لم يعد صعبًا على أحد اكتشاف الصعوبات الجمّة التي تناهض إقامة الانتخابات الرئاسية الليبية، التي كان مقرَّر إجرائها في 24 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، فكل بلدان العالم تستفيقُ الآن من سكرة الحل الديمقراطي وتحاول إيجاد حلول أخرى صالحة لإعادة بناء بلد تشحنه الاستقطابات، حيث يسيطر على مواقع صنع القرار بألوانه شخصيات في معظمها لا تحترم الديمقراطية، بل كل تاريخها ومشروعها للسلطة يحفّز الصراع والقَبَلية والتشظّي.
والحديث عن تأجيل الانتخابات أصبح في الإطار الرسمي خلال الساعات الماضية، بإعلان البرلمان الليبي الذي يرأسه عقيلة صالح -أحد المرشّحين للانتخابات- أنها لن تُجرى في موعدها المقرَّر، دون أن يحدِّدَ موعدًا جديدًا لها، ما يتركُ القضية للغموض والفوضى، ويلقي ظلالًا من الشك حول مصير الحكومة المؤقتة.
أزمات الداخل الليبي المعقَّدة
أزمة الانتخابات وكيف ستجرى في ظل الأوضاع الحالية، أصبحت محل اهتمام التقارير الصحفية والإعلامية من كل بلدان العالم خلال الأيام الماضية، للتأكيد على حتمية الابتعاد عن الانتخابات حاليًّا، بعد أن كانت الصحف نفسها تضغط على جميع صنّاع القرار في المنظمات الدولية والبلدان ذات الثقل الإقليمي والعالمي للمضيّ فيها، على أمل الحدّ من الانقسامات المدمِّرة وعدم وضوح الأفق السياسي والاجتماعي، بعد 10 سنوات على اندلاع الثورة التي أطاحت بمعمر القذافي.
الحديث يرتكز الآن على عدم وجود آليات مناسبة لإنجاح الانتخابات، فلا يتوفر إلا القليل من الضمانات لاحترام قرارات أي قاضٍ، بشرط ألّا تكون الأحكام ضد مصالح القوى التي تريد احتكار المشهد السياسي الليبي، بعد أن ضمنَ التشريع الغريب للقانون الانتخابي نفسه توجيه المنصب إلى أشخاص بعينهم.
حرمَ التشريع الأحزابَ من المنافسة، وضمنَ لأي مرشّح قوي أن يتحدى النتائج، ما يعني أن التشريع أداة كافية لعدم شرعية الانتخابات، فالثغرات تتجاوز مجرد التفويت لصالح أشخاص بعينهم يريدون ضمان التواجد في المشهد سواء ربحوا الانتخابات أو خسروها، بل تهيّئ لهم الأجواء لمنع الليبيين من التوجُّه إلى صناديق الاقتراع إن أرادوا.
يحدث ذلك في ظل مؤسسات هزيلة، وقضاء منهار، وسيادة قانون غير موجودة بالمرة، بما لا يضمن أن تجري انتخابات حرة ونزيهة وذات مصداقية وشفافة وشاملة، وبالتالي فرض موعد بشكل تعسفي من المجتمع الدولي قبل تهذيب هذه البيئة المعادية تمامًا لأي معنى للديمقراطية، يضع ليبيا في طريق اللاعودة.
في ضوء هذه المعطيات، تثبت تجربة الأعوام الماضية أن النية الحسنة ليست كافية، ولا الحل في التعامل الدولي بالأعراف القَبَلية، وجلب كل أطراف النزاع لمائدة التفاوض، بل الحل يبدأ بقراءة ديناميكيات ليبيا المتغيرة باستمرار، والاعتراف بالتعقيدات المرهِقة التي ترتّبت عن عقد كامل من الحرب الأهلية والاضطرابات السياسية في البلاد.
قراءة في المشهد الانتخابي
قراءة المشهد الانتخابي تكشفُ عن توزيع أكثر من 1.7 مليون بطاقة انتخابية عبر مراكز الاقتراع في جميع أنحاء البلاد، 60% -2.8 مليون- ليبي مؤهَّلين ومسجّلين على منصة المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، من بينهم 50% تقلّ أعمارهم عن 30 سنة.
مع فتح إعلان المفوضية العليا للانتخابات باب تقديم الترشيحات، تقدّمَ ما يقرب من 100 مرشّح، من بينهم امرأتان فقط وعشرات الأشخاص المجهولين، وقلة فقط من أصحاب الثقل في المشهد السياسي على شاكلة عبد الحميد الدبيبة، رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية منذ مارس/ آذار الماضي.
هناك أيضًا خليفة حفتر، قائد الجيش وصاحب النفوذ القوي في شرق ليبيا، وعقيلة صالح رئيس برلمان طبرق، وفتحي باشاغا وزير الداخلية الأسبق، وسيف الإسلام القذافي، ابن الرجل الذي أزاحته الثورة بالأصل.
ما يتّضح من هويات هذه الشخصيات أنهم بقدر قوتهم على المسرح السياسي، قد يشعلون الانقسام بدرجة غير مسبوقة في التاريخ الحديث للبلاد، فغالبيتهم مُدان أو عليه شبهات يُمكن استخدامها في إسقاطه؛ خليفة حفتر على سبيل المثال لا يزال مرتبطًا بالهجوم العسكري الذي شُنَّ على طرابلس في أبريل/ نيسان 2019، كما أعلنَ مرارًا عدم نضج البلاد للديمقراطية، وأكّد أنه لن يخضع لأي سلطة مدنية.
أما ابن القذافي فأصابعه المبتورة تذكّر العالم في كل مرة ظهرَ فيها أمام الكاميرات، بكلماته الانتقامية التي توعّد فيها بأنهار من الدماء بكل أنحاء ليبيا حال التصميم على إزاحة والده من السلطة، أثناء بداية الانتفاضة الشعبية ضد معمر القذافي عام 2011 بعد نجاح ثورتَي تونس ومصر، بجانب ملاحقته حتى الآن من المحكمة الجنائية الدولية.
حتى المعسكر الآخر الذي يمثّل تطلُّعات الثورة الليبية والديمقراطية، وأكثرهم ثقة لدى الكثير من الليبيين، مثل رئيس الحكومة الحالي عبد الحميد الدبيبة، ليس محصّنًا من الجدل وتشويه السمعة، بعد أن تعهّد قبل قبول منصبه بعدم الترشُّح للانتخابات، ثم سارعَ لمزاحمة المرشحين ونجا من مقصلة المرحلة الأولى، واستمرَّ بفضل الثغرات القانونية التي سبق الإشارة إليها.
اختيارات الشارع الليبي
لن يكون محل جدل أن جيل الشباب الذي قام بالثورة عام 2011، ويناضل لأكثر من 10 سنوات في سبيل التحرر من الاستبداد والديكتاتورية، لا تغريه صورة الحاكم الخارق والرجل القوي، التي تهيمُ بها عشقًا الأجيال الطاعنة في العمر، أو حزب الكنبة، الوصف الذي يُطلق على الأغلبية السلبية التي تفضّل مشاهدة الأحداث من المنزل، والتي تريد طيّ صفحة الصراع وفتح أخرى جديدة، حتى لو كانت بنفس سوء الصفحة القديمة أو أسوأ منها في القمع والتسلُّط.
لكن بقية الناخبين هم من فئات مجزَّأة عرقيًّا ودينيًّا ومشتَّتة إقليميًّا وسياسيًّا، ويسيطر عليهم الاستقطاب الشديد في البلاد، ويؤكد ذلك عدد الترشيحات الكبير للفوز بكرسي رأس الدولة، ومع ذلك لا يوجد حتى الآن شخصية لديها قاعدة شعبية كافية لحسم الموقف وتوحيد البلاد على خريطة واضحة للمستقبل، وإنقاذ ليبيا من ضبابية لا نهاية لها.
ما الحل إذًا؟
قراءة التاريخ تؤكد أن إجراء الانتخابات في هذه البيئة ليس الحل الأفضل، لكن التأجيل يربك مصالح التكتُّلات العميقة ويكشف ما يستطيعون إخفاءه بمرور الوقت، وحتى الانقسام قد يمثّل فرصة مع الضغط الدولي لتشكيل تحالفات جديدة تطغى على القوى المعروفة بفسادها.
من سيفوز بالانتخابات في هذه الأجواء لن يصلح البيئة السياسة الفاسدة، بل سيعمّق نفسه بالسلطة داخل النسيج السياسي الليبي، ما يجعل إزاحته لاحقًا في حكم المستحيل، والشواهد من التجارب الإقليمية والدولية واضحة للجميع.
ربما يحقُّ للبعض التخوف من التأجيل وتأثيره على تزايُد النزاعات والمشاحنات بجميع أنواعها إذا بقيَ منصب الرئاسة شاغرًا، لكن الفساد والديكتاتورية المتوحِّشة اللذين قد يتأسّسان على تمرير الانتخابات في هذا التوقيت أصعب ونتائجهما أكثر مرارة.
التجارب التاريخية تؤكد أن الانتخابات ليست الأمل وحدها دون مقوّمات تساعدها، بل يجب إعادة ضبط البيئة أولًا، والتراجع عن التخندق حول المواقف والأيديولوجيات، وتقديم التنازلات التي تسمح بالتغيير عبر أساس دستوري وقانوني، فحسب الفيلسوف السياسي جون ستيورات ميل يجب بناء تبرير فلسفي للديمقراطية بناءً على اتخاذ قرارات سياسية صحيحة وعادلة.
يتسبّب الفساد في إلحاق ضرر جسيم بالنظام الديمقراطي، ويؤدّي إلى إساءة استخدام السلطة لتحقيق مكاسب خاصة ضد الصالح العام، ومع الوقت يتفنّن الحاكم الذي ينتمي إلى هذه الطبقة في قطع الرابط بين صنع القرار الجماعي وسلطة الناس في التأثير على القرارات، بحيث لا يمكن للقطاع الأوسع من الناس استثمار أنفسهم في المجال العام والمجتمع المدني، وهنا تبدأ ثقافة الديمقراطية في الانهيار، لينتهي المشهد بالاستيلاء التام على الدولة والتحول إلى استبداد أشرس وأشدّ ممّا كان عليه في السابق.