ترجمة وتحرير: نون بوست
في كانون الأول/ ديسمبر، منح اجتماع ممثلي حركة طالبان وممثلي جمهورية أفغانستان المدعومة من الولايات المتحدة في مكان سريّ في قصر شمال باريس، أملًا بالتوصل إلى اتفاق سلام يمكن أن يضع حدا لهذه الحرب المستعصية.
في عشاء فرنسي خال من لحم الخنزير، جلس ممثلو حركة طالبان، التي تكبّدت الهزائم لاسيما بعد زيادة الرئيس الأمريكي أوباما عدد القوات الأمريكية في البلاد، على نفس الطاولة مع أمراء الحرب الأفغان ونشطاء المجتمع المدني وبرلمانيات. وفي جلسة رسمية عُقدت في قصر دي شانتيه، نقل المبعوثون رسالة مكتوبة من الزعيم المؤسس للحركة رجل الدين، الملا محمد عمر.
ورد في هذه الرسالة تأكيد على أن طالبان لن تسعى إلى التفرّد بالحكم وأنها تهدف إلى صياغة دستور جديد يُمهّد الطريق لتقاسم السلطة في الحكومة المقبلة”. وعندما عاد ممثلو الحكومة الأفغانية إلى كابول تحمّس الكثيرون للتحول الجذري الذي شهدته حركة طالبان التي بدا أنها نأت بنفسها عن النظام الصارم الذي حكم أفغانستان في التسعينيات.
على مدى السنوات التسع التالية، استمرت طالبان في طمأنة المجتمع الدولي برسائل تصالحية بينما كانت على الصعيد المحلي تخوض حربًا دموية على بالتوازي مع الجهود الدبلوماسية لضمان تحقيق هدفها الرئيسي المتمثل في الانسحاب العسكري للولايات المتحدة.
أوضح سفير طالبان المعين حديثًا لدى الأمم المتحدة، سهيل شاهين، خلال مقابلة مع صحيفة “وول ستريت جورنال” قبل ستة أسابيع من استيلاء طالبان على كابول والإطاحة بالنظام والتفرد بالحكم: “احتكار السلطة نهج فاشل لهذا نريد أن نتشارك القيادة”، مضيفًا “لقد أظهرت التجارب السابقة فشل هذا النهج في النهاية دون إرساء السلام الدائم”.
طوال تاريخها، تحدت أفغانستان المحاولات الأجنبية لإعادة تشكيل البلاد، بدءا من الإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر مرورًا بالاحتلال السوفيتي في الثمانينات وصولا إلى التجربة الأمريكية الفاشلة لبناء الدولة.
كشفت دراسة ركّزت بالأساس على أسباب انهيار جهود السلام الأمريكية وانسحاب بايدن من أفغانستان وتراجع النفوذ الأمريكي على المستوى العالمي، أن إتقان طالبان للعبة الدبلوماسية هو السبب الرئيسي لكل هذه الإخفاقات.
كان نفاد صبر الولايات المتحدة المتزايد مع أطول حرب خارج حدودها الدافع نحو تنظيم هذه المحادثات – وهو الأمر الذي ساهم في مزيد تعنت طالبان ورفضها تقديم أي تنازلات. أشار زلماي خليل زاد، الذي شغل منصب كبير المفاوضين الأمريكيين في كلتا الإدارتين، إلى أن “الرئيس الحالي جو بايدن وسلفه دونالد ترامب منحا الأولوية بشكل واضح إلى الانسحاب من البلاد وليس التوصل إلى تسوية سياسية، وهذا الأمر عزز نفوذ حركة طالبان”.
بحثًا عن مخرج، ارتأى المسؤولون الأمريكيون أنه من المناسب تلميع صورة طالبان مع المبالغة في تصوير قوة جمهورية أفغانستان التي أحيوها. وإدراكًا منها لهذه المساعي، تمكنت قيادة طالبان من إخفاء نواياها الحقيقية من خلال استخدام لهجة ودية مطمئنة مع الدبلوماسيين والمفاوضين الأجانب.
والسؤال المطروح هو ما إذا كان بإمكان القوى الغربية تطبيق الدروس التي تعلمتها من الإخفاقات السابقة في محاولتها لدفع الحركة الإسلامية إلى تبني سياسات أكثر اعتدالًا. تشير التجارب السابقة إلى أن طالبان لن تُقايض بسهولة ما تتبعه من تقاليد منذ زمن بعيد بالدعم المالي من الغرب ومكانة في المجتمع العالمي.
لا يزال بعض المسؤولين الأمريكيين والأفغان السابقين يعتقدون أن حركة طالبان البراغماتية إلى حد ما التي تعاملوا معها كانت تتسم ببعض الصدق وأن التوصل إلى حل تفاوضي كان من الممكن أن يحافظ على الأقل على بعض الإنجازات التي تحققت بفضل الجهود الدولية التي استمرت 20 سنة في أفغانستان. وهم يجادلون بأن عناد الرئيس أشرف غني أدى في نهاية المطاف إلى نسف هذه الجهود وتقوية عناصر طالبان الأكثر تشددًا.
عدم قدرة القوات المسلحة الأفغانية على القتال بمجرد تراجع الدعم الأمريكي، تسبب في تفككها خلال شهر آب/ أغسطس، مما سمح لطالبان بالسيطرة على جميع عواصم مقاطعات البلاد تقريبًا والوصول إلى ضواحي كابول بعد أسبوع واحد فقط. وانهيار الهياكل الحكومية المتبقية بعد فرار غني من البلاد في 15 آب/ أغسطس حوّل موضوع المحادثات المدعومة من الولايات المتحدة نحو عملية انتقال سلمية للسلطة.
تتكون الحكومة الأفغانية الجديدة التي تشكلت في أيلول/ سبتمبر بشكل شبه حصري من رجال الدين البارزين في حركة طالبان. امتنع النظام الجديد حتى الآن عن استضافة الجماعات الإرهابية بشكل علني أو ارتكاب الفظائع التي لطالما أدانها الرأي العام الدولي في الماضي، إلا أنه حدّ بشدة من حقوق المرأة وحظر تعليم الفتيات بعد الصف السادس في معظم المقاطعات وهمّش المجتمعات العرقية التي ليست جزءًا من البشتون الذين يمثلون قاعدة نفوذها.
في المحادثات المستمرة مع الولايات المتحدة وحلفائها في الدوحة، تسعى حكومة طالبان الجديدة للحصول على اعتراف دبلوماسي ورفع العقوبات الأمريكية وإلغاء تجميد أكثر من 9 مليارات دولار من أصول البنك المركزي الأفغاني في الخارج. ومن بين شروط واشنطن الرئيسية تشكيل حكومة أكثر شمولية في كابول تحترم حقوق الإنسان وتفي بالعهود التي قطعتها طالبان في قصر دي شانتيه.
أوضح توماس ويست، المبعوث الأمريكي الخاص لأفغانستان، الذي يقود هذه المحادثات: “ينبغي أن يسعى نظام طالبان إلى الحصول على الشرعية داخل أفغانستان قبل السعي للحصول على اعتراف دولي”.
الطريق إلى الدوحة
في سنة 2001، سعت حركة طالبان للتفاوض مع واشنطن والحكومة الأفغانية فورًا بعد الغزو الأمريكي الذي أطاح بحكومتها. أراد حامد كرزاي، الرئيس الجديد لأفغانستان الذي عينته واشنطن آنذاك، أن تشارك حركة طالبان في مؤتمر بون الذي انعقد تلك السنة وأعلن في أعقابه عن النظام السياسي الجديد للبلاد. لكن واشنطن، التي كانت لا تزال تحت تأثير صدمة هجمات 11/9 التي دبّر لها أسامة بن لادن، استخدمت حق النقض ضد تلك الخطة. ثم سعت إلى تعقب مفاوضي طالبان المحتملين من خلال قوات العمليات الخاصة الأمريكية ووكالة المخابرات المركزية، وزُجّ بهم في معتقل غوانتانامو في كوبا.
تغيرت مواقف واشنطن وحلفائها تجاه مسألة إشراك طالبان في السلطة مع تزايد قوتها في العقد التالي. بحلول سنة 2009، سيطرت طالبان مرة أخرى على أجزاء كبيرة من الريف وهو ما دفع أوباما إلى الترفيع في عدد القوات الأمريكية إلى أكثر من 100 ألف جندي للدفاع عن جمهورية أفغانستان – علما بأنه وعد بسحب جميع القوات الأمريكية بعد 18 شهرًا.
بحلول الوقت الذي كانت فيه واشنطن مستعدة للتفاوض، رفض قادة طالبان الجلوس مع إدارة كرزاي، واصفين إياها بأنها دمية أمريكية تفتقر إلى الشرعية أو الاستقلالية. ومن جانبه، اعترض كرزاي على دخول الولايات المتحدة في محادثات مع طالبان استبعدت الحكومة الأفغانية المنتخبة ديمقراطيًا. وافقت إدارة أوباما على عدم مناقشة مستقبل أفغانستان من دون مشاركة الحكومة الأفغانية، بيد أنها دعمت فكرة إنشاء بعثة سياسية لطالبان في الخارج لتسهيل عملية التواصل الدبلوماسية.
بدأت الثقة تتشكل بين الولايات المتحدة وحركة طالبان من خلال التفاوض على صفقات تكتيكية، مثل تحرير خمسة من كبار قادة طالبان الذين أمضوا أكثر من عقد في غوانتانامو مقابل تسليم طالبان باو برغدال، وهو رقيب في الجيش الأمريكي أسِر من قبل قوات طالبان. وفي سنة 2013، افتتح ممثلو طالبان، الذين كان بعضهم يعيش في الدوحة منذ سنوات، رسميًا مكتبًا سياسيًا هناك.
كانت طالبان ترفض إجراء محادثات مباشرة مع الحكومة في كابول، في الوقت الذي بدأ مبعوثوها المقيمون في الدوحة يعقدون اجتماعات مع نخب سياسية أفغانية، أعقبتها محادثات مماثلة في أوروبا وروسيا والصين.
على مر السنين، سمح مكتب طالبان في الدوحة، في ظل إعفاء أعضائه من عقوبات السفر التي تفرضها الأمم المتحدة، لحركة طالبان بالتواصل مع الحكومات في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي أكسبها قبولًا متزايدًا كقوة سياسية مشروعة.
يقول رحيم الله محمود، وهو قائد مخضرم، كان حاكما لولاية وردك بعد استيلاء طالبان على السلطة، وهو حاليا نائب قائد الفيلق العسكري في قندهار، أن قادة طالبان نجحوا في إقناع العالم بأن الحركة ليست إرهابية كما يصورها الأمريكان.
سنة 2018، ألغى الرئيس ترامب، الذي طالما انتقد الحرب على أفغانستان، الشرط الذي وضعته الولايات المتحدة منذ فترة طويلة، أي عدم الدخول في مفاوضات مع طالبان إلا بحضور الحكومة الأفغانية. تم تعيين السفير الأمريكي السابق في كابول والأمم المتحدة، خليل زاد، مبعوثًا خاصًا، له حرية التفاوض في أي صفقة محتملة.
وُلِد خليل زاد في أفغانستان سنة 1951، وتعرف على أشرف غني منذ أن ذهب كلاهما إلى الولايات المتحدة في رحلة تبادل طلابي. درس الرجلان لاحقًا في الجامعة الأمريكية في بيروت ثم نالا درجة الدكتوراه من الولايات المتحدة، خليل زاد من جامعة شيكاغو، وغني من جامعة كولومبيا. أما علاقاته مع طالبان فتعود إلى التسعينيات، عندما عمل مستشارا لشركة “يونوكال” النفطية، والتي سعت لبناء خط أنابيب عبر أفغانستان.
يقول مسؤول كبير في وزارة الخارجية شارك في عملية تعيينه: “تم تفويضه لمساعدتنا في إيجاد طريقة تمكننا من المغادرة بسرعة ودون استخدام أي قوة، ولكي نوهم أنفسنا أننا انتصرنا”.
تولى غني الحاصل على الجنسية الأمريكية رئاسة أفغانستان سنة 2014 خلفا لكرزاي، وهو مؤلف مشارك لكتاب بعنوان “إصلاح الدول الفاشلة” ومن الأكاديميين البارزين السابقين في مراكز التفكير الاستراتيجي في واشنطن، وكان يتفاخر أمام المسؤولين الأفغان الآخرين بفهمه للسياسة الأمريكية، لكنه لم يعلم أنه أخطأ هو وكبار أعضاء إدارته بقراءة النوايا الأمريكية وتشبثوا بأوهام مفادها أن واشنطن لن تتخلى عن كابول.
كانت الولايات المتحدة تتحدث عن نيتها مغادرة أفغانستان منذ أكثر من عقد. يقول كبير المفاوضين الأفغان نادر نادري: ” الموقع الجغرافي المميز لأفغانستان جعلها دائمًا محل اهتمام القوى العالمية. اعتقد بعض زملائنا حتى الأشهر الأخيرة أن القوات الأمريكية لن تغادر أبدًا”.
يتفق خليل زاد الذي ترك الحكومة الأمريكية في تشرين الأول/ أكتوبر مع هذا الرأي، قائلاً: “كانت الحكومة في كابول تعيش في عالم افتراضي”، واصفا الأمر بأنه “سوء تقدير كبير”.
يضيف خليل زاد أن الاعتقاد الخاطئ بأن وكالة الأمن القومي الأمريكية لن تسمح لترامب أو بايدن بالتخلي عن أفغانستان اقترن بخطأ استراتيجي آخر؛ وهو التفاؤل المفرط للمسؤولين الأفغان بشأن القوة العسكرية للحكومة الأفغانية؛ ويقول: “لم يقيّموا قواتهم بشكل صحيح، ولم يدرك أحد منهم أن هذه القوات ستنهار بتلك السرعة”.
أدى هذان الخطآن في التقدير إلى بطء محادثات السلام بين الحكومة الأفغانية بقيادة غني وحركة طالبان، والتي كانت تهدف إلى التوصل لاتفاق محتمل لتقاسم السلطة، كان سيترتب عليه حتمًا فقدان غني لمنصبه. من غير الواضح إلى أي مدى كانت طالبان ستساوم، ولكن مع تحقيق الحركة مكاسب عسكرية كبيرة، تغيرت حساباتهم أيضًا. على مدى الأشهر التي قضاها قادة الحركة في الدوحة، انتقل محور المحادثات من تقاسم محتمل للسلطة إلى التفكير في “حكومة شاملة” تهيمن عليها طالبان، ثم استسلام لشروط الحركة.
وقالت حبيبة سرابي، عضو الحكومة الأفغانية في فريق المفاوضات مع طالبان والحاكمة السابقة لإقليم باميان: “لم يكن غني مرنًا، ولهذا السبب دخلنا هذا النفق المظلم، كان يريد أن تنضم طالبان إلى حكومته وهو من يترأس البلاد، لكن حسم تلك المسألة في مفاوضات السلام كان مستحيلا، ويعود ذلك إلى هوسه بالقوة والسلطة”.
تضيف سرابي، التي تعيش حاليا في المنفى مثل معظم كبار المسؤولين والمفاوضين في الحكومة الأفغانية، أن جزءا من اللوم يقع على خليل زاد، لأنه شدد باستمرار على أن طالبان مفاوض معتدل وأنها تتطلع إلى انتقال سلمي للسلطة، لكن ذلك كان سرابا.
كتب خليل زاد مقال رأي سنة 1996 أكد فيه أن “طالبان لا تمارس نموذج الراديكالية المعادي للولايات المتحدة”، مضيفا أنه يؤمن بنزاهة مفاوضي طالبان وأن الخطأ في التوصل إلى تسوية مناسبة يقع على الجانبين، ولا يمكن لوم أحد الجانبين أكثر من الآخر.
انسحاب أم سلام؟
لبدء محادثات جادة، كان خليل زاد بحاجة إلى مسؤول من طالبان يتمتع بمكانة مرموقة، ووقع الاختيار على الملا عبد الغني برادر. كان برادر أحد مؤسسي الحركة، وعمل نائبًا لوزير الدفاع في نظام طالبان السابق، وأعاد تشكيل قيادة الحركة بعد الغزو الأمريكي. كان براغماتيًا إلى حد ما، لا سيما أنه حاول فتح مفاوضات مع الولايات المتحدة سنة 2001، ودخل في اتصالات سرية مع حكومة كرزاي سنة 2010. كان أحد أعضاء طالبان القلائل الذين ينتمون لعشيرة بوبولزاي الأرستقراطية، وهي العشيرة التي ينتمي إليها كرزاي، وقد تم القبض عليه من عملاء باكستانيين وأمريكيين في مدينة كراتشي في وقت لاحق من تلك السنة، وظل في السجون الباكستانية منذ ذلك الحين.
في أيلول/ سبتمبر 2018، قاد وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو، وفداً إلى إسلام أباد لبدء تعاون مشترك والمطالبة بالإفراج عن برادر. وافقت باكستان وانتقل برادر إلى الدوحة بعد أسابيع لتولي رئاسة المكتب السياسي لطالبان، وأعطى زعيم الحركة، هبة الله آخوند زاده، الذي لم يكن يظهر في الإعلام، أوامره لبرادر ببدء المفاوضات.
تعثرت المفاوضات في البداية، وواجهت بعض العراقيل، وكان أبرزها نفاد صبر الرئيس الأمريكي السابق ترامب ورغبته في إعادة قوات بلاده إلى الولايات المتحدة، الأمر الذي أثار مخاوف المفاوضين الأمريكيين من أن ترامب قد يعلن في أي لحظة انسحابًا غير مشروط.
مع شروع ممثلي الولايات المتحدة وممثلي طالبان في مفاوضات الدوحة، حاول السفير الأمريكي في كابول، جون باس، لعدة أشهر إقناع الرئيس غني بتشكيل فريق مفاوضات شامل يكون جاهزًا لبدء محادثات مع طالبان، لكن الرئيس الأفغاني رفض بحجة أن هذا الأمر يقوّض سيطرة إدارته على المفاوضات.
يقول خليل زاد إن “نموذج التفاوض الذي تبناه الرئيس غني هو ما أطاح بحكومته، وأن ما كان يتوجب عليه فعله هو أن يتفاوض مع هبة الله بشكل شخصي، لكن هذا بالطبع كان مستحيلاً منذ البداية.”
بحلول صيف 2019، تمكن فريق خليل زاد من تحديد الخطوط العريضة للاتفاق مع برادر في قطر. لكن سرعان ما عدَلت طالبان فجأة عن قرارها وصارت تطالب بالإفراج عن السجناء، وهو تنازل كبير جديد. للخروج من هذا الطريق المسدود، رضخت الولايات المتحدة ووقّعت على بند يطالب كابول بإطلاق سراح ما يصل إلى 5000 سجين من عناصر طالبان المحتجزين في أفغانستان. وقد سُمح لغني بقراءة مسودة الاتفاقية دون الاحتفاظ بنسخة منها، ومنع من الوصول إلى المرفقات السرية للاتفاق.
في ذكرى أحداث 9/11، وبينما الاستعدادات على قدم وساق لاستضافة ترامب حفل توقيع كبير، انفجرت سيارة مفخخة بالقرب من السفارة الأمريكية والمجمعات الأمنية الأفغانية في كابول، ما أسفر عن مقتل 12 شخصًا من بينهم جندي أمريكي. وقد أعلنت حركة طالبان مسؤوليتها عن الهجوم. عبّر ترامب في تغريدة عن غضبه مؤكدا أنه “ألغى” المحادثات مع الحركة الإسلامية وألغى معها خططه لعقد اجتماع مع قادة طالبان وغني في كامب ديفيد.
يبدو أن هذا التطور في الأحداث منح غني أملًا في مراجعة الإدارة الأمريكية لمسألة الانسحاب التي كان يسارع ترامب إلى تنفيذه. اشتكى مستشاره للأمن القومي، حمد الله محب، من أن أمريكا “تقوم بتبييض طالبان” لأنها سئمت الحرب وطالب بإعادة مراجعة الاتفاق. من جهته، لم يكن نادري متفائلا بشأن ذلك. في أيلول/ سبتمبر، شاهد مسلسلا على منصة نتفليكس حول سقوط فيتنام الجنوبية، ولاحظ أن ما حصل للحكومة في سايغون تكرر مع حكومة كابول، حيث أن كلتيهما أبقته الولايات المتحدة على الهامش.
في واشنطن، أعرب جون بولتون، مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب آنذاك، عن رأي مماثل. قال بولتون، الذي استقال في ذلك الشهر بسبب خلافات مع ترامب حول سياسة أفغانستان: “كنا في الأساس نبيع الحكومة. تشبيه فيتنام صحيح بالفعل. في كلتا الحالتين، يمكن للجميع وكل طرف معني آخر أن يرى أن الهدف الرئيسي للولايات المتحدة هو الانسحاب”.
لم يدم تعليق المعاملات بين الطرفين طويلًا. لقد أراد ترامب مغادرة أفغانستان قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وفي غضون أسابيع، بدأ دبلوماسيون أمريكيون محادثات لمبادلة أستاذين بالجامعة الأمريكية في كابول احتجزتهما طالبان كرهائن مقابل أنس حقاني، الشقيق الأصغر لنائب زعيم طالبان سراج الدين، الذي اعتقلته الحكومة الأفغانية. وقد سبق أن صنفت الولايات المتحدة شبكة حقاني منظمة إرهابية منذ 2012 بسبب ارتباطها بالقاعدة.
بحلول شباط/ فبراير 2020، وافقت طالبان على وقف قصير لإطلاق النار بهدف إظهار حسن النية فوافق ترامب التوقيع على الاتفاق الذي سمي رسميًا بـ “اتفاق إحلال السلام في أفغانستان”، وذلك على الرغم من أن طالبان لم تلتزم بوقف العمليات العسكرية ضد الحكومة الأفغانية وقوات الأمن.
في نص الاتفاق، وعدت الولايات المتحدة بانسحاب عسكري كامل بحلول أيار/ مايو 2021 مقابل تعهّد طالبان بمنع الجماعات الإرهابية من استخدام الأراضي الأفغانية لتهديد الدول الأخرى. وافقت حركة طالبان على فتح محادثات سلام مع حكومة غني. لم يكن الانسحاب الأمريكي مشروطًا بنجاح هذه المفاوضات وذلك يعزى جزئيًا إلى أن واشنطن لم تكن تريد منح غني حجة لإبطاء عملية الانسحاب.
في شباط/ فبراير 2020، توجه بومبيو إلى الدوحة لحضور حفل التوقيع. قبل دقائق من وصوله إلى قطر، نظمت حركة طالبان مسيرة انتصار رفعت فيها الأعلام البيضاء لإمارتهم الإسلامية مما أثار مخاوف في أوساط المضيفين القطريين من احتمال حدوث إحراج قد يتسبب في إلغاء الاتفاق في اللحظة الأخيرة. وكان القطريون على استعداد لمنع طالبان من دخول منتجع شيراتون الفاخر بالأعلام، وقد حثّوهم على تركها في سياراتهم.
صافح بومبيو زعيم طالبان برادر بعد أن فشل مساعدوه في فصله عن طالبان في الغرفة. وقع خليل زاد نيابة عن الولايات المتحدة بينما ألقى بومبيو بعد ذلك خطابًا كئيبًا أمام الصحفيين في غرفة أخرى. شعر أعضاء فريق خليل زاد بالارتياح لأن ذلك اليوم قد مرّ دون وقوع حوادث وظلوا بالخارج حتى وقت متأخر في الدوحة، وشربوا كوكتيلات باهظة الثمن.
في البداية، قاوم غني الالتزام الذي يفرضه اتفاق الدوحة الذي وقّعت عليه الولايات المتحدة دون موافقته، والذي تضمن بندا يقضي بإفراج كابول عن الآلاف من عناصر طالبان. كما استمر في رفض الضغط الأمريكي لتشكيل فريق تفاوض يضم خصومه السياسيين في كابول، مثل كرزاي ومنافسه في الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 عبد الله عبد الله. ويعود ذلك إلى أن أي اتفاق لتقاسم السلطة مع المتمردين سيكون مشروطا بتنحي غني. كارهًا لترك منصبه، ظل الرئيس الأفغاني يأمل بدلاً من ذلك في أن تعكس واشنطن قرار الانسحاب، خاصةً إذا فشل ترامب في نيل ولاية ثانية.
عندما سئل ما هو أكبر خطأ ارتكبته الإدارة الأفغانية، جاب محب، الذي كان مستشارًا للأمن القومي في حكومة غني إلى أن فرّ كلاهما من كابول في 15 آب/ أغسطس: “نحن، الحكومة الأفغانية، كان يجب أن نقرأ ما بين السطور. لقد كان انسحابًا وليس اتفاقًا للسلام. لم تكن القيم الديمقراطية ذات أولوية كما كنا نعتقد. ولم تكن مكاسب السنوات 20 الماضية ذات أولوية بقدر ما اعتقدنا أيضًا”.
كان قادة الجناح العسكري في طالبان مستائين في البدء من اتفاق الدوحة. من قطر، سافر الملا محمد فاضل، مفاوض طالبان وكان بين السجناء الخمسة السابقين في غوانتانامو الذين تم الإفراج عنهم خلال صفقة تبادل معتقلين بين الولايات المتحدة وطالبان مقابل الرقيب بالجيش الأمريكي برغدال، عبر مختلف الجبهات لحضور اجتماع مع قادة المتمردين من جميع أنحاء أفغانستان لتوضيح شروطهم.
بالنسبة لبعض قادة طالبان، الذين كانوا ملتحين ويرتدون العمائم السوداء، كانت الاتفاقية ساذجة- وذلك حسب ما رواه بعض الحاضرين. كيف كان بإمكانهم الوثوق بأن الولايات المتحدة ستغادر أفغانستان بالفعل السنة القادمة؟ لماذا يجب أن يتوقفوا عن مهاجمة القوات الأمريكية مقابل احتفاظ واشنطن بحقها في شن غارات جوية عليهم؟
قال محمود، القائد العسكري للمنطقة الشرقية لطالبان آنذاك، الذي حضر الاجتماع في مدينة موسى قلعة بولاية مقاطعة هلمند: “أثناء المفاوضات زعم الكثيرون أن الولايات المتحدة تخدعنا، وأن كل ما يحدث ليس سوى فخ لنا”. وأضاف أن “العديد من القادة العسكريين أرادوا استئناف الهجمات على الأمريكيين. وقد حزن الانتحاريون، على وجه الخصوص، للغاية: لقد بكوا وحزنوا على عدم نيلهم الشهادة”.
مع ذلك، أشار محمود إلى أن حجة المفاوضين السياسيين من طالبان بأن واشنطن ستفي بالتعهدات التي قطعتها في الدوحة وتنسحب من أفغانستان هي التي سادت في نهاية المطاف. وكانت الرسالة التي حملها إلى قواته “إنها معاهدة انتصار”.
بعد ذلك بفترة وجيزة، نشرت دائرة الدعاية في طالبان تقويما للعام الإسلامي 1442 الذي بدأ في شهر آب/ أغسطس سنة 2020. وظهرت فيه يد أمريكية وأخرى من طالبان توقعان اتفاق الدوحة – الذي وُصف بأنه “اتفاق إنهاء الغزو” – وتحرر أفغانستان من قيود الاحتلال الأجنبي. وفي اقتباس من القائد الأعلى لطالبان، الملا هبة الله، يقول فيه: “لا نريد احتكار السلطة”.
التراجع
عدم إحراز تقدم في أفغانستان قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية جعل صبر ترامب ينفذ، لذلك أمر في حزيران/ يونيو بالتقليص مجددا في عدد القوات الأمريكية إلى 4500 دون تقديم طالبان أي تنازلات.
في تلك المرحلة، لم تفِ طالبان بأي من وعودها الرئيسية باستثناء وقف الهجمات على القوات الأمريكية، مع رفض مقابلة وفد الحكومة الأفغانية. وفي محاولة للإفراج عن السجناء وكسر الجمود، قدّم برادر تأكيدات شفوية للمفاوضين الأمريكيين بأن وتيرة العنف ستنخفض بمجرد إطلاق سراح 5000 سجين من عناصر طالبان.
أرسل خليل زاد برقية إلى واشنطن أكد فيها أن برادر وعد بوقف إطلاق النار شبه الكامل. سلم روس ويلسون، الذي كان أكبر دبلوماسي أمريكي في كابول حينها، الرسالة إلى أشرف غني. قال ويلسون إن وقف إطلاق النار الموعود “كان جزءا من صفقة كانت تُعتبر قرارا صعبا للغاية لأسباب وجيهة”. وافق غني على مضض على إطلاق سراح سجناء طالبان على مراحل مقابل قيام الحركة بإخلاء سبيل 1000 موظف حكومي.
مع نهاية عملية الإفراج في أيلول/ سبتمبر 2020، اجتمعت طالبان ومفاوضون أفغان أخيرا في منتجع شرق بالدوحة لإجراء محادثات سلام. يطل المنتجع على شاطئ يرتاده السياح بالبيكيني، وتعلو أصوات موسيقى البوب الصاخبة التي تتسلل إلى غرف أعضاء وفد طالبان. طلبت كابول من وفد الحكومة الأفغانية أن إجراء المفاوضات بعيدا عن الشاطئ.
كان الوفدان يتناولان الإفطار في أماكن منفصلة ونادرا ما كانوا يجتمعون. كان كبار القادة في وفد طالبان يظهرون نادرا في منتجع شرق.
بينما بدأت الوفود الأفغانية مفاوضاتها، قام فريق عسكري أمريكي برصد مستويات العنف في أفغانستان لتقييم ما إذا كانت طالبان تلتزم بما وعد به برادر. وثق الفريق ارتفاعا في هجمات المتمردين، وأطلع العقيد برادلي موسيس الذي شغل منصب نائب القائد العسكري الأمريكي في أفغانستان، الجنرال سكوت ميللر، البيت الأبيض ووزارة الخارجية ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية وغيرها من الوكالات الحكومية الأمريكية الأخرى، بشكل منتظم على هذه البيانات المثيرة للقلق حول تفاقم العنف.
وقال العقيد: “لم تنخفض هذه العمليات أبدا”، مضيفا أنه عندما تتم مواجهة طالبان بهذه المعطيات، ستدعي أن هذه الهجمات نُفذت من قبل مخربين أو مجرمين.
في الوقت نفسه، أصدرت الحكومة الأفغانية تعليمات لقواتها الموجودة في قواعد ومواقع معزولة، بوقف العمليات الهجومية خلال المفاوضات، والاكتفاء بالعمليات الدفاعية. وقال الجنرال إمام نزار بهبود، الذي كان يقود فيلق قندهار في الجيش الأفغاني، إن فقدان المبادرة أعطى للمتمردين تفوقا كبيرا.
وأضاف: “هذا يعني أنه كان عليك أن تقف هناك وتنتظر حتى تهاجمك طالبان. مهما حدث، يتعين عليك الانتظار فحسب. كانت هناك خسائر كبيرة. كانت القوات منهكة، ولم يصل أي دعم من كابول، وفقدوا ثقتهم في الحكومة المركزية”.
بحلول شهر تشرين الأول/ أكتوبر، كانت طالبان قد جمعت قوة هائلة في الجنوب وشنت هجوما واسع النطاق على لاشكر جا عاصمة إقليم هلمند. تدخلت الولايات المتحدة بغارات جوية لمنع سقوط المدينة. بعد أسابيع، اتجهت طالبان نحو قندهار، واستولت على مقاطعة أرغانداب التي توجد على مقربة من ثاني أكبر مدينة في البلاد. أوقفت الغارات الجوية الأمريكية المكثفة تقدم طالبان، وتبادل الطرفان الاتهامات بانتهاك اتفاق الدوحة.
مع ذلك، تمسك قادة طالبان بوعودهم بعدم شن أي هجوم على أهداف أمريكية، وأظهروا مدى قدرتهم على ضبط مقاتليهم عندما أرادوا ذلك. على الرغم من تعرضهم لخسائر فادحة جراء الغارات الجوية، إلا أن قادة طالبان رأوا أنه ليس من مصلحتهم تعطيل الانسحاب الأمريكي الذي كان يبدو حتميا.
قال محمد فاروق أنصاري، عضو اللجنة العسكرية لطالبان، التي تضم نحو 50 من كبار القادة من جميع أنحاء البلاد: “لقد أقنعنا مقاتلينا بأننا لن نطلق رصاصة واحدة على الأمريكان خلال المفاوضات. لقد أثبتنا أنه يمكننا الالتزام بوعودنا. لقد أكدنا لبعضنا البعض في ذلك الوقت أنه كان انتصارا. وحينما بدأ الأمريكيون بإغلاق مواقعهم وإخلاء قواعدهم، علمنا أن هذا البلد هو بلدنا، عاجلا أم آجلا”.
لا يزال المسؤولون الأمريكيون يتساءلون عما إذا برادر قد تلاعب بهم، أو ما إذا كان كبير مفاوضي طالبان نفسه قد استُخدم من قبل القيادة الحقيقية للحركة لتهدئة الوضع مع الولايات المتحدة.
يقول كارتر ملكاسيان، الذي كان يمثل هيئة الأركان المشتركة في فريق خليل زاد: “كان من الصعب دائما معرفة ما إذا كانت طالبان جادة بشأن تسوية سياسية أم لا. من المرجح أنهم لم يقصدوا ذلك أبدا. لقد كانوا يقولون ما نود سماعه. لعلنا نعلم، كما علمنا سابقا من خلال المفاوضات مع الفيتناميين، أنه لم تكن لديهم أي نية للتنازل”.
أُجريت الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر وخسر فيها ترامب. بينما كان يكافح لتغيير النتائج، أصدر أوامره للبنتاغون بسحب القوات المتبقية من أفغانستان وعين وزيرا جديدا للدفاع، وهو كريس ميللر، أحد المشككين في الحرب، وخوله لتنفيذ الخطة. أقنع ميللر، إلى جانب مستشارين آخرين، الرئيس بالإبقاء على قوة صغيرة من 2500 جندي في أفغانستان لتفادي انهيار البلاد، الأمر الذي زعموا أنه سيضر ترامب إذا ما أراد الترشح مرة أخرى لمنصب الرئاسة.
في ذلك الوقت، نشر خليل زاد مقترحات لتشكيل حكومة انتقالية جديدة تضم طالبان وحكومة غني، لكنه لم يوضح من سيقود الحكومة.
وقال ميللر إن الهدف غير المعلن للاحتفاظ بقوة صغيرة في كابول هو في نهاية المطاف إلزام غني بعقد صفقة لتقاسم السلطة. وأضاف: “لنكن صادقين، ربما كان سيكون لدى طالبان نحو 14 مقعدا في مجلس الوزراء. وربما كان سيكون لدى أشرف غني أربعة مقاعد”.
كان الرئيس الأفغاني يأمل في عدول الجانب الأمريكي عن فكرة الانسحاب من أفغانستان بعد هزيمة ترامب، وكان مقتنعا جدا بأن إدارة بايدن الجديدة لن تستمر في اتفاق الدوحة، حتى أنه رفض مقابلة خليل زاد عندما زار أفغانستان في كانون الثاني/ يناير. وفي وقت لاحق، رفض غني خطة خليل زاد لتقاسم السلطة، التي سُربت إلى وسائل الإعلام، وظل يرفض المشاركة في محادثات الدوحة.
تقول فاطمة جيلاني، المفاوضة ضمن وفد الحكومة: ” كانت طالبان أكثر مرونة بكثير. تتطلب المفاوضات الأخذ والعطاء للتوصل إلى تسوية مقبولة للجميع. لكننا لم نفعل ذلك، كنا نحاول كسب الوقت في انتظار قدوم بايدن. لا أعرف لماذا كانوا يعتقدون أن بايدن سيُحدث معجزة”.
قدم خليل زاد اقتراحه إلى برادر الذي وافق على النظر فيه لكنه لم يقدم أي رد رسمي.
في ذلك الوقت، لم يكن لدى قادة طالبان، الذين شجعتهم نجاحاتهم العسكرية والانسحاب الأمريكي الوشيك، رغبة كبيرة في تقاسم السلطة مع أعدائهم. قال أنصاري، عضو اللجنة العسكرية لطالبان: “تتمثل استراتيجية المحتل، عندما يُجبر على الخروج من بلد ما، في ترك عملائه حتى لا يفقد نفوذه. لقد أراد الأمريكيون الإبقاء على حكومة موازية هنا، حتى يكون لطالبان والآخرين سلطات متساوية. لم نتفق مع هذا منذ البداية. قلنا إننا حكام البلاد. هذا البلد هو وطننا ونحن لا نقبل حاكما ثانيا في بلدنا”.
سرعان ما تبددت الآمال التي كان يعلقها غنيّ على الرئيس بايدن، الذي دعا إلى الانسحاب من أفغانستان عندما كان نائبًا للرئيس أوباما، لأنه أظهر استعداد ضئيلا للسير عكس الاتجاه التي سلكه ترامب فيما يتعلق بالاتفاق مع طالبان.
بعد بضعة أشهر من تولى بايدن منصبه، عقد مسؤولو الوكالات سلسلة لا نهاية لها من الاجتماعات حول كيفية التخفيف من مخاطر الانسحاب. وحسب تقديرات البيت الأبيض، كان التخلي عن اتفاق الدوحة ليجبر طالبان على استئناف الهجمات ضد القوات الأمريكية مما يتطلب الترفيع في عدد القوات في ظل غياب بوادر لنهاية الصراع. مع محادثات السلام التي أشرف عليها خليل زاد في الدوحة، خلص البيت الأبيض إلى أن فرص التوصل إلى حل كانت ضئيلة للغاية، وأنه لا يوجد أي سبب لتبرير تأخير الانسحاب.
حسب مسؤول رفيع المستوى في إدارة بايدن: “لم تكن هناك أدلة كثيرة على تعامل أي من الجانبين مع المفاوضات في الدوحة بحسن نية”.
في 12 نيسان/ أبريل، رفضت طالبان المشاركة في مؤتمر سلام حاولت الولايات المتحدة عقده في تركيا برعاية الأمم المتحدة خوفًا من إجبارها على تقديم أي تنازلات.
بعد يومين، أعلن بايدن انسحاب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول 11 أيلول/ سبتمبر بغض النظر عن توصل طالبان والحكومة الأفغانية إلى اتفاق سياسي أو أي تطورات أخرى على أرض الواقع، في تجاوز واضح للشروط المتفق عليها في اتفاق الدوحة لسنة 2020.
أثناء تواجده في غرفة المعاهدات بالبيت الأبيض، أكد بايدن أنه “لن نستعجل في الانسحاب من أفغانستان وإنما سنفعل ذلك … بمسؤولية وتأنٍ وأمان”، مضيفًا أن “توفير المزيد من القوة العسكرية الأمريكية لا يمكنه إنشاء أو المحافظة على حكومة أفغانية دائمة”.
بعد ظهر اليوم التالي، دعا غني كبار مسؤولي الأمن الأفغان لمناقشة “الخبر الصادم”. تساءل رئيس أركان الجيش عن كيفية استمرار الجيش الأفغاني في استعمال طائراته بعد مغادرة المستشارين والمقاولين الأمريكيين. وحسب أحد المسؤولين المشاركين في الاجتماع، كان غني هادئًا ويعمل على تأمين الدعم الأمريكي المستمر.
كان نائب الرئيس أمر الله صالح يعمل عن كثب مع وكالة المخابرات المركزية، ولم يستطع تصديق إعلان بايدن عن سحب جميع القوات الأمريكية من البلاد. وقد تساءل عما إذا كان إعلان بايدن مجرد تكتيك للضغط على كابول وإجبارها على تقديم تنازلات لطالبان في مفاوضات الدوحة.
في تصريح له للصحيفة، قال صالح – رئيس المخابرات الأفغانية السابق – إن محاوريه الأمريكيين كانوا يؤكدون حتى اللحظة الأخيرة أن واشنطن لن تتخلى عن إدارته. وأضاف أنه بعد سقوط كابول في يد طالبان: “سألت الدبلوماسيين ومسؤولي المخابرات والجنرالات وأعضاء من النخبة الأمريكية في عدة مناسبات عما إذا كانت الولايات المتحدة ستسلّم أفغانستان إلى طالبان. كانت الإجابات بالنفي الصريح ‘لا’، وحتى مع تقديم توضيحات للفروق الدقيقة في وقت لاحق، كانت تعني لا”.
بينما استمر أعضاء الدائرة الداخلية لغني في التمسك بالأوهام، توصل القادة الميدانيون في الجيش والشرطة الأفغانية إلى نتيجة مختلفة: كانت النهاية قريبة. كان البقاء يعني إبرام صفقات خاصة مع طالبان، في حين أن الاستعداد للأسوأ مستقبلًا كان يعني بيع وحداتهم من الذخيرة والطعام والوقود في السوق السوداء.
بحلول شهر أيار/ مايو، بدأت طالبان السيطرة على المناطق الواحدة تلو الأخرى دون اللجوء إلى القتال في غالب الأحيان، وسمحت للقوات الحكومية بالانسحاب دون اشتباك مع تسليم أسلحتهم والحصول على بعض المال من أجل العودة إلى ديارهم. وتبعًا للالتزامات الشفوية التي أعطيت لخليل زاد، لم يستولِ المتمردون على أي عاصمة من عواصم المقاطعات البالغ عددها 34 في البلاد. وفي الدوحة، طرح مفاوض طالبان محمد نبي عمري، وهو سجين سابق آخر في غوانتانامو منتسب إلى شبكة حقاني، اقتراحًا انتقاليًا في الدوحة مع دائرة ضيقة من ممثلي الحكومة الأفغانية.
بموجب الاتفاق المقترح، سيصبح المرشد الأعلى لطالبان الملا هبة الله، رئيسًا لدولة أفغانستان، وستتحول البلاد إلى ملكية دستورية تدار بموجب دستور 1964 الصادر عن الملك ظاهر شاه، مع برلمان منتخب. قالت جيلاني، التي شاركت في هذه المفاوضات، مازحةً إن الملا هبة الله – الذي لم يظهر علنًا لسنوات ويفترض أنه ميت – رئيس مثالي للدولة. من جانبه، أكد لها محاورها من طالبان أن هبة الله لا يزال على قيد الحياة. واتفق الجانبان على ضرورة الإبقاء على الاتفاقية سرّية.
ذكرت جيلالي أن مفروضي طالبان “لم يكونوا سهلي المراس، وأن هناك أشياء لن يتنازلوا عنها أبدًا. لن يقبلوا بجمهورية أفغانستان الاسلامية. لن يقبلوا أبدًا بدستورنا. لكن يمكننا إنقاذ عَلمنا و60 بالمئة على الأقل من قيمنا”.
يعتقد محمد معصوم ستانيكزاي، رئيس فريق التفاوض الأفغاني في الدوحة – وهو وزير دفاع سابق ورئيس مخابرات، الذي كان يُطلع غني على المحادثات بانتظام – أن الخطة التي قدمها عمري كانت مجرد فكرة فردية وليست اقتراحًا قويًا مدعومًا من قبل كامل قيادات طالبان.
في أواخر حزيران/ يونيو، سافر غني إلى واشنطن في محاولة أخيرة منه لإقناع الولايات المتحدة بضرورة مواصلة تقديم الدعم لحكومته. وافق بايدن على استقبال غني في البيت الأبيض شريطة قدومه مع الدكتور عبد الله، ثم حمل لقب رئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية في أفغانستان. وقد وعده بايدن قائلا: “سوف نبقى معك. وسنبذل قصارى جهدنا لضمان امتلاكك للأدوات اللازمة”.
أعلن السيد غني أن قرار الانسحاب الذي اتخذه الرئيس الأمريكي في أبريل/ نيسان “جعل الجميع يعيدون حساباتهم. إن الشعب الأفغاني في سعيه للدفاع عن الجمهورية، يشبه الرئيس لينكولن لحظة تنصيبه في 1861. إنه اختيار للقيم، إما تبني قيم نظام إقصائي أو نظام شمولي”.
خلال تلك الرحلة، التقت جيلاني بالرئيس غني في واشنطن وأطلعته على المقترحات التي نوقشت مع عمري وبقية مفاوضي طالبان. وقد أشارت إلى أن غني شجّعها على مواصلة المحادثات. وتذكرت قائلة: “اعتقدت، أنه قرر أن يكون مثل دي كليرك بالنسبة لأفغانستان، وليس مثل صدام أو القذافي. كان من الواضح أن هذه هي النهاية، ولكن كان يمكن أن تكون نهاية لائقة. على الأقل، لم تكن المؤسسات والجيش والشرطة لتنهار”.
ولكن في الأسابيع الموالية، واصل غني المراوغة لكسب الوقت. تعليقا على ذلك، قالت جيلاني: “لقد حاول التشبث بمنصبه، الأمر الذي جعل الأمور أكثر صعوبة”.
في تموز/ يوليو، زار مبعوث أجنبي كبير غني في كابول. أظهر غني روح التحدي وتفاخر بقوة القوات الحكومية المحتشدة في المدينة، مشيرا إلى أن طالبان ستخسر 50 ألف عنصر إذا حاولت مهاجمة العاصمة. وحسب هذا المبعوث، فإن غني أوصى حرسه الشخصي بإعطائه حقنة قاتلة في حال حاصرته طالبان.
سافر الجنرال كينيث ماكنزي، قائد القيادة المركزية الأمريكية، إلى كابول في وقت لاحق من ذلك الشهر للقاء غني، ووعد علنًا بدعم القوات الأفغانية بضربات جوية مكثفة. في ذلك الوقت قال: “انتصار طالبان ليس حتميًا”. وعلى انفراد، أخبر الجنرال ماكنزي الرئيس غني أن بايدن لا يزال يقيّم خيارات مواصلة تقديم الدعم الجوي للقوات الأفغانية من القواعد الموجودة في الخليج العربي بعد الانسحاب.
انهيار الجمهورية
في أوائل آب/ أغسطس، جمع رئيس اللجنة العسكرية لطالبان، الملا عبد القيوم ذاكر، القادة العسكريين في معقل المتمردين “أريوب زازي” في ولاية بكتيا الشرقية. وأعلن أن وقت الاستيلاء على عواصم المقاطعات قد حان، لكن على طالبان أن تأخذ وقتها وألا تتعجل.
وقال الحاج قاري عثمان ابراهيمي، عضو اللجنة العسكرية لطالبان، الذي حضر الاجتماع: “تقرر الاستيلاء على المدن بحذر، واستهداف المحافظات التي من السهل دخولها”، وأضاف: “أمِرنا ألا ندخل كابول، لأننا وعدنا الأمريكيين بذلك”.
وكما تبين لاحقًا، كانت جميع المدن تقريبًا فريسة سهلة لمقاتلي طالبان، وبعد أسبوع واحد فقط، وصلوا إلى أعتاب العاصمة الأفغانية. عقد الدكتور عبد الله جوْلة أخرى من الاجتماعات في الدوحة وعاد إلى كابول ليُطلع غني وغيره من القادة السياسيين على الترتيبات الانتقالية التي من شأنها إنقاذ بعض مؤسسات الجمهورية الأفغانية على الأقل، ويخبره أن ذلك ما زال ممكنًا. كان لدى طالبان حافز قوي للتعاون. وقد طمأنت الولايات المتحدة المتمردين بأن هذه الحكومة الانتقالية سوف تحصل على اعتراف دبلوماسي وعلى مليارات الدولارات من احتياطيات البنك المركزي الأفغاني والمساعدات الخارجية المستمرة.
خطط الدكتور عبد الله وكرزاي وأمير الحرب الإسلامي قلب الدين حكمتيار، وغيرهم من القادة الأفغان للسفر إلى الدوحة لإبرام اتفاق، لكنهم كانوا أولا بحاجة إلى التزام من الرئيس غني بالتنحي. لكن مرة أخرى، ماطل الرئيس الأفغاني لبعض الوقت، وساوم على تشكيل الوفد وأصر على مشاركة مساعديه المقربين مثل محب. كان من المقرر مبدئيًا أن يغادر الوفد يوم 16 آب/ أغسطس.
ذهب أمين كريم، العضو البارز في حزب حكمتيار والمستشار السابق لغني، لمقابلة الرئيس الأفغاني في القصر في ذلك الأسبوع. “انتهت اللعبة!”، هكذا بدأ غني الاجتماع باللغة الانجليزية والاضطراب واضح عليه متهمًا كريم بالانهزامية وأكد له أن كابول آمنة وأن عشرات الآلاف من قوات النخبة من جميع أنحاء البلاد مستعدون لحماية العاصمة الأفغانية.
في 14 آب/ أغسطس، التقى المبعوث الأمريكي ويلسون بالرئيس غني، وبحلول ذلك الوقت، كانت المدن الرئيسية قندهار وهرات وغزنة قد سقطت بين أيدي طالبان. ذكر المبعوث الأمريكي أنه كان مصدومًا من الهدوء الذي بدا عليه الزعيم الأفغاني. دعي المراسلون لتغطية الاجتماع على غير العادة. لم يكن لدى قادة طالبان في الجبال المحيطة بالمدينة أدنى فكرة بأنهم بعد ساعات قليلة سيكونون مسيطرين على العاصمة الأفغانية.
قال محمد سالم سعد، القائد البارز في كتيبة بدري التابعة لشبكة حقاني والذي أشرف على عمليات المسلحين داخل العاصمة: “كنا على يقين من أن المقاطعات ستسقط دون أي مقاومة، لكننا لم نكن متأكدين بشأن كابول، الخداع من قبل الحكومة أعطانا إحساسًا بأنه سيكون هناك قتال”، وأضاف: “كنا قلقين من أن تدمر معركة كابول المدينة”.
في صباح يوم 15 آب/ أغسطس، بدأ بعض المسلحين المتعاطفين مع طالبان بالظهور في المدينة. وبناء على طلب من واشنطن، أصدرت طالبان بيانًا في الدوحة طالبت فيه جميع وحدات طالبان بالبقاء بعيدًا عن العاصمة. أمر ويلسون جميع الموظفين المتبقين بالانتقال من مجمع السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء بكابول إلى المطار، الذي أصبح تحت سيطرة الجيش الأمريكي لاحقًا.
طُلب من الموظفين الباقين ترك أمتعتهم الشخصية خلفهم ولم يُسمح لهم إلا بحقيبة واحدة. ترك ويلسون بدلاته وأحذيته في السفارة وحزم الضروريات فقط، بما في ذلك كتابا تسلمه للتو عبر موقع أمازون. أثناء صعوده على متن المروحية للذهاب إلى المطار، أخبره الطيارون أن غني قد شوهد وهو يفر من أفغانستان بطائرة هليكوبتر قبل حوالي 30 دقيقة.
ذكر ويلسون أن غني لم يلمّح بأنه سوف يغادر البلاد. وقال غني، في بيان صدر بعد أسابيع من الإمارات العربية المتحدة، حيث يقيم الآن، أن رحيله كان غير متوقع، وأنها كانت الطريقة الوحيدة لتجنب حدوث معركة وإنقاذ كابول من الدمار.
تجمع كبار ممثلي طالبان في الطابق 21 من وزارة الخارجية القطرية، في العاصمة الدوحة، للاجتماع مع المبعوث الخاص لقطر الذي أشرف على الشؤون الأفغانية، مطلق القحطاني، أين شاهدوا غير مصدقين نبأ هروب غني، وتساءلوا عن مدى رغبة الجيش الأمريكي في تأمين كابول لمدة أسبوعين لضمان انتقال منظم.
التقى برادر وخليل زاد والجنرال ماكنزي ومسؤولون آخرون في الدوحة بعد ظهر ذلك اليوم. قال خليل زاد: “كان الوضع ينبئ بفوضى سياسية قادمة، كان القانون والنظام ينهاران في كابول”. وعقب هروب غني، هرع باقي وزراء الجمهورية الأفغانية، بمن فيهم وزير الدفاع، إلى المطار للفرار من البلاد.
لم تكن إدارة بايدن مهتمة بتحمل مسؤولية مفتوحة الطرف عما قد يحدث في العاصمة الأفغانية المحاصرة ومصير سكانها البالغ عددهم خمسة ملايين نسمة. وحسب خليل زاد، رد الجنرال ماكنزي على اقتراح طالبان قائلا: “هذا ليس عملي، وظيفتي هي سحب قوّاتي بأمان، إذا تعرضنا لهجوم، سوف ندافع عن أنفسنا”.
على الساعة الثامنة مساءً، كانت وحدات طالبان التي ينتمي معظمها لشبكة حقاني بدأت تزحف نحو العاصمة معززة الصف الأول من العناصر السرية التي استولت على مواقع استراتيجية من المدينة.
بدلاً من التفاوض على نقل السلطة مع الحصول على الاعتراف الدولي، الذي نوقش مع الولايات المتحدة، وجدت طالبان نفسها تدير حكومة بخزائن فارغة وخاضعة لعقوبات أمريكية ومحرومة من الحصول على مقعد في الأمم المتحدة.
بالنسبة لبرادر، الذي كان من المتوقع على نطاق واسع أن يصبح الرئيس الجديد لحكومة طالبان، فقد تم تهميشه ليكون واحدًا من بين ثلاثة نواب لرئيس الوزراء، ثم اختفى بعد ذلك عن الأنظار لأسابيع. ولم تعد وعوده الشفوية للمفاوضين الأمريكيين وغيرهم من المفاوضين الدوليين، مثل الالتزام بضمان تعليم الفتيات، ملزمةً للنظام الأفغاني الجديد. بدلاً من ذلك، برز عناصر شبكة حقاني والقادة العسكريون الجنوبيون بقيادة الملا محمد يعقوب نجل الملا عمر، ليكون لهم السلطة الحقيقية في كابول.
تقويم طالبان الإسلامي، المنشور حديثًا، الذي يبدأ في آب/ أغسطس 2021، لم يعد يحمل وعد الملا هبة الله بعدم السعي لاحتكار السلطة، وإنما وعد بإرساء نظام إسلامي بحت. ترك الأمريكيون وراءهم كومةً من عربات همفي المحطمةً، وأسطول طائرات من طراز شينوك يحلق بعيدًا بأعلام ممزقة، لتكون بذلك الرسالة واضحة.