبا، واحتضان ألمانيا لروسيا، والسلطات القانونية للمفوضية الأوروبية، والضغط على الشركات، وتنبؤات الطاقة، ونموذج غازبروم الاحتكاري. ومنتقدو هذا المشروع يصفونه بأنه خيانة بمستوى الاتفاق الألماني السوفيتي المعروف باسم اتفاق مولوتوف-ريبنتروب لسنة 1939.
من خلال منح بوتين نفوذًا على أمن الطاقة الأوروبي، يُجادل البعض بأن خط الأنابيب البالغ طوله 1200 كيلومتر سيجعل أوروبا الحرة تحت رحمة الكرملين. وإذا كان بوتين يريد تكرار سيناريو يالطا مجددا وتسوية حدودية أخرى مع أوروبا، فإن خط أنابيب الغاز واعتماد أوروبا على الاحتياطيات الروسية يمثل وسيلة لتحقيق مبتغاه.
يقول منتقدو نورد ستريم-2 إن هذا المشروع لا يتعلق بخلق قدرة إضافية بقدر استبدال المسار الرئيسي الحالي للغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا. في المقابل، يرى آخرون أن هذه المخاوف مبالغ فيها، لأنه في حال استخدام روسيا الغاز كسلاح جيوسياسي فإن لأوروبا العديد من المصادر البديلة.
بعد العديد من التأجيلات والعقبات القانونية، انتهت أشغال بناء خط الأنابيب في أيلول/ سبتمبر. لكن مجلس إدارة شركة غازبروم ينتظر الآن التصريح القانوني النهائي من المنظمين الألمان للبدء في إرسال الغاز عبر خط الأنابيب إلى المستهلكين الألمان. وقد أصبح هذا الموضوع سبب صراع داخلي مبكر بين صفوف التحالف الألماني الجديد، زادت من حدته تهديدات بوتين لسيادة أوكرانيا.
إن ميزان القوى المتغير يجعل احتمال حظر المشروع نهائيًا في اللحظة الأخيرة واردًا، الأمر الذي سيترك غازبروم وشركائها الأوروبيين بمشروع ضخم لا يمكن الاستفادة منه على أطراف بحر البلطيق. وإذا تحققت هذه الفرضية، سيكون ذلك انتصارا كبيرا لاستقلال أوكرانيا. منذ اقتراح المشروع بعد سنة واحدة فقط من غزو بوتين لأوكرانيا، مارست كييف ضغوطًا شرسة ضده.
بما أن مسار الخط الأنابيب الجديد القادم من روسيا إلى أوروبا لا يمر عبر أوكرانيا فإنه يعد جزءا من الاستراتيجية الروسية الواسعة لقطع الروابط مع جمهوريات ما بعد الاتحاد السوفيتي. لذلك، تخشى أوكرانيا خسارة رسوم العبور التي تمثل 4 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. وتجادل كييف بأن خط الأنابيب الجديد سيزيد من سيطرة روسيا على سوق الغاز الأوروبية وحصتها فيه، ما يمنح بوتين فرصة لإحكام قبضته على أوروبا. وتبلغ الطاقة الإنتاجية السنوية لخط الأنابيب 55 مليار متر مكعب – أي ما يفوق نصف كمية الغاز التي استهلكها الألمان في سنة 2019 البالغة 95 مليار متر مكعب.
وجدت أوكرانيا حلفاء جاهزين لدعم قضيتها في كل من بولندا ودول البلطيق ثم إيطاليا والمملكة المتحدة والمفوضية الأوروبية. وقد نبهوا جميعًا إلى مواجهات الغاز الروسية في 2006 وفي كانون الثاني/ يناير 2009، بالإضافة إلى تهديدات بوتين الأخيرة لمولدوفا، محذرين من أن روسيا لن تتردد في إيقاف إمدادات الغاز من أجل ضمان مصالح جيوستراتيجية.
أدت الضغوط التي مارستها كييف في كانون الأول/ ديسمبر 2019 إلى فرض عقوبات أمريكية بموجب قانون حماية أمن الطاقة في أوروبا، أدت إلى تعليق أشغال خط الأنابيب لمدة سنة ونصف مع انسحاب المقاول السويسري من المشروع.
انعكست مخاوف الحكومة الألمانية في خطاب أولاف شولت، وزير المالية آنذاك والمستشار الألماني الآن، في آب/ 7 أغسطس 2020، الذي اقترح على وزير الخزانة الأمريكي آنذاك ستيفن منوشين أن تمول ألمانيا بناء محطتين للغاز الطبيعي السائل في ألمانيا بتكلفة مليار يورو (856 مليون جنيه إسترليني) مقابل إنهاء الولايات المتحدة للعقوبات التي تعطل المشروع. ولطالما مارست الولايات المتحدة ضغوطًا من أجل ضمان المزيد من صادرات الغاز الطبيعي المسال إلى ألمانيا.
عامل بناء روسي في خليج بورتوفايا، 106 ميلاً شمال غرب سان بطرسبرغ، روسيا.
رفض دونالد ترامب العرض الألماني وأخبر ميركل بأنه يتعين عليها التوقف عن تغذية هذا الوحش. وخلال قمة الناتو لسنة 2018، قال ترامب متشكيا إن “روسيا سوف تسيطر على حوالي 70 بالمئة من الأراضي الألمانية بفضل الغاز الطبيعي. أخبريني، هل هذا مناسب؟ من المفترض أن نكون حذرين تجاه روسيا بينما تقوم ألمانيا بدفع المليارات والمليارات من الدولارات لها سنويًا”.
في البداية، كان نهج إدارة بايدن استمراريًا، حيث نسج على منوال سلفه وحث أوروبا على عدم تعريض نفسها لابتزاز روسي فيما يتعلق بالطاقة. ولكن بحلول أيار/ مايو، خفف بايدن من حدة نهجه الصارم، ما يظهر مدى فعالية الدبلوماسية الألمانية.
في 19 أيار/ مايو، رفع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن العقوبات المفروضة على الرئيس التنفيذي لشركة “نورد ستريم” ورئيس شركة “نورد ستريم 2” وصديق بوتين المقرب ماتياس وارنيج، موضحا أنه يريد منح الديبلوماسية مجالا لإثبات نجاعتها. وبحلول السابع من حزيران/ يونيو، قال بلينكن إن خط الأنابيب كان أمرا واقعيا. وفي 21 تموز/ يوليو، بعد أسبوع من اجتماعه مع ميركل في البيت الأبيض، رفع بايدن العقوبات تمامًا عن خط الأنابيب كهدية وداع لها.
من جانبه، أعرب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن خيبة أمله – وهو ليس أول حليف للولايات المتحدة يعرب عن استيائه من قرارات بايدن – وقال إن أوكرانيا استُبعدت من عملية صنع القرار وهو أمر تعارضه الولايات المتحدة.
فولوديمير زيلينسكي.
بموجب الاتفاق الذي توصلت إليه ميركل مع بايدن، وعدت ألمانيا بالضغط من أجل تمديد اتفاقية نقل الغاز بين روسيا وأوكرانيا لمدة 10 سنوات بالإضافة إلى المساهمة بمبلغ 175 مليون دولار في صندوق أخضر جديد لأوكرانيا لتعزيز استقلالها الطاقي باستخدام مصادر الطاقة المتجددة.
وجاء في البيان “إذا حاولت روسيا استخدام الطاقة كسلاح أو ارتكبت المزيد من الأعمال العدوانية ضد أوكرانيا، فسوف تتخذ ألمانيا إجراءات على المستوى الوطني وتضغط من أجل اتخاذ تدابير فعالة على المستوى الأوروبي، بما في ذلك العقوبات، للحد من قدرات التصدير الروسية إلى أوروبا في قطاع الطاقة تشمل الغاز”. وقالت ميركل إن هذه التأكيدات لا تنطبق فقط على إدارتها، وإنما تشمل أيضا الإدارة التي ستخلفها.
في وقت لاحق، برر عاموس هوشستين، كبير مستشاري بايدن لشؤون أمن الطاقة العالمي، نهج بايدن العملي قائلا “إن فكرة التوصل إلى البيان المشترك مع ألمانيا كان اعترافًا بحقيقة استكمال خط الأنابيب وفهم أن العمل العدواني من جانب الولايات المتحدة ربما لم يكن ليغيّر النتيجة وربما كان سيؤدي فقط إلى تأخيرها. لذلك، النظر إلى الواقع وفهمه، وصياغة شيء ما والترتيب مع ألمانيا من شأنه أن يسمح لنا بمواصلة الدفاع عن المصالح المهمة لأوروبا وبالتالي مصالح الولايات المتحدة، والدفاع عن أمن أوكرانيا أثناء معالجة الآثار السلبية التي يمكن أن يشكلها نورد ستريم 2 والتخفيف من حدتها والتهديدات التي تنطوي عليه”.
تم التشكيك في هذا الحكم مرارا وتكرارا، بما في ذلك في المملكة المتحدة. وقرر بايدن بعد تردد الموافقة على مشروع خط الأنابيب هذا الربيع، وبالتحديد في الوقت الذي بدأ فيه بوتين لأول مرة حشد القوات على حدود أوكرانيا. كما أعطى الضوء الأخضر في الوقت الذي زادت فيه شعبية حزب الخضر الألماني، المعروف بمعارضته الشديدة لخط الأنابيب وتصميمه على انتهاج سياسة خارجية جديدة في ألمانيا، والذي أشارت استطلاعات الرأي إلى أنه الحزب المهيمن قبل انتخابات أيلول/ سبتمبر.
لقد كان الوقت غير مناسب بالنسبة لواشنطن لإرسال إشارة انهزامية إلى زعيمة حزب الخضر، أنالينا بربوك، التي لم تتردد في انتقاد قرار بايدن باعتبار أنه يقسّم أوروبا. كما أن بايدن لم يبذل مجهودًا يُذكر للتغلب على أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين الغاضبين الذين يؤيدون العقوبات على شركة “غازبروم” باعتبارها ضرورة للأمن القومي.
عارض السيناتور تيد كروز، عضو مجلس الشيوخ الجمهوري من تكساس الذي صاغ مشروع القانون الذي يفرض عقوبات أمريكية على مشروع خط الأنابيب، الأساس المنطقي لبايدن. وأوضح أن “مشروع الخط اكتمل بنسبة 95 بالمئة في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2019 عندما مررنا العقوبات وأوقفناها. واكتمال خط الأنابيب بنسبة 95 بالمئة يعني أنه لم يتبقى الكثير على انتهائه. وقد شاهدنا على امتداد سنة كيف ظل الخط دون أهمية في قاع المحيط إلى أن تم انتخاب بايدن”.
والسؤال الحقيقي هو ما إذا كان حزب الخضر، المتحالف بشكل مثير للسخرية مع الجمهوريين الأمريكيين، قادرًا على إلغاء المشروع تمامًا. سيتطلب ذلك تحدي علاقة ألمانيا بروسيا.
على سبيل الانتقام، أرسل كروز رسائل إلى الشركات الألمانية العاملة في المشروع وهدد بفرض عقوبات عليها من شأنها أن تدمرها. كما علق بشكل شامل كل تعيينات بايدن للمناصب العليا في وزارة الخارجية، مما أدى إلى تعطيل الدبلوماسية الأمريكية.
وضعت هذه الخطوة أكثر من 30 مرشحًا في حالة من عدم اليقين، تاركة العديد من البلدان دون سفراء أمريكيين مؤكدين. وانتهت المواجهة فقط عندما وُعد كروز بتصويت مجلس الشيوخ على إعادة فرض العقوبات بحلول منتصف كانون الثاني/ يناير. وسوف يحتاج كروز إلى 60 صوتا مؤيدًا لقراره.
كانت حسابات بايدن مفهومة، فقد أراد إصلاح العلاقات مع ألمانيا وطلب دعمها لمواجهة الصين. وكان يعلم أن هذه العملية ستخيب آمال أوكرانيا، ولكن كما أوضح من خلال اتفاقية “أوكوس” الأمنية – التي أُبرمت بين منطقة المحيطين الهندي والهادئ واستبعدت الفرنسيين – فإن فريق الأمن القومي لبايدن مستعد تماما لإهمال الحلفاء من أجل التركيز على المنافس الاستراتيجي العظيم، وهو الصين.
شعر حزب الخضر الألماني بخيبة أمل شديدة لأن وزارة الخارجية تجاهلت حجة الدبلوماسية الألمانية بعدم إمكانية إيقاف خط الأنابيب. ومع أن شركة غازبروم كانت قد شارفت على استكمال المشروع، إلا أنه كانت أمامها عقبات تنظيمية كبيرة مع كل من ألمانيا والاتحاد الأوروبي.
منذ ذلك الحين، اختل التوازن الذي أنشأته ميركل بسبب ثلاثة أحداث: أولا الارتفاع الشديد في أسعار الغاز في أوروبا المدفوعة بالطلب المتزايد في آسيا، ثانيا حشد القوات الروسية على الحدود مع أوكرانيا، ثالثا وصول حزب الخضر إلى الحكومة الائتلافية. عاد نورد ستريم-2 إلى الجدل. لا يزال شولتز، المستشار الألماني الحالي، يؤيد المشروع لكنه اتحد مع بايدن وقادة دول مجموعة السبع للبحث عن طرق من شأنها أن تردع بوتين والتحذير من أن أي غزو لأوكرانيا سيؤدي إلى تعليق المشروع وليس إلغائه. وهو ما يثير الجدل.
والسؤال الحقيقي هو ما إذا كان حزب الخضر، المتحالف بشكل مثير للسخرية مع الجمهوريين الأمريكيين، قادرًا على إلغاء المشروع تمامًا. سيتطلب ذلك تحدي علاقة ألمانيا بروسيا.
يرى لوف أن ألمانيا تجد صعوبة بالغة في قبول تحرك روسيا الثابت في اتجاه الاستبداد، ومن أجل القيام بذلك، “على ألمانيا تغيير السياسة وإدراك حقيقة أنها تتعامل مع شريك أكثر صعوبة”.
في كتابه “مشكلة ألمانيا مع روسيا”، درس جون لوف الزميل في “تشاتام هاوس” كيف ساهم ارتباط ألمانيا العاطفي بالمجتمع والثقافة الروسية في قراءتها الخاطئة للاتجاه الذي كانت تسير فيه روسيا. وفي حديثه عن هذه العلاقة في مؤسسة تشاتام هاوس مؤخرًا أشار لوف “إلى مزيج غريب من المشاعر – خوف تاريخي من روسيا، وشعور بالذنب إزاء جرائم النازيين، والامتنان لموسكو لسماحها بتوحيد ألمانيا بسرعة، إلى جانب قدر كبير من العاطفة القائمة على الإعجاب بالثقافة الروسية”.
وأضاف “يحكم هذه العلاقة أيضا منطق اقتصادي، إذ تمتلك ألمانيا التكنولوجيا بينما تحظى روسيا بالموارد، وهو ما يخلق نوعا من التكامل الطبيعي بين البلدين. وأخيرًا، هناك تصور سائد بأن سياسة “أوستبوليتيك” (تطبيع العلاقات بين جمهورية ألمانيا الاتحادية وأوروبا الشرقية) منذ أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي قد أدت إلى إنهاء الحرب الباردة. وبطريقة ما، ستكون روسيا لاعبًا عقلانيا إذا ما قامت بتهدئة التوترات، وبناء العلاقات، وزيادة التجارة بطريقة ما”. ويشير اعتقاد سائد آخر إلى أن حاجة روسيا إلى الأسواق وحاجة ألمانيا إلى الغاز الروسي سيضمن الاستقرار بفضل الاعتماد المتبادل بين البلدين.
يرى لوف أن ألمانيا تجد صعوبة بالغة في قبول تحرك روسيا الثابت في اتجاه الاستبداد، ومن أجل القيام بذلك، “على ألمانيا تغيير السياسة وإدراك حقيقة أنها تتعامل مع شريك أكثر صعوبة”.
وفقًا لما صريح به كبير مستشاريها في السياسة الخارجية كريستوف هيوسجين، في مقابلة له مع “دير شبيغل”، كانت ميركل دائما ما تضع في اعتبارها ما هو مقبول بالنسبة لروسيا. لهذا السبب، عارضت خطة عمل الناتو الخاصة بأوكرانيا وتوفير الأسلحة الهجومية، واستمرت في الدفاع عن نورد ستريم باعتباره أمرا لا يهدد أمن الطاقة في أوروبا. وهذه العقلية، وفقا لرالف فوكس، مدير المركز الألماني للحداثة الليبرالية والمقرب من حزب الخضر، تقترب من منح روسيا حق النقض.
نشطاء المناخ في برلين، ألمانيا.
لكن مع تنصيب بربوك في وزارة الخارجية وحليفها روبرت هابيك في وزارة الاقتصاد وحماية المناخ، يجادل فوكس بأن جيلا جديدا من الأصوات القوية المعارضة لهيمنة ما يسمى بـ “تفهم روسيا” على مدى عقود قد برز في الواجهة.
من أجل الفوز وجب على حزب الخضر الألماني مواجهة كبار شركائه في التحالف وهو الحزب الاشتراكي الديمقراطي. إن جيرهارد شرودر، المستشار الألماني السابق للحزب الديمقراطي الاشتراكي البالغ من العمر 77 سنة، هو رئيس لجنة المساهمين في نورد ستريم، وقد شغل هذا المنصب في غضون أسابيع من تركه للمنصب العام. ودفاعه عن المشروع غير مشروط.
فعلى سبيل المثال، عندما سُئل عن العلاقة بين خط الأنابيب، الذي يصفه بأنه مشروع أوروبي، وتسميم الروسي أليكسي نافالني أجاب: “لا علاقة لأحدهما بالآخر”. وأضاف أنه لم يقع إثبات حدوث عملية التسمم علميا. وليس من الغريب أن يصف نافالني شرودر بأنه “رجل المهمات بالنسبة لبوتين”. وهو يشير إلى أن المستفيدين الحقيقيين من نورد ستريم-2 لن يكونوا الألمان الفاسدين من الناحية الأخلاقية فقط، بل أيضًا الأوليغارشيين المعاقبين من الولايات المتحدة.
تعكس دعوة شرودر للمشروع وجهة نظر الحزب الديمقراطي الاشتراكي تجاه المشروع. لسنوات عديدة، كانت مضايقات ترامب لألمانيا سببًا في جعل هذه الحجة سهلة الانتشار داخل حزب من أهدافه الدفاع عن سيادة ألمانيا، وتوفير درع لأولئك الذين دافعوا عن علاقات أوثق مع روسيا في الحزب الاشتراكي الديمقراطي قائمة على أساس التغيير من خلال التجارة.
يدافع الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، عن هذا المشروع من خلال الاستشهاد بمقولة هنري كيسنجر القائل إن الدبلوماسيين المحنكين يبحثون عن نقاط اتصال في السياسة الخارجية “من أجل تحويل الحاضر السيئ إلى مستقبل أفضل”. وقال مؤخرًا: “يتعين على الجانبين التفكير في تداعيات تدمير هذه العلاقات بالكامل ودون أي بديل”، مضيفًا “أعتقد أن قطع العلاقات ليس علامة على القوة. كيف لنا أن نؤثر في موقف نراه غير مقبول عندما نقطع العلاقات بشكل نهائي؟”.
اعتبر وزير الخارجية الألماني السابق هيكو ماس، وهو أيضًا من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، مشروع خط الأنابيب وسيلة للبقاء على اتصال مع روسيا. وقال إن “استراتيجية قطع العلاقات” ليست خاطئة فحسب، بل خطيرة أيضًا، لأن ذلك سيدفع روسيا إلى تعاون اقتصادي وعسكري وثيق مع الصين.
تبدو هذه المقاربة توددا صريحا من روسيا. وقع رئيس وزراء ولاية براندنبورغ السابق، ماتياس بلاتزيك، وهو اشتراكي ديمقراطي، في ورطة في سنة 2014 عندما قال “يجب العمل على ضم شبه جزيرة القرم بأثر رجعي بموجب القانون الدولي بحيث يكون مقبولًا للجميع”، علما بأنه كان رئيس مجموعة ضغط في المنتدى الألماني الروسي.
رئيسة وزراء ولاية مكلنبورغ-فوربومرن، مانويلا شفسيغ، كانت بدورها من أشد المناصرين لمشروع خط الأنابيب، وكان ذلك سببا في صداماتها المتكررة مع حزب الخضر، حيث يصل خط الأنابيب في ولايتها إلى ميناء موكران في أقصى شمال شرق روغن. وكانت مناصرة رائدة، وتحتفل بيوم روسيا كل سنة، كما أنها أنشأت مؤسسة لحماية الشركات من العقوبات الأمريكية اسمها “مؤسسة المناخ وحماية البيئة”، ولم تتأثر شعبية شفسيغ بهذا الدعم.
رئيسة وزراء ولاية مكلنبورغ-بوميرانيا، مانويلا شفسيغ، إلى اليسار في زيارة لميناء لوبمين الصناعي.
وقالت شفسيغ: “إذا أردنا الاستغناء عن الطاقة النووية والوقود الأحفوري، فنحن بحاجة إلى الغاز على الأقل في الفترة الانتقالية”.
إن فوز بربوك لا يتطلب فقط منافسة شركائها في الائتلاف، وإنما كسب ثقة الشعب الألماني أيضًا، الذي يتفق العديد منهم مع شفسيغ ويشككون في قدرة الدولة على التخلص من الطاقة النووية والفحم والغاز في نفس الوقت. لكن لدى بربوك حلفاء مؤثرون من خبراء الطاقة. حسب ما صرح به رئيس وكالة البيئة الألمانية “يو بي إيه”، ديرك ميسنر، في أغسطس/ آب، سيفقد مشروع “نورد ستريم-2” أهميته قريبًا لأسباب تتعلق بسياسة المناخ. وأضاف “يمكن أن يصبح نورد ستريم-2 قريبًا مشروعا قد عفا عليه الزمن بين مشاريع الطاقة، في سعينا لتحقيق صافي انبعاثات صفرية بحلول سنة 2045”.
أهم حليف محتمل لبربوك هو المفوضية الأوروبية والقانون، لا سيما أن المفوضية وشركة “غازبروم” كانتا على خلاف منذ سنوات. حاولت الشركة الروسية تجنب الشبكة التنظيمية للاتحاد الأوروبي بالادعاء أن توجهات الطاقة لسنة 2019 لا تنطبق على خط الأنابيب، لكنها فشلت.
أمام الهيئة التنظيمية الألمانية والاتحاد الأوروبي ستة أشهر لتحديد ما إذا كان خط الأنابيب يتوافق مع قانون الاتحاد الأوروبي. في المقابل، تم السماح لشركات أخرى لشرح أفضلية خططها للهيئة التنظيمية الألمانية، بما في ذلك مشغل نظام نقل الغاز الأوكراني والشركة البولندية لتعدين النفط والغاز (بي جي نيج).
إن سلسلة كاملة من المتطلبات التنظيمية للاتحاد الأوروبي حول شركات الطرف الثالث وتفكيك الملكية والحفاظ على مصداقية التعريفات ستدخل حيز التنفيذ. ويتطلب التفكيك أن يكون مالكو خطوط الأنابيب مختلفين عن موردي الغاز المتدفق عبر الأنابيب، وهو أمر تعارضه شركة “غازبروم”.
وحسب وزير الدولة الألماني الجديد للشؤون الاقتصادية في وزارة التغير المناخي، سفين جيغولد، “من الواضح أن قانون الطاقة الأوروبي ينطبق أيضًا على هذا المشروع، حيث أن الفصل بين التجارة والنقل محدد بوضوح”.
في بلد يسود فيه القانون، يفكر هابيك أيضًا في طريقة ليقضي على المشروع، وهو يرى أن: “الهدف من القوانين هو منع الاحتكار والتبعية، ويجب أن تكون شبكة الطاقة والعمليات الخاصة بها منفصلة عن خط أنابيب نورد ستريم أيضًا. ولكن كان هناك الكثير من الضغوط السياسية في ظل الحكومة الفيدرالية الأخيرة للموافقة على “نورد ستريم”، بيد أنها لم تكن مجدية وستقوم وكالة الشبكة الفيدرالية بفحص الوثائق وفقًا للقانون”.
وقال شميدت إنه في محاولة محتملة لتهديد الهيئة التنظيمية، لم تضخ “غازبروم” كميات إضافية من الغاز عبر خط بيلاروسيا أو بولندا أو أوكرانيا. وأضاف “كان لديهم سعة كبيرة في خطوط الأنابيب لكنهم لم يستخدموها. ومع أنهم لم يخلوا ببنود العقود، إلا أنهم في الوقت نفسه لم يتبعوا ديناميكيات السوق العادية عن طريق حجز سعة إضافية”.
إن أهم المعارك القانونية لا تزال في الانتظار، بينما يبقى مصير هذه القضية معلقًا.
المصدر: الغارديان