في شهادة لأحد الدعاة السوريين المتواجدين في مناطق سيطرة المعارضة بريف حلب الشمالي، يُدعى أبو إسلام الحموي، قال: “وصل أبو عمشة بفساده المتكاثر كالسرطان لمرحلة لا يصلح معه فيها إلا الاجتثاث من الجذور. أبو عمشة وإخوته فرضوا مكوسًا باهظة على أهالي الشيخ حديد، بلغت 8 دولارات سنويًّا على الشجرة المثمرة، و4 على غيرها، وربع محصول الزيت على كل أرض، عدا عن السرقات والجبايات الأخرى”.
يضيف الشيخ الحموي قائلًا: “إن هواية أبو عمشة هي إطلاق الرصاص على ركبتَي أي عنصر لديه ينزعج منه، وهناك كثير من الذين قُتِلوا تحت التعذيب في معتقلاته دون سبب”، كما ذكر جوانب أخرى من المعاملة اللاإنسانية التي اشتهر بها أبو عمشة، ومن ذلك ابتزاز النساء واغتصابهن، وغيرها من التجاوزات والانتهاكات التي تتمّ على أيادي أحد فصائل الجيش الوطني السوري، وهي فرقة السلطان سليمان شاه.
منذ سنوات والحديث يدور عن الفساد المستشري والتجاوزات التي فاقت الحدّ في بعض فصائل المعارضة السورية المدعومة من تركيا وتحديدًا في المناطق التي فرضت فيها أنقرة سيطرتها بعد معارك درع الفرات وغصن الزيتون في ريف حلب الشمالي.
تعليقًا على الوضع الحاليّ، يقول الناشط السوري خالد الحلبي في حديثه لـ”نون يوست”، إن الأمر لم يعد يطاق في هذه المناطق، خاصة بعد الانتهاكات التي ترتكبها الفصائل العسكرية بحقّ أهالي المدن من فرض الإتاوات وسوء المعاملة من العناصر العسكرية.
يضيف الناشط الذي رفض الكشف عن اسمه الحقيقي خشية الاعتقال، “هذه الانتهاكات تزيد وضع المناطق المحررة سوءًا، علاوة على الوضع الاقتصادي المزري، إذ إنك مضطر للتعامل مع حواجز الفصائل بالمال، ومن لا يملك سندًا أو قريبًا في فصيل من الفصائل يؤكل حقه ولا يستطيع الكلام”.
لجنة كشف الفساد
في يوليو/ تموز الماضي تأسّست غرفة “عمليات عزم” نتيجة لمشاورات كبرى بين فصائل الجيش الوطني في مناطق ريف حلب، وباتت تضمّ الغرفة فصائل مثل الجبهة الشامية وفرقة السلطان مراد، بالإضافة إلى جيش الإسلام وفيلق المجد وفصيل السلطان سليمان شاه، وهو الذي يدور عليه خلاف هذه الأيام.
وتأسست الغرفة، كما تذكر في بيان لها، “لاستهداف الشبكات والخلايا التي تهدد أمن المجتمع”، وبالفعل كانت قد أطلقت أكثر من حملة أمنية لملاحقة تجّار المخدرات والمطلوبين أمنيًّا في مدينتَي أعزاز شمالي حلب وعفرين.
تأزّمت العلاقة بين فصائل “عزم” وفرقة السلطان سليمان شاه، بعد أن ظهرت تسريبات تكشف الفساد والتجاوزات التي يقوم بها قادة الفرقة، إثر ذلك فتحت “عزم” ملف الانتهاكات والتجاوزات بحقّ المدنيين في منطقة الشيخ حديد بريف عفرين، والتي تعدّ معقل الفصيل، ووفقًا لتقارير: “منذ أيام يولي المكتب الأمني في عزم اهتمامًا خاصًّا إلى جانب لجنة مكلفة، لمتابعة ملفات الانتهاكات المعلقة منذ سنوات ضد أبو عمشة وفصيله وعدد من أقربائه”.
صدرت عدة تسجيلات صوتية من شخصيات اعتبارية في المنطقة، منهم الشيخ أحمد الحلوي الذي تحدّث عن “حوادث ابتزاز جنسي، وتسلُّط على رقاب الناس وسلب الناس أرزاقها، وفرض إتاوات على السكان، وحوادث سرقة، واعتقالات من دون تُهم، وتعذيب في سجون يشرف عليها فصيل أبو عمشة”، قائلًا: “إن زوال أبو عمشة دين يُتقرب فيه إلى الله، وفساده لا يُزال إلا بالقتل”.
كثرت الإشاعات أن غرفة “عزم” بدأت حشودها العسكرية للقضاء على فصيل أبو عمشة، لكن ذلك لم يكن صحيحًا إذ إن قيادة “عزم” وحركة ثائرون وفرقة السلطان سليمان شاه اتفقوا على تشكيل لجنة من 3 أشخاص، ومنحهم الصلاحية في استدعاء الشهود والاستماع إليهم، وإصدار الأوامر باعتقال المطلوبين في قضايا انتهاكات الفصيل في منطقة الشيخ حديد وعفرين بشكل عام.
وتتألف اللجنة من عضو المجلس الإسلامي السوري الشيخ عبد العليم العبد الله، والشيخ موفق العمر، والشيخ أحمد العلوان، وبحسب “تلفزيون سوريا” فإن المطلوبين من الفرقة للقضاء يبلغ عددهم 17 شخصًا، بقضايا “مالية وأعراض وسرقات وضرب وعطب مقاتلين بأرجلهم، وإتاوات، وخمر وكفر وتعاطي حشيش”.
يذكر أن “اللجنة المشتركة لردّ الحقوق في عفرين وريفها“، المدعومة من قبل فصائل الجيش الوطني، أجرت خلال الشهور الماضية جولات تفتيشية وتحقيقات في منطقة الشيخ حديد، للاستماع إلى شكاوى المدنيين، وتسجيل الانتهاكات المرتكبة بحقهم، وإفادات الشهود.
ووفقًا للموقع ذاته، أعلنت اللجنة عن انتهاء الجولة التي شملت عددًا من معاصر الزيتون والمزارعين والمجلس المحلي، كما أكّدت اللجنة حلّ كل القضايا المقدمة، بالتعاون مع فرقة السلطان سليمان شاه.
القضايا التي قامت اللجنة بحلّها هي ما يتعلق فقط بزيت الزيتون الذي يتمّ جنيه من المزارعين لصالح فرقة أبو عمشة، لكن الفرقة قامت بعد خروج اللجنة من الشيخ حديد باسترداد كميات الزيت مجددًا من المزارعين.
علمًا أن لجنة “رد المظالم” تشكّلت في عفرين بعد اجتماع ضمَّ فصائل الجيش الوطني السوري مع الجانب التركي في أغسطس/ آب الماضي بدفع من المجلس الإسلامي السوري، على خلفية تكرار الاشتباكات بين مجموعات مسلحة، وازدياد عدد الشكاوى المتعلقة بالاستيلاء على عقارات وفرض الإتاوات على محصول الزيتون.
وقد تمكّنت اللجنة خلال شهورها الأولى من إعادة العديد من الممتلكات إلى أصحابها الأساسيين، كما أصدرت عدة قرارات بمنع فرض الضرائب على الأشجار المثمرة ومواسم الحبوب.
عواقب وخيمة
بدوره قال أحد القادة العسكريين في غرفة “عزم”، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن القضية التي تبحث بها الغرفة الآن متوقفة على مدى استجابة فصيل السلطان سليمان شاه للتحقيقات وتسليم المطلوبين”، وأضاف أن “إنهاء الفصيل المذكور ليس مطروحًا على الطاولة الآن، لأننا لا نريد أن ندخل المنطقة في أتون اشتباكات ستؤثر على المدنيين حتمًا، كما أننا لا نريد العودة إلى زمن الاقتتالات الفصائلية الكبيرة”.
ويذكر القائد، الذي رفض الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، أن مباحثات جرت مع الجانب التركي لبحث القضية، فيما يشير إلى أن “غرفة عزم مهتمة بإنهاء القضية لأنها تمسّها كون الفصيل عضوًا فيها، كما أن الأهالي المدنيين لم يعودوا يحتملون أكثر من ذلك”، وذكر أن “الانتهاكات غير مقبولة من أي فصيل، ونحن الآن في طور إعداد خطة نستطيع من خلالها حفظ ما تبقى من مناطق تحت سيطرتنا تحفظ أمن المواطن وكرامته”.
وذكر المصدر العسكري أن أبو عمشة “تحت ضغط كبير من الفصائل والهيئات المدنية والمجلس الإسلامي السوري لإنهاء المهزلة التي يقوم بها، لكن الجميع يريد أن تحلَّ الأمور بطريقة سلمية، وهو الأمر الذي أصرَّ عليه مفتي الجمهورية أسامة الرفاعي”، لكن المصدر أكّد على أن “عدم الامتثال للجنة ولما سيصدر بعد استماع الشهادات سيكون له عواقب وخيمة على الفصيل وقائده، وسنعمل على استئصاله فورًا”.
من جهته أصدر أبو عمشة قرارًا يقيل شقيقَيه أبو سراج الليزر وسيف الجاسم من منصبيهما، بعد ساعات من اعتقالهما لدى اللجنة، وكانت اللجنة الأمنية التابعة لغرفة عزم قد اعتقلت أشقاء القيادي أبو عمشة إضافة إلى عدد من الإعلاميين في الفرقة، بتهمة الرشوة والفساد في مناطق ريف حلب.
علمًا أن غرفة “عزم” في البداية أحالت ملف فرقة السلطان سليمان شاه إلى المفتي الشيخ أسامة الرفاعي من دون عرضه على القضاء، وهنا برزت أصوات ترفض الفكرة، خاصة أن الأوراق أحيلت للمفتي دون حكم قضائي، وهو أمر يضرب مصداقية القضاء في المنطقة ويضع المفتي في وضع محرج، إضافة إلى “تقزيم دور المفتي وحصره بقاضي شرعي يحكم بخلافات فصائلية”.
في السياق يقول القيادي العسكري في غرفة “عزم” لـ”نون بوست”: “إن التشاور الحاصل مع المجلس الإسلامي ومفتي الجمهورية هو تأكيد على دور المجلس في حل الخلافات الحاصلة وفق حكم الشرع ودون النزوع للأهواء الشخصية، ونحن على تواصل دائم مع الشيخ أسامة الرفاعي لإطلاعه على الموضوع، أما عن قضية رفع ملف أبو عمشة إليه فقد فُهم الأمر بشكل خاطئ، وما حصل هو عرض القضية للمشاورة وليس لإصدار حكم”.
من جهته تحدّث الشيخ أسامة الرفاعي في تسجيل صوتي -استمع إليه “نون بوست”- عن اللجنة التي شُكِّلت من أجل حل القضية “خطوة خطوة”، وحثَّ الرفاعي كامل الأطراف بفتح الطريق للجنة وما سيصدر عنها، كما أكّد على “وقف الاتهامات بين الأطراف وحثّ الجميع على انتظار نتائج التحقيق، متمنيًا الوصول إلى العدالة الكاملة والمطلقة في هذه الأمور”.
فساد متراكم
ينحدر القائد العسكري أبو عمشة، من ريف حماة الشمالي، ومع بداية تحول مسار الثورة إلى السلاح شكّل مجموعة ضمّت عددًا قليلًا من المقاتلين، وفي عام 2013 بدأ العمل ضمن صفوف جبهة ثوار سوريا التي كان يقودها جمال معروف في تلك الفترة.
بعد الخلاف الذي نشب بين جمال معروف وجبهة النصرة، هرب أبو عمشة إلى شمالي حلب، وعملَ هناك قائد مجموعة عسكرية تابعة للجبهة الشامية، ومع إعلان تركيا عن انطلاق معركة غصن الزيتون في عفرين عام 2018، انضمَّ إلى فرقة السطان مراد كقائد مجموعة أيضًا، وبقيَ فيها حتى شكّل لواء السلطان سليمان شاه.
بدأ الجاسم بعد ذلك يظهر بشكل مختلف، حيث أصبح لديه مرافقة وسيارات مصفّحة، وبدأت تُهم الفساد والانتهاكات تحيط به وبأفراد فصيله، وظهرت مقاطع مصوَّرة مع مقاتلين جرحى في الفصيل، ادّعوا أن قائدهم أبو عمشة سرق تعويضاتهم المالية كجرحى بعد إصابتهم في معارك ليبيا ضد قوات خليفة حفتر، وآخر الفضائح كانت لأحد أصهاره الذي سُجن في ليبيا بسبب سرقته مليون و200 ألف دولار.
“عزم” تفتح ملف انتهاكات وجرائم “أبو عمشة” فهل شارفت امبراطوريته على الإنتهاء؟ pic.twitter.com/mo6sLnwUpR
— شبكة شام الإخبارية (@shaamnews) December 25, 2021
في معرض ردّه على الاتهامات التي تطاله، كتب أبو عمشة تغريدات لكنه سرعان ما حذفها، قال فيها إن ما يُنسب إلى فصيله من انتهاكات مجرد “تُهم معلّبة مصنوعة في غرف معينة معلومة من جهات مدلِّسة مرهونة”، مضيفًا أن “وجود الفساد في أيام الحرب والاضطرابات أمر لا غرابة فيه، لأن الهمَّ الأول يكون لمقارعة العدو على الجبهات، وإرجاء الإصلاحات الداخلية إلى وقت يكون الاستقرار فيه أكثر”.
وأوضح أن: “العمل على مواجهة الفساد الداخلي هو من أهم عوامل التماسك الداخلي، ولا يجوز أبدًا أن نغضَّ الطرف عنه، إلا إذا أوقعنا ذلك في مفسدة أكبر فإننا ندفع المفسدة الأكبر بالأصغر ونقدم الضروريات على الحاجيات”، متابعًا: “ثمة سيول من الاتهامات لا نجد لها أثرًا على أرض الواقع، إنما صاغتها أقلام فتنة في دلجة من الليل ممن يملكون نواصي القنوات الإعلامية المأجورة”.
وأشار أبو عمشة إلى أن “معالجة الفساد ومكافحته حريٌّ أن يمسك زمامه وأن يمتطي ركابه المؤسسات الثورية التي انبثقت عن نخب الثورة كمؤسسة القضاء الحر والشرطة العسكرية، وعندما تتم معارضة تلك المؤسسات ويمتنع المعترض بشوكة حينذاك ننبذ إليه على سواء حتى يتم تقويمه على الطريق الحق، أما أن يدعي فصيل أو جهة ما أنهم أمناء الله على خلقه في الأرض فهذا سفه من الرأي وشهوة تمضي بصاحبها إلى حتف أنفه”.
قضية أبو عمشة ليست الأولى ويبدو أنها لن تكون الأخيرة في ملف الانتهاكات والفساد في مدن الشمال السوري، لكن ما يستدعي الوقوف على هذه الحالة أنها وصلت إلى حد خطير لا يمكن تجاهله، فيما يسود الترقُّب الآن في مناطق الشمال لما سيصدر عن اللجنة من أحكام، التي ستكون برسم التنفيذ والتطبيق لدى القوى العسكرية المتبقية التي قالت إنها ستنظر إلى القضايا الأخرى بعد هذه الحالة.