ستمنح “إسرائيل” ابتداء من الأسبوع المقبل إقامات مؤقتة لطالبي اللجوء من السودان، امتثالًا لحكم محكمة العدل العليا التي حكمت في أبريل/ نيسان الماضي بمنح السودانيين المتقدمين بطلبات لجوء، بحلول نهاية ديسمبر/ كانون الأول، إقامة لمدة 6 أشهر، وفق ما ذكرت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”.
وستكون الأولوية في منح الإقامات لطالبي اللجوء من محافظات السودان المنكوبة بالحرب، وعلى رأسها دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، الذين تقدموا بطلب اللجوء قبل يونيو/ حزيران 2017، وسيتمُّ تجديد الإقامة على أساس فردي، فيما أشارت الصحيفة أنه من المقرر أن تنشر هيئة السكان القائمة الكاملة لطالبي اللجوء المؤهّلين للإقامة المؤقتة، بداية الأسبوع القادم، وفقًا لحكم محكمة العدل العليا.
ويتصدّر السودان قائمة الدول الأفريقية الأكثر طلبًا للجوء لـ”إسرائيل”، فمن بين 28 ألفًا إجمالي طلبات لجوء، هناك 6400 سوداني و300 من الكونغو، وتعيش النسبة الغالبة من هؤلاء اللاجئين في تل أبيب، والبقية يعيشون في مناطق مختلفة من الداخل المحتل، ومن المتوقع أن يستفيد من الحكم الأخير حوالي 2440 سودانيًّا.
ويأتي القرار في وقت يشهد فيه السودان اضطرابات أمنية وسياسية جرّاء الانقلاب العسكري الذي قامَ به قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، الأمر الذي دفع الكثير من السودانيين للتفكير في مغادرة البلاد لحين استقرار الأوضاع، فهل تكون تل أبيب وجهتهم لا سيما بعد تطبيع العلاقات بين البلدَين؟
التطبيع.. بوابة السودانيين نحو تل أبيب
حين وقّعت السلطة الانتقالية السودانية في 6 يناير/ كانون الثاني الماضي اتفاق أبراهام، لتطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، استبشر البعض بإمكانية أن تفتح تل أبيب أبوابها أمام طالبي اللجوء من السودانيين، بجانب الراغبين في الانتقال للحياة فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما عبّر عنه كثيرون وقتها.
السفارة الأميركية في الخرطوم على حسابها على “تويتر” علّقت على هذه الخطوة قائلة: “نهنّئ الحكومة الانتقالية على توقيعها اليوم إعلان اتفاقات أبراهام التي من شأنها مساعدة السودان أكثر في مسار الانتقال نحو الاستقرار والأمن والفرص الاقتصادية”، مضيفة أن “الاتفاق يسمح للسودان و”إسرائيل” والدول الأخرى الموقعة على اتفاقات أبراهام ببناء ثقة متبادلة وزيادة التعاون في المنطقة”.
الأزمة الاقتصادية التي يحياها السودانيون هذه الأيام، وحالة الفوضى المتفشية منذ الانقلاب الذي قوبل بحراك شعبي وعصيان مدني أصاب أركان الدولة بالشلل التام (كنوع من الضغط على الانقلابيين)، زادتا من مخاوف السواد الأعظم بشأن مستقبل حياتهم داخل هذا البلد الذي بات مفتوحًا على كافة السيناريوهات، خاصة مع إصرار البرهان وعناد جنرالاته، وكلها عوامل جعلت من السودان بلدًا طاردًا للسكان.
تصاعد المخاوف
وعلى النقيض من ذلك، يرى آخرون أن تطبيع العلاقات ربما يكون عاملًا سلبيًّا للسودانيين الراغبين في السفر إلى “إسرائيل”، أو المقيمين هناك بصفة اللجوء، وهو ما توثِّقه العديد من الشواهد التي فرضت نفسها منذ الإطاحة بنظام عمر البشير في أبريل/ نيسان 2019 وحتى اليوم، ومعظمها مؤشرات تحمل مخاطر أكثر منها رسائل طمأنة.
فبعد عزل البشير استدعت سلطات الهجرة في وزارة الداخلية الإسرائيلية العشرات من السودانيين طالبي اللجوء السياسي، لإقناعهم بالعودة إلى بلادهم بعد سقوط نظام الإنقاذ الذي بسببه تقدم العشرات بطلبات لجوء، فيما أشار مصدر بالداخلية الإسرائيلية أن هناك نحو 2445 سودانيًّا تقدموا بطلبات رسمية للحصول على حق اللجوء، لكن طلباتهم رُفضت.
لم يقف السودانيون عند حاجز الرفض الرسمي، فكان التوجه إلى جمعيات حقوق الإنسان التي قامت بدورها بتولّي مهمة الدفاع عنهم، وتقدمت بعرائض تخاصم الداخلية أمام محكمة العدل الدولية التي حكمت بأحقيتهم في منح صفات اللجوء، بعد إلزام الحكومة بإعادة فحص أوراقهم والموافقة على من تنطبق عليه شروط اللجوء.
شهدت الأشهر القليلة الماضية استدعاء العشرات من السودانيين لمكاتب سلطات الهجرة في وزارة الداخلية بحكومة الاحتلال وحملت تلك اللقاءات ضغوطًا نوعية لحثّ طالبي اللجوء على العودة لبلادهم، حيث روى أحد اللاجئين أن الموظفين تعاملوا معه كأنهم محقِّقون في الشرطة، وراحوا يوجّهون إليه الأسئلة المتتالية: “السودان بات في سلام، فلماذا لا تعود إليه؟ أي حزب سوداني تدعم؟ أجب بنعم أو لا؟ هل تعرف أن النظام في السودان اليوم يقيم علاقات مع “إسرائيل”؟ لماذا تترك عائلتك وشعبك؟”.
حاول المواطن السوداني شرح الموقف برمّته لجهات التحقيق الإسرائيلية، وأن الأمر لم يتغيّر كثيرًا، حيث الفوضى الأمنية والسياسية، واستمرار المخاطر ذاتها، لكن المحقّقين لم يصغوا له، فيما أشار آخر ممّن عبروا هذا الاستجواب أن “الهدف كان واضحًا: الضغط علينا حتى نعود من دون أي اعتبار لأوضاعنا، ولما قد يحصل لنا”.
تطبيع سياسي أم أمني؟
أعرب آخرون عن خشيتهم من أن يتحول التطبيع بين البلدَين من تطبيع سياسي اقتصادي إلى تطبيع أمني، إذ إن الغالبية العظمى من المقيمين في “إسرائيل” وطالبي اللجوء من السودانيين على صدام مع السلطة، لا سيما العسكرية، ما يضعهم تحت تصنيف “المعارضين” و”المطلوبين أمنيًّا”.
البعض تساءل: هل تقدم “إسرائيل” -من باب مغازلة سودان ما بعد البشير- على تسليم طالبي اللجوء السودانيين للسلطات الأمنية الانتقالية في البلاد؟ فها هو بريك صالح، المواطن السوداني الذي كان يعيش في غرب دارفور حتى بداية الحرب الأهلية عام 2003، لكنه هاجر إلى ليبيا ثم “إسرائيل” عن طريق مصر، يعبّر عن خشيته قائلًا في حديثه لـ”DW عربي“: “أنا أول من يريد هذا التطبيع ولكن إذا تمَّ ترحيلي فسأكون في خطر بنسبة 100%”، ويضيف: “إذا عدت فسوف أجد أن عائلتي لا تزال تعيش في مخيم للاجئين”.
ما يتخوف منه صالح ينطبق على السودانيين الآخرين في تل أبيب، ممّن يوضِّحون أن سبب وجودهم في “إسرائيل” ليس القطيعة الدبلوماسية مع السودان، لكنها المعاناة التي كانوا يعانون منها هناك، وهي لا تزال قائمة، والمخاطر ذاتها كما هي دون تغيير، ومن ثم إن الاتفاقات الأمنية الموقّعة بين البلدَين ربما تدفع الحكومة المحتلة لترحيل السودانيين قسرًا لبلادهم، وهي الجريمة التي ربما تطيح بحياة المئات وتضع مستقبل عشرات الآلاف من الأُسر في مهبّ الريح.
تحاول تل أبيب قدر الإمكان تعزيز علاقاتها مع عاصمة اللاءات الثلاث “لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع الكيان المحتل”، وربما تجد في ملف اللاجئين ورقة ضغط يمكن توظيفها بين الحين والآخر، كما أنها من المتوقع أن تكون ترمومتر لقياس منسوب وحجم ودرجة حرارة العلاقات الثنائية، ليبقى السودانيون رهينة العلاقات المتوقع أن تتأرجح صعودًا وهبوطًا في ظل الرفض الشعبي لاتفاق أبراهام الموقَّع.
وفي النهاية، لا يمكن قراءة سياسات الاحتلال الإسرائيلي تجاه ملف المهاجرين وتوظيفه لخدمة أجندتها التوسعية الاستيطانية، بمعزل عن عنصريتها الفجًة وسياساتها التي تضرب بمواثيق الإنسانية عرض الحائط، وتغولها الواضح في حق سكان الدولة الأصلييين من الفلسطينيين، فالدولة التي أقيمت بالسلب والنهب والانتهاكات لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تتحول لقبلة سلام تحتضن لاجئ الدول الأخرى، حتى لو دفعت لأجل الترويج لتلك الصورة مئات المليارات وعشرات السنين.