محاصرة القصر الرئاسي.. منعطف جديد للحراك الثوري السوداني
بدأت الأعداد تتوافد للمشاركة في مليونية السبت، 25 ديسمبر/كانون الأول، التي دعت لها تنسيقيات “لجان المقاومة” السودانية، والتي قالت إنها “ستحاصر” القصر الرئاسي في العاصمة الخرطوم، للمطالبة بالحكم المدني، في تطور هو الأول من نوعه منذ انطلاق الفعاليات الاحتجاجية المناهضة لانقلاب عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
البيان الصادر عن التنسيقيات لجان مقاومة أم درمان أشار إلى أن “جميع مواكب أم درمان ستتوجه في مليونية السبت، عند الواحدة ظهرًا بالتوقيت المحلي، لمحاصرة القصر الرئاسي في الخرطوم”، فيما “حددت 4 مسارات للموكب تشمل نقاط حشد، وهي موقف مواصلات جاكسون، ومسجد فاروق، وصينية (دوران) القندول، ومول الواحة (مركز تجاري).
وتتصاعد الاحتجاجات المناهضة لحكم العسكر في السودان يومًا تلو الأخر، في ظل الإصرار على عودة الجنرالات لثكناتهم وتقديم المتورطين في قتل الأبرياء من المدنيين لمحاكمات عاجلة، هذا في الوقت الذي يهدد فيه الجيش بالتصدي لما أسماه “محاولات جرجرة البلاد للفوضى”، الأمر الذي أثار قلق البعض، في الداخل والخارج، من صدام مرتقب بين الثوار وقوات الأمن، وهو ما دفع السفارة الأمريكية في الخرطوم لحث رعاياها “تجنب السفر غير الضروري، والوجود في مواقع الحشود والمظاهرات”، داعية “توخي الحذر في محيط التجمعات الكبيرة أو الاحتجاجات”.
غلق الجسور وقطع الاتصالات
كعادتها، لا تملك السلطات السودانية إزاء كل فاعلية احتجاجية سوى التضييق والعرقلة عبر غلق الجسور ووضع المتاريس ونشر أفراد الأمن بشكل مكثف على مخارج ومداخل الطرق الرئيسية، ففي بيان لها مساء أمس الجمعة، أعلنت لجنة أمن ولاية الخرطوم (تضم الجيش، وقوات الدعم السريع، والشرطة، وجهاز المخابرات العامة) أنه “في إطار خطة تأمين الخرطوم وحماية المواقع السيادية والاستراتيجية بوسط المدينة، وجهت بإحكام قفل الكباري النيلية، عدا جسري سوبا والحلفايا، اعتبارًا من مساء الجمعة”.
اللجنة حذرت من أي خروج عن النص بحسب نص بيانها، لافتة إلى أن الاقتراب والمساس بالمواقع السيادية والاستراتيجية بوسط الخرطوم مخالف للقوانين، وأنه “سيتم التعامل مع الفوضى والتجاوزات”، مع التأكيد في الوقت ذاته على حق السودانيين في التظاهر السلمي.
المتظاهرات رفعن شعار “الاغتصاب لن يوقفنا”، مؤكدات على أن “نساء السودان أقوى”، وذلك ردًا على الانتهاكات التي مارستها قوات الأمن بحقهن في تظاهرات الأحد
كما قطعت السلطات وسائل الاتصالات في الساعات الأولى من صباح اليوم، وفق شهود عيان أفادوا بأن خدمات الإنترنت تعطلت في العاصمة الخرطوم، وهناك صعوبات في استخدام وسائل الاتصال التقليدية، وهو الأمر المتعارف عليه عشية وصبيحة كل فاعلية يتم الإعلان عنها بصورة رسمية، رغم عدم جدواه بحسب التجارب السابقة.
ثمن فادح دفعه السودانيون جرًاء تمسكهم بمطالبهم التي يأتي على رأسها إسقاط الانقلاب وتسليم السلطة للمدنيين، حيث أعلنت لجنة الأطباء، أمس الجمعة، عن ارتفاع عدد قتلى الانقلاب منذ 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إلى 48 قتيلًا، وذلك في بيان لها تعليقًا على وفاة المواطن حمدي بدرالدين أحمد الفكي (35 عامًا)، إثر “إصابته برصاص حي في الرأس من قبل قوات السلطة الانقلابية خلال مشاركته في مليونية 19 ديسمبر في مواكب محلية الخرطوم”.
محاصرة القصر… تطور نوعي
تتزامن مليونية السبت، مع مرور شهرين على انقلاب البرهان، الذي أطاح فيه بمكتسبات ثورة ديسمبر 2018، وجمّد العمل بالوثيقة الدستورية المبرمة في أغسطس/آب 2019، والتي تعد المرجعية السياسية الأصلية للثورة، الأمر الذي أضفى نوعًا من الخصوصية لتلك الفعالية التي يرجح أن تكون ذات تأثير وحضور قوي وفعال وهو ما يمكن قراءته من ردود الفعل الاستباقية إزاءها.
وتشهد الاحتجاجات هذه المرة تطورًا لم تعرفه من قبل، فلأول مرة تكون الدعوة لمحاصرة القصر الرئاسي، إذ كان الأمر مقتصرًا في السابق على الميادين العامة والاقتراب من الجسور المؤدية للقصر الجمهوري في قلب العاصمة من أجل توصيل رسائل سياسية أكثر منها ثورية، لكن هذه المرة كان بيان تنسيقيات المقاومة واضحًا: “جميع المواكب ستتوجه في مليونية السبت، عند الواحدة ظهرًا بالتوقيت المحلي، لمحاصرة القصر الرئاسي في الخرطوم”.
يسير الحراك الشعبي السوداني بمتوالية هندسية محسوبة بدقة، مستخدمًا أوراق الضغط التي بحوزته باحترافية سياسية تبرهن على حجم الوعي الذي بات عليه الثوار، مستفيدين بالطبع من أخطاء الماضي، ومتعلمين من دروسه، في ظل هرولة عسكرية لتشتيت الانتباه وإثناء الشارع عن المضي قدمًا في طريقه، وذلك عبر بث الفتن وبذور التشكيك وضرب اللحمة الوطنية بشعارات طائفية وقبلية.
وبدا قلق العسكر يتصاعد من هذا التطور الذي يشهده الحراك الثوري وهو ما تترجمه التصريحات والشعارات والبيانات الصادرة عن جنرالات الانقلاب، العازفين بين الحين والأخر على وتر الانتقال الديمقراطي للسلطة، وعدم الرغبة في اعتلاء المشهد، والتأكيد على أن دور الجيش حماية الثورة وليس الاسئثار بالحكم، لكنها الشعارات التي ما عادت تنطلي على الشارع السوداني الذي كفر بالعسكر والموالين لهم بعد سقوط الأقنعة المزيفة، والكشف عن أطماعهم في الحكم وإزاحة المدنيين، والانقلاب على إرادة الشعب.
مشاركة نسائية.. الاغتصاب لن يوقفنا
تطور آخر تشهده مواكب الثوار مؤخرًا، يتعلق بالمشاركة النسائية الكثيفة، فإن كانت المرأة أحد المشاركين في حراك ديسمبر/كانون الأول 2018 إلا أنها باتت اليوم ضلعًا أصيلًا من أضلاع الثورة، بعدما تحولت إلى رقم مؤثر في المعادلة، وهو ما استفز العسكر، فكان الرد بالتهديد والترهيب وصولًا إلى الاغتصاب والاعتقال.
الخميس الماضي خرجت بعض المظاهرات النسائية المحدودة في مسيرات بشوراع مدن أم درمان والخرطوم بحري ومنطقة “الكلاكلة” بدعوة من جميعات حقوقية، للتنديد بجرائم الاغتصاب والعنف الجسدي التي تعرض لها بعض المشاركات في احتجاجات الأحد 19 من الشهر الجاري، أمام القصر الجمهوري في العاصمة.
المتظاهرات رفعن شعار “الاغتصاب لن يوقفنا”، مؤكدات على أن “نساء السودان أقوى”، وذلك ردًا على الانتهاكات التي مارستها قوات الأمن بحقهن في تظاهرات الأحد، مجددين دعوتهن للمشاركة في كافة الاحتجاجات المستقبلية، وعلى رأسها مليونية اليوم، للدفاع عن حقوق المرأة ومكتسبات الثورة، مرددين هتاف “يسقط حكم العسكر”.
يعلم العسكر جيدًا أن الزود عن مكتسباتهم، ليس حفاظًا على مناصب سياسية أكثر منه دفاعًا عن حياتهم بالكلية، بعدما تلوثت أيدهم بدماء الأبرياء من المدنيين
بدورها نددت “حركة النساء السودانيات (حركة حقوقية مستقلة) بما أسمته “العنف الممنهج على الثائرات السودانيات” والذي يهدف إلى مصادرة حقهم في التعبير وإقصائهم وإبعادهم عن ساحات العمل العام، مستنكرين ما قامت به سلطات الأمن التي وصفتها الحركة بـ “قوات الإحتلال” من إغتصاب وعنف جنسي وجسدي ولفظي في موكب 19 ديسمبر، مطالبة بالتحقيق الفوري في هذه الانتهاكات.
الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أدانت في بيان مشترك، الخميس الماضي، وقعت عليه كذلك كل من بريطانيا وكندا وسويسرا والنرويج، استخدام العنف الجنسي “سلاحًا لإبعاد النساء عن المظاهرات وإسكات أصواتهن”، داعين إلى “إجراء تحقيق كامل ومستقل” محذرين من مصادرة حقوق المرأة بالترهيب وتضييق الخناق.
من جانبها كشفت رئيسة وحدة مكافحة العنف ضد المرأة التي تتبع وزارة التنمية الاجتماعية السودانية، سليمة إسحاق، أن الوحدة وثقت 8 حالات اغتصاب، منها حالة واحدة ببلاغ رسمي بينما حصلت باقي الحالات على مساعدات طبية ودعم نفسي، وذلك خلال حديثها لـ”بي بي سي عربي” فيما دعت مفوضية حقوق الانسان التي تتبع الحكومة السودانية النساء اللواتي تعرضن للانتهاكات إلى التقدم ببلاغات رسمية حتى لا يفلت الجناة من العقاب.
أما المتحدثة باسم مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ليز ثروسيل، فأشارت إلى ورود تقارير “مثيرة للقلق” بتعرّض فتيات لعنف جنسي وتحرّش أثناء فرارهن من محيط القصر الرئاسي في الخرطوم، لافتة أن المكتب تلقى 13 ادعاء اغتصاب واغتصاب جماعي بالإضافة إلى تقارير عن تحرّش قوات الأمن جنسيًا بنساء خلال محاولتهن الفرار، مناشدة بضرورة فتح تحقيق سريع ومستقل وشامل في كافة تلك الادعاءات.
سيناريوهات الصدام
تتصاعد مخاوف الصدام إزاء التصعيد الثوري، لاسيما وأن المؤسسة العسكرية وعلى لسان المستشار الإعلامي للبرهان، قالت إن الجيش سيحافظ على الأمن القومي وينحاز إلى تطلعات الشعب للديمقراطية، في رسالة اعتبرها البعض تحذيرية ردًا على دعوات محاصرة القصر الجمهوري وتقديم المشاركين في الانقلاب لمحاكمات عاجلة.
رئيس الوزراء، عبدالله حمدوك، الذي لم يعلق على مواكب الأحد الماضي، كان قد تراجع عن استقالته التي لوح بها للضغط على العسكر لمنحه الصلاحيات الكاملة لتشكيل حكومة تكنوقراط تميل إلى المسار الديمقراطي بعيدًا عن مخطط الجنرالات في الإجهاز على آخر مكاسب الثورة من خلال تشكيل حكومة موالية.
الكفة تميل يومًا تلو الأخر لصالح الشارع، الذي أجبر المجتمع الدولي والعديد من القوى والكيانات الحزبية والثورية للاصطفاف خلفه، هذا بخلاف حمدوك الذي يحاول مغازلة الثوار بين الحين والأخر بعدما فقد حاضنته السياسية ويعاني من عزلة منذ اتفاقه مع البرهان في 21 نوفمبر/تشرين الماضي، والذي عاد بمقتضاه إلى منصبه مرة أخرى بعد وضعه قيد الإقامة الجبرية في مكان غير معلوم قرابة شهر.
تلك الوضعية تنذر حتمًا بصدام ربما يقود البلاد إلى نفق مظلم جديد من الاحتراب الأهلي، إن لم يتم تدارك الأمر باتفاق سياسي يلزم العسكر بالعودة لثكناتهم وتسليم السلطة للمدنيين وتحقيق الانتقال للحكم بصورة سلسلة غير دموية
وفي المقابل يواجه البرهان ورفاقه تقزيمًا واضحًا في حضورهم الجماهيري، وثقلهم الإقليمي والدولي، بعد كشف النقاب عن مخططهم للاستيلاء على السلطة والإطاحة بالمكون المدني بزعم فشله في إدارة المرحلة، وهو ما دفعهم للتراجع خطوات للوراء نسبيًا لعبور تلك الموجة المرتفعة من الانتقادات والهجوم.
يعلم العسكر جيدًا أن الزود عن مكتسباتهم، ليس حفاظًا على مناصب سياسية أكثر منه دفاعًا عن حياتهم بالكلية، بعدما تلوثت أيدهم بدماء الأبرياء من المدنيين، وباتوا في مرمى المطالبة بمحاكمات عاجلة، ربما تزج بهم في السجون ما تبقى من أعمارهم، وهو الأمر الذي ربما يجعلهم أكثر شراسة في التصدي لأي محاولة ثورية من شأنها إسقاطهم بصورة نهائية من خارطة السلطة.
تلك الوضعية تنذر حتمًا بصدام ربما يقود البلاد إلى نفق مظلم جديد من الاحتراب الأهلي، إن لم يتم تدارك الأمر باتفاق سياسي يلزم العسكر بالعودة لثكناتهم وتسليم السلطة للمدنيين وتحقيق الانتقال للحكم بصورة سلسلة غير دموية، فهل ينتصر الجنرالات لمصلحة بلادهم على حساب أهوائهم الخاصة؟ الإجابة تحملها الأيام القادمة، مع الوضع في الاعتبار أن الشارع بزخمه وحراكه سيظل العامل الوحيد في تغليب كفة مدنية الدولة في مواجهة عسكرتها.