بسبب الملف الاقتصادي.. هل حمي الوطيس بين سعيّد واتحاد الشغل؟

اشرح أيها البحر الأسود

تعكف حكومة نجلاء بودن منذ أسابيع على تسخير كل الإمكانات والمجهودات من أجل التوصُّل إلى اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي لتمويل ميزانية الدولة، وتعبئة مواردها في خضمّ الأزمة الخانقة التي تعيش على وقعها تونس منذ أشهر على وجه الخصوص.

عامل سيتظافر مع عوامل أخرى لتأزيم الوضع أكثر، رغم الارتياح الخارجي النسبي بعد تسقيف رئيس الجمهورية قيس سعيّد لإجراءاته الانقلابية بعام كامل، إذ إن خارطة الطريق الرئاسية لم تلقَ قبولًا مُرضيًا في الداخل مع ارتفاع الأسعار وحديث اتحاد الشغل عن اقتراب الصدام.

على خطى صندوق النقد الدولي

بات من الواضح أن الدولة التونسية قد استجابت خلال مفاوضاتها مع صندوق النقد لكل الشروط المفروضة على الطاولة، لتحقيق الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة وفق برنامج الطرف المموّل.

ومن بين أهم هذه الشروط تجميد الزيادات وتقليص كتلة الأجور ورفع الدعم تدريجيًّا عن المواد الأساسية، إلى جانب التفويت في بعض المؤسسات العمومية إلى القطاع الخاص، وهي شروط وإملاءات يراها الاتحاد العام التونسي للشغل بمثابة إعلان حرب على العمّال والمنظمة الشغلية الأكبر بالبلاد، لا سيما أنه لم يتمَّ تشريكها في اتخاذ القرارات ولا حتى استشارتها منذ إعلان 25 يوليو/ تموز الماضي.

بدت مظاهر التصعيد واضحة بين الاتحاد العام التونسي للشغل والرئيس سعيّد منذ أسابيع مضت، منها تصريح الأمين العام نور الدين الطبوبي، الذي قال إن الاتحاد لا يعطي صكًّا على بياض لأي أحد، وأنه لا يُساند رجلًا يمشي في الظلام، إضافة إلى عبارات “نحن ملاكة ولسنا كراية” بمعنى أن اتحاد الشغل حجر أساسي في البلاد، لا يمكن تجاهله في تشكيل المشهد السياسي العام.

ثم تصعيده مرة أخرى قبل أيام عندما قال إن الاتحاد جاهز لمعركة “كسر العظام”، بعد أن أعلنت الحكومة نيّتها تطبيق برنامج القوى المقرضة و”الإصلاحات” المشار إليها آنفًا، ليأتي الردّ رسميًّا في خطاب للرئيس قال فيه إنه يريد “موت العظام” لا “كسر العظام”.

تشهد البلاد تصاعدًا غير مسبوق للأسعار، إلى جانب اختفاء بعض المواد الأساسية، وتنامي مظاهر الاحتكار والمضاربة.

تصريحات متبادلة تنمُّ عن مدى تدهور العلاقة بين الطرفين ومدى قرب “المواجهة”، كما عبّر عن ذلك الأمين العام المساعد سامي الطاهري، الذي قال إن الخطابات اليومية لرئيس الدولة تدلُّ على قرب الصدام، ما يعني أن الاتحاد قد يلجأ قريبًا إلى ورقة الشارع من أجل الاحتجاج على ما يعتبره خطًّا أحمر بالنسبة إليه، كمنظمة شغلية ينضوي تحتها مئات الآلاف من العمّال والمنخرطين.

تأتي هذه السجالات بين السلطة الرسمية في البلاد واتحاد الشغل بعد فترة جمود وتردُّد، ساند في بدايتها الاتحاد إجراءات الرئيس سعيّد ليلة 25 يوليو/ تموز، عند إعلانه للتدابير الاستثنائية وتجميد اختصاصات البرلمان، ولكنّ الدوائر سرعان ما دارت على المقرّبين من سلطة “الانقلاب”، أو من كانوا يعتقدون أنهم مقرّبين من سعيّد.

فمنذ 25 يوليو/ تموز لم يلتقِ الرئيس سعيّد بأمين عام الاتحاد، ولم يشرك منظمته في أي من القرارات والإجراءات التي اتّخذها لاحقًا، بل أكثر من ذلك حيث تشير التسريبات الأخيرة التي نشرها موقع “ويكيلكس عربي”، إلى أن الاتحاد ذاته كان مستهدَفًا من قبل رئاسة الدولة بعد إجراءات 25 يوليو/ تموز.

توتُّر مصحوب بارتفاع للأسعار

تلك التطورات الهامة في العلاقة الثنائية بين رئاسة الجمهورية واتحاد الشغل، في الوقت الذي تشهد فيه البلاد أزمة اقتصادية وتبعات اجتماعية خانقة، إلى جانب تصاعد المعارضة السياسية لإجراءات سعيّد الاستثنائية، جعلت البلاد تشهد تصاعدًا غير مسبوق للأسعار، إلى جانب اختفاء بعض المواد الأساسية، وتنامي مظاهر الاحتكار والمضاربة، وتأخُّر صرف أجور المدرّسين، ما ولّدَ حالة احتقان شعبي ولدى نقابات التعليم التي لوّحت بالاحتجاج.

أيضًا أثارت أزمة الجواز الصحي حالة تململ كبير لدى المجتمع التونسي، الذي ترفض شريحة هامة منه مثل هذه الإجراءات الماسّة بالحريات الفردية والشخصية، أضف إلى ذلك قبول الدولة بإرجاع المهاجرين غير الشرعيين من إيطاليا وفرنسا وترحيلهم قسريًّا وسط تسجيل وفاة عدد منهم، ما أثار غضب الشباب وحفيظة النخبة السياسية والحقوقية بالبلاد.

رغم ذلك، ما زالت السلطة الرسمية في البلاد تنتهج طريق الانفراد بالرأي والقرارات، ولا تعطي أية أهمية للمعارضة الداخلية المتصاعدة، في ظل قيام عدد من النواب والسياسيين بإضراب جوع داخل مقرّ حزب الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، حراك الإرادة.

بينما يبدو أن سعيّد قد تلقّى بعض التطمينات ومؤشرات تحسُّن العلاقات مع الجانب الأمريكي والأوروبي، بعد إعلان خارطة طريق في خطاب ليلة 13 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، التي لا تزال تثير رفض الأحزاب والسياسيين نظرًا إلى الغموض الذي يكتنف مسار المبادرة وحيثياتها.

ورغم تحسُّن العلاقة الرسمية للسلطة في تونس مع بعض القوى الدولية المانحة، إلا أن الباب لا يزال مشرعًا على مصراعَيه لمعركة جديدة، قد تتحول في أية لحظة إلى حرب سياسية واجتماعية بلا هوادة، ستكون مفتوحة مع المنظمات الاجتماعية والأحزاب السياسية، وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي بدأ فعليًّا بالتكشير عن أنيابه.

باب على معركة جديدة

تتعزز مخاوف التوترات الحادة مع اقتراب يوم 14 يناير/ كانون الثاني، المحطة الثورية الثانية التي تعدّ عيدًا للثورة، لولا إلغاؤها من قيس سعيّد هذه السنة، حيث إنها لا تقلّ أهمية عن 17 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ومن المنتظر أن تخرج عدة مسيرات احتفالية واحتجاجية للمعارضة، التي تعتبر أن عيد الثورة هو يوم هروب المخلوع في 14 يناير/ كانون الثاني، وليس كما أعلن سعيّد قبل أسابيع أنه يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول.

الواقع التونسي اليوم على خطورة مستواه، إلا أنه قابل للتطور والتحوّر أكثر.

كما أن هذه التطورات المتسارعة في المشهد التونسي وعلى مستوى العلاقة بين مختلف مكوّناته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، جاءت في لحظة سياسية صعبة، حيث أعلن سعيّد قبل أيام عن وجود مخطَّط اغتيال يستهدف مسؤولين كبار في البلاد، في إشارة إلى نفسه بعد أن تحدث عن عدم خشيته من الموت.

وهو المخطط الذي قال إنه يورّط من أسماهم الخونة والعملاء، الذين دائمًا ما يشير إليهم في خطاباته دون ذكرهم، غير أن الجديد في الحكاية هذه المرة هو ذكره لأحد أجهزة المخابرات المتورِّط في مخطط الاغتيال.

هذا الأمر جعل ردود فعل التونسيين متباينة بين من يصدّق الأمر وينبّه إلى خطورته، نظرًا إلى كون تونس لم تعتَد على مثل هذه الخطابات والمخططات، خاصة عندما تصدر عن أعلى هرم السلطة بالبلاد؛ وبين من يقلِّل من خطورة الموضوع، على اعتبار ليست المرة الأولى التي تتحدث فيها الرئاسة عن الاغتيالات التي تستهدف الرئيس ومحيطه.

إذًا، إن الواقع التونسي اليوم على خطورة مستواه، إلا أنه قابل للتطور والتحوّر أكثر في أية لحظة، وهو مفتوح على عدة سيناريوهات، يبدو أن جميعها ليس في صالح الشعب التونسي الذي ما زال يعيش حالة احتقان قصوى قابلة للانفجار الشعبي في أية لحظة.

كل تلك المخاوف كانت وراء دعوة خبراء الاقتصاد، بمن فيهم مستشارين اقتصاديين سابقين في الحكومة، إلى ضرورة نزول قيس سعيّد ووزير المالية ومحافظ البنك المركزي من الشجرة ومصارحة الشعب بوضعية تونس الصعبة وبالغة الخطورة.