ترجمة وتحرير: نون بوست
في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر، أعلنت وزارة الداخلية البريطانية حظر حركة حماس بالكامل بموجب قانون الإرهاب لسنة 2000. ومع أن الجناح العسكري لحركة حماس مدرج على قائمة الجماعات الإرهابية المحظورة منذ سنة 2001، ضغطت وزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتيل من أجل حظر كامل للمنظمة، مشيرة إلى أنه لم يعد من الممكن التمييز بين جناحيها السياسي والعسكري.
بما أن حركة حماس تحكم قطاع غزّة المحاصر، فإن هذه الخطوة ستؤدي بالتأكيد إلى تفاقم الأزمة الإنسانية المدمرة بالفعل التي يعاني منها القطاع الساحلي الفلسطيني. ولكن هذا الخطر لم يردع خطط الحكومة البريطانية لإدراج حماس في القائمة السوداء، خاصةً أن غزة نادرًا ما يُنظر إليها بتعاطف وكثيرًا ما تكون خارج نطاق المحادثات العادية بشأن “إسرائيل” وفلسطين. بدلا من ذلك، يُنظر إليها على أنها مكان وضيع بشكل استثنائي يستحق أن تمارس عليه تدابير قمعية استثنائية.
كان هذا الأمر واضحًا خلال الحملة العسكرية الإسرائيلية التي استمرت 11 يوما في غزة في أيار/ مايو. وفقا لمسؤولين فلسطينيين، قتلت الغارات الجوية الإسرائيلية 250 شخصًا في غزة ودمرت 2200 منزل فلسطيني.
مع ذلك، في 12 أيار/ مايو، أصدر البيت الأبيض بيانًا عبّر فيه الرئيس الأمريكي جو بايدن لرئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو عن “دعمه الثابت لأمن “إسرائيل” وحق “إسرائيل” المشروع في الدفاع عن نفسها وشعبها”. في اليوم التالي، أضاف بايدن أن “رد فعل [الجانب الإسرائيلي] لم يكن مبالغًا فيه”، علما بأنه لم يرد في البيان أي ذكر لغزة أو فلسطين أو الفلسطينيين.
لم تعد غزة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم فحسب، بل أصبحت الآن أيضًا موطن سكان أغلبهم من اللاجئين.
أظهر استطلاع للرأي الذي أجرته “مورنينغ كونسلت” أثناء القصف الإسرائيلي في أيار/ مايو أن نسبة الناخبين الأمريكيين الذين كانوا متعاطفين مع الفلسطينيين لم تتجاوز 11 بالمئة (19 بالمئة بين الديمقراطيين و3 بالمئة بين الجمهوريين) بينما كان 28 بالمئة منهم منحازين لـ”إسرائيل”. أظهرت دراسة استقصائية أخرى أن نصف اليهود الإسرائيليين يعتقدون أنه لم يكن هناك فائزون واضحون في نهاية الحملة الإسرائيلية، غير أن أغلبية السكان اعتبروا أن عملية غزة لها ما يبررها واعتقدوا أنه كان ينبغي أن تستمر لفترة أطول.
يبدو أن السلطات الإسرائيلية تدرك بشكل خاص وصمة العار التي تحيط بغزة. مع بداية احتجاجات أيار/ مايو في حي الشيخ جراح بالقدس – حيث قادت العائلات الفلسطينية المهددة بالإخلاء حركة احتجاجية قال بعض المحللين إنها ساعدت في تحفيز التوترات في البلدة القديمة بالقدس، والتي أعقبها صراع غزة – سارعت السلطات الإسرائيلية إلى الادعاء بأن حركة حماس كانت مسؤولة عن “التصعيد” في القدس رغم غياب أي دليل على تورط الحركة. وفي نهاية المطاف، أطلقت “إسرائيل” عملية “حارس الأسوار” وتحولت دائرة الأخبار بعيدا عن الطرد القسري للفلسطينيين في القدس.
عادة ما تحول الأحداث في غزة الانتباه عن القضايا المحورية المتعلقة بحقوق الفلسطينيين في الأرض والسيادة والتحرير الوطني، وهو ما أدى إلى اندلاع الاحتجاجات في القدس. لكن غزة ليست بمعزل عن كل ذلك، بل على العكس، تمثل سياستها إلى حد كبير تجسيدًا ونتيجةً للسياسات الإسرائيلية والفلسطينية الأوسع نطاقًا.
يعكس الوضع في غزة مدى تأثير قيام دولة “إسرائيل” سنة 1948 على فلسطين والفلسطينيين. قبل النكبة، لم يكن يُنظر إلى غزة على أنها منطقة منفصلة عدا عن كونها جزءًا من المنطقة الجنوبية لفلسطين التابعة للانتداب البريطاني. وفي أعقاب النكبة، أثّرت “مشكلة اللاجئين” الفلسطينيين على التركيبة الديمغرافية للمنطقة بأسرها لكنها ساهمت أيضا في إنشاء قطاع غزة وشكلت مستقبله السياسي والاقتصادي.
مع تدفق ما بين 220 إلى 250 ألف لاجئ فلسطيني من يافا والمنطقة الساحلية الجنوبية، تضاعف عدد سكان الجيب الساحلي ثلاث مرات بين سنتي 1947 و1948. وعلى هذا النحو، لم تعد غزة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم فحسب، بل أصبحت الآن أيضًا موطن سكان أغلبهم من اللاجئين.
فُقّر قطاع غزة أكثر من الضفة الغربية. وفي ظل الحكم المصري وبعد النكبة مباشرة، واجهت غزة انهيارًا اقتصاديًا مع إغلاق مينائها وفقدان معظم أراضيها الزراعية خلال الحرب. وبالنظر إلى كونها منطقة ريفية بالأساس ومحدودة الموارد، لم يكن اقتصاد غزة مصممًا لإعالة السكان اللاجئين الوافدين حديثًا. تأسست وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في كانون الأول/ ديسمبر 1949، وبدأت العمل في غزة في السنة التالية، باعتبارها الوكالة الوحيدة المسؤولة عن توفير الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية للاجئين في هذا الجيب.
رغم النمو الاقتصادي واسع النطاق، ظل اقتصاد قطاع غزة معتمدًا على الأجور المكتسبة في “إسرائيل” والتحويلات المالية، وهذا يعني أن الاقتصاد الداخلي بقي هيكليًا ضعيفًا ومتخلفًا.
ركّزت مصر بالدرجة الأولى على تعزيز حكمها العسكري على حساب جميع جوانب الحياة في غزة بينما لم تفعل سوى القليل لتعزيز التنمية الاقتصادية أو تطوير البنية التحتية. عُين مسؤولون مصريون على رأس جميع المناصب العامة، واستُبعد الفلسطينيون من المناصب الإدارية البارزة. راقبت مصر سكان غزة الأصليين عن كثب، وهمشت اللاجئين إلى حد كبير وأقصتهم من الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية.
بعد أزمة السويس في 1956، كانت مصر أقل ميلًا إلى تخصيص موارد لمنع الفصائل الفلسطينية المسلحة من دخول “إسرائيل”، لتخف بذلك قبضة الجيش المصري على غزة. وفي العقد الأخير من الحكم المصري، أعيد فتح ميناء غزة لتصبح منطقة تجارة حرة، كما تمكن مزارعو الحمضيات في غزة من الوصول بشكل أكبر إلى السوق العالمية، بما في ذلك أوروبا الشرقية. لكن في الوقت الذي بدأت فيه هذه الأنشطة الاقتصادية تعود بالفائدة على سكان في غزة، ظل لاجئو القطاع محرومين اقتصاديًا ويعتمدون على الأونروا والمانحين الدوليين الآخرين.
بعد حرب الأيام الستة في سنة 1967، شهدت غزة بعض التطور الاقتصادي في ظل الاحتلال الإسرائيلي المباشر، مدعومًا بشكل أساسي بالأرباح المرتفعة نسبيًا لسكان غزة العاملين في “إسرائيل”. وخلال العقدين اللاحقين، شكّل الفلسطينيون من غزة 60 في المئة من إجمالي القوى العاملة في “إسرائيل”، مقابل 10 في المئة في سنة 1970، وهو ما ساهم في نمو الطلب في الاقتصاد المحلي. في نفس الوقت، ضعُفت النخبة التقليدية من السكان الأصليين في غزة، مقابل صعود نخبةً جديدة مضادة ستلعب دورًا مركزيًا في الحركة الوطنية الفلسطينية.
رغم النمو الاقتصادي واسع النطاق، ظل اقتصاد قطاع غزة معتمدًا على الأجور المكتسبة في “إسرائيل” والتحويلات المالية، وهذا يعني أن الاقتصاد الداخلي بقي هيكليًا ضعيفًا ومتخلفًا. يُضاف إلى ذلك قلة الاستثمار الإسرائيلي في القطاعات الرئيسية لاقتصاد غزة. وحتى المداخيل المتاحة للإنفاق المكتسبة في “إسرائيل”، التي كانت ترد على قطاع غزة في شكل تحويلات مالية، كانت تُستخدم إلى حد كبير لشراء سلع استهلاكية إسرائيلية معمرة، أي أن الزيادة الطفيفة في النزعة الاستهلاكية لم تفد قطاع غزة اقتصاديًا.
وحسب ما قاله الأكاديمي الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد ذات مرة، فإن “غزة كانت الجوهر الأساسي للمشكلة الفلسطينية، جحيم مكتظ على الأرض يتكون إلى حد كبير من لاجئين معوزين يتعرضون لسوء المعاملة ومضطهدين وصعبي المراس، وغالبا ما يمثلون مركز المقاومة والنضال”.
لطالما كانت غزة في طليعة النشاط الثوري الفلسطيني. ما بين 1948 و1967، وفي ظل الحكم الأردني، مُنع الإخوان المسلمون الفلسطينيون في الضفة الغربية من مهاجمة “إسرائيل” من داخل الأردن بينما كان يسُمح لهم بالمشاركة في سياسات الدولة على المستويين المحلي والوطني. أما في غزة، كان فرع جماعة الإخوان المسلمين مكونا أساسا من اللاجئين وكان له باع طويل في النضال وشارك بفعالية في الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1948.
في سنة 1954، حظر الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر جماعة الإخوان المسلمين في مصر وغزة، قائلاً إن التنظيم الإسلامي تآمر لاغتياله. انخرطت السلطات المصرية أيضا في جهود متواصلة لقمع نشاط المقاومة الفلسطينية في غزة، التي مثلت امتدادًا لجهودها في مواجهة النشاط الإسلامي في مصر. لكن دون الوصول إلى السياسة الرسمية في ظل الحكم المصري، كانت التكتيكات العسكرية هي الوسيلة الوحيدة المتاحة للمشاركة في الحياة السياسية في غزة.
لذلك، كانت غزة طوال خمسينيات القرن الماضي مركزًا للنشاط العسكري والسياسي السرّي ضد المحتل الإسرائيلي، بالإضافة إلى كونها ساحة تدريب لأبرز الشخصيات الثورية الفلسطينية.
بالنظر إلى هذا التاريخ، ليس غريبا أن تلعب غزة دورًا مركزيًا في انطلاق الانتفاضة الأولى، وأن يكون اللاجئون الفلسطينيون من غزة من بين الأعضاء المؤسسين لحركة فتح (حركة التحرير الوطني الفلسطيني)، وأن يكون قادة الفصائل المسلحة مثل حركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني وحماس قد نشأوا في ظروف صعبة في مخيمات اللاجئين في غزة.
حتى المتعاطفون مع معاناة سكان غزة يعتبرون الجيب الساحلي استثنائيًا، رغم كونه أيضًا مكانًا لمعاناة استثنائية. ولا يمكن أن يكون في تسليط الضوء على تأثير الحصار الخانق والحملات العسكرية الإسرائيلية على الحياة في غزة تضليل أو إلهاء عن القضايا المحورية. في سنة 2012، أعلنت الأمم المتحدة أن قطاع غزة مكان غير صالح للعيش بحلول 2020. وكانت الأزمة الإنسانية في القطاع أكثر وضوحًا مع ظهور جائحة كوفيد-19. ولا ينبغي أن يكون هذا الأمر مفاجئا. وهناك سبب يجعل من غزة هدفًا لإجراءات قمعية استثنائية ومكانًا للمعاناة الشديدة.
لطالما عبّر القادة الإسرائيليون علنا عن احتقارهم لغزة، لأن وجودها في حد ذاته – ودورها التاريخي كجوهر النضالات الفلسطينية ضد العواقب الديموغرافية والاقتصادية والسياسية للاحتلال الإسرائيلي – يمثل تحديًا لكيان “إسرائيل” نفسها كدولة عادلة وديمقراطية.
في سنة 1992، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي المعروف آنذاك إسحاق رابين إنه يتمنى أن “تغرق غزة في البحر”. وفي إحدى المرات، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي نفتالي بينيت غزة بأنها “حصن الإرهاب”. وخلال عملية عمود السحاب في سنة 2012، دعا وزير الداخلية الإسرائيلي آنذاك إيلي يشاي جيش الدفاع الإسرائيلي إلى إعادة غزة “إلى العصور الوسطى”. وغالبًا ما يُنظر إلى الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية في غزة على أنها أقرب إلى “جز العشب”، لتشبيهها الفصائل الفلسطينية المسلحة بالأعشاب الضارة التي يجب تشذيبها.
إن هذا العداء متجذر أيضًا بسبب تعارض غزة مع جوهر أسطورة تأسيس “إسرائيل”، التي تقول إنها بنيت على “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. وهذا لا يعني أن المنظّرين الصهاينة والقادة السياسيين لم يكونوا على دراية بوجود الفلسطينيين، بل أنهم التزموا بجعل هذه الأسطورة حقيقةً واقعة. وكان هذا الالتزام بجعل فلسطين أرضًا مباحة ضمنيًا في الرؤية الصهيونية الطوباوية للدولة اليهودية الحديثة في رواية “أرض قديمة – جديدة” للناشط السياسي تيودور هرتزل، الذي كتب “إذا كنت أرغب في استبدال مبنى جديد بآخر قديم، يجب أن أقوم بالهدم قبل البناء”.
غزة ليست الاستثناء بل القاعدة – ويجب التعامل معها على أنها صورة مصغرة للسياسات الأوسع لإسرائيل وفلسطين. وإيجاد طريقة للتصدي بفعالية للأزمة في غزة قد يوفر الأساس للتوصل إلى حل دائم للصراع ككل.
في حديثه عن الطريقة التي تأسست بها “إسرائيل”، قال القائد العسكري الإسرائيلي السابق موشيه ديان: “بُنيت القرى اليهودية مكان القرى العربية. أنت لا تعرف حتى أسماء هذه القرى العربية، وأنا لا ألومك لأن كتب الجغرافيا لم تعد موجودة. ليست الكتب فقط، بل حتى القرى العربية لم تعد موجودة أيضًا”.
لكن وجود غزة تذكير بأن أسطورة الأرض المباحة لم تتحقق في الواقع. في سنة 1948، لم تعد غزة مجرد مكان غالبية سكانه من اللاجئين، ذلك أن هؤلاء اللاجئين – الفقراء الغاضبين والمضطهدين – يتحملون بشكل جماعي عبء ذكرى ولادة “إسرائيل” العنيفة والطريقة التي سعت بها إلى محو الوجود الفلسطيني.
نتيجة لذلك، تمثل غزة اليوم جوهر الالتزام بالنضال المسلح للحركة الوطنية الفلسطينية. لكن هذا يعني أيضًا أن السياسة القمعية التي تتبعها “إسرائيل” مع غزة ليست سوى انعكاس للتحدي الذي تشكله لفكرة أن “إسرائيل” بنيت على أرض لم يكن الفلسطينيون كأمة موجودين فيها.
في غزة، تبلغ الأعمال العدوانية لإسرائيل ذروتها، نظرا لأنها تمثل مهد الصراع الأيديولوجي حامي الوطيس بين الحركة الوطنية الفلسطينية وأسطورة “أرض بلا شعب”. وهذا ما يفسّر سياسة الولايات المتحدة تجاه الجيب المحاصر، التي تقوم على التخلي عنه بمجرد أن تهدأ الأعمال العدائية. لكن هذه السياسة ضلالية.
غزة ليست الاستثناء بل القاعدة – ويجب التعامل معها على أنها صورة مصغرة للسياسات الأوسع لإسرائيل وفلسطين. وإيجاد طريقة للتصدي بفعالية للأزمة في غزة قد يوفر الأساس للتوصل إلى حل دائم للصراع ككل.
المصدر: فورين بوليسي