أعلن مجلس السيادة الانتقالي في السودان، خلال الاجتماع الذي عقده الاثنين 27 ديسمبر/ كانون الأول 2021، برئاسة قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان، البدء في إجراءات التحضير للعملية الانتخابية، في خطوة أثارت الكثير من الجدل في ظل الضبابية التي تلفُّ المشهد السياسي مؤخرًا.
أكّد المجلس خلال اجتماعه “الشروع في إجراءات العملية الانتخابية التي تفضي إلى ترسيخ الانتقال الديمقراطي”، مشددًا على ضرورة “ضمان مشاركة المواطنين في اختيار حكومة منتخَبة عبر صناديق الاقتراع بنهاية الجدولة التي أعادتها المفوضية القومية للانتخابات، وتبدأ مطلع يناير/ كانون الثاني 2023 وتنتهي في يوليو/ تموز 2023″، بحسب البيان الصادر عنه.
وقالت المتحدثة باسم مجلس السيادة، سلمى عبد الجبار، إن المجلس أوصى بالبدء في التوعية الانتخابية عبر وسائل الإعلام المختلفة وتوفير المطلوبات اللوجستية والمواد الانتخابية، فيما أعلنت مفوضية الانتخابات أن العملية الانتخابية ستُجرى حسب المعايير الدولية، ووفق قانون حاكم يضمن لكل الأحزاب السياسية المشاركة الفعّالة.
ويتزامن الإعلان عن إجراء انتخابات عامة مع خروج تسريبات تفيد بعزم رئيس الحكومة عبد الله حمدوك تقديم استقالته خلال الساعات القادمة، بعد الفشل في تشكيل الحكومة نظرًا إلى عدم التوافق مع القوى السياسية المختلفة، ما فتح باب التكهُّنات حول دوافع هذا التحرك في هذا التوقيت الذي يناور فيه العسكر لكسب المزيد من الوقت، لتخفيف الضغط المحلي والإقليمي والدولي بشأن اتّهام الجنرالات بعرقلة مسار الانتقال الديمقراطي وتسليم السلطة للمدنيين.
استقالة حمدوك.. عودة للأضواء
اجتمع حمدوك مساء الأحد الماضي بالبرهان ونائبه محمد حمدان دقلو “حميدتي”، ولم يصدر بيان رسمي بشأن تفاصيل هذا الاجتماع الذي امتدَّ لعدة ساعات، إلا أن تسريبات نقلتها وسائل إعلام أشارت إلى أن رئيس الوزراء أبلغ الجنرالَين شفهيًّا بنيّته بالاستقالة، بعد عجزه عن تشكيل حكومة التكنوقراط المزعومة.
المبررات التي ساقها حمدوك، والتي دفعته لتلك الخطوة، تمحورت حول عدم التوافق مع القوى والكيانات السياسية بشأن طبيعة وملامح الحكومة الجديدة، التي يفترض أن تحظى بإجماع كافة الأطراف بما يساعدها على تحقيق الأهداف الثورية المأمولة، وترجمة مكتسبات الثورة وعلى رأسها تسليم السلطة لمدنيين، وألا تتحول إلى رقم في قائمة طويلة من الإجراءات التي لا تحرّك المياه الراكدة في مستنقع الوسط السياسي الملبَّد بغيوم الفوضى.
لم تكن تلك المرة الأولى التي يلوّح فيها حمدوك بالاستقالة، إذ أعلن في 18 من الشهر الجاري لمقرّبين منه عزمه إجراء تلك الخطوة مع انسداد الأفق السياسي، لكنه تراجعَ عنها مؤقّتًا بعد وساطات محلية وخارجية، لتعود للأضواء مرة أخرى، لكنها هذه المرة ربما تتجاوز حد التهديد إلى احتمالية التنفيذ فعليًّا، لتبقى الساعات القادمة حاسمة حول مصير منصب حمدوك الحكومي.
يعلم العسكر جيدًا أن تلويح حمدوك بالاستقالة يهدف في المقام الأول للضغط عليهم للعودة إلى ما قبل 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وأن الحراك الثوري المتصاعد سيتلقّف هذا التأرجح في الاستقالة لتعزيز زخمه
وكان رئيس الوزراء قد أعلن السبت قبل الماضي، لمقرّبين منه، عزمه الاستقالة مع انسداد الأفق السياسي في البلاد، لكنّه أجّل الخطوة بسبب وساطات محلية وخارجية ترغب في ثنيه عنها، فيما جدّدت مصادر مطّلعة نفيها لـ”العربي الجديد”، اليوم الاثنين، نية حمدوك الاستقالة، لكن المصادر نفسها أكدت أن الساعات المقبلة ستكون حاسمة حول مصير حمدوك في المنصب.
وتعاني العلاقة بين حمدوك والجنرالات توترًا منذ 21 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حين وقّع البرهان ورئيس الوزراء اتفاقًا سياسيًّا نصَّ على عودته لمنصبه، وتشكيل حكومة كفاءات تكنوقراط غير حزبية، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتعهّد الطرفان بالعمل معًا لاستكمال المسار الديمقراطي، وهو ما لم يحدث رغم مرور أكثر من 37 يومًا، الأمر الذي وضع حمدوك في مرمى الانتقادات بصفته شريكًا للعسكر في انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
استمرار التصعيد
الإعلان عن خطوة الانتخابات يأتي في وقت يبلغ فيه التصعيد الثوري مداه الأكبر، حيث النقلة النوعية التي شهدها خلال الفعاليات الأخيرة، أبرزها مليونية السبت 25 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، التي تضمّنت الدعوة بشكل مباشر وصريح لمحاصرة القصر الرئاسي، بعدما كانت تقتصر على المناوشات عن بُعد عبر الجسور والطرق والميادين العامة.
أكدت لجان المقاومة السودانية مجددًا استمرارها في التصعيد حتى سقوط الانقلاب، داعية إلى مليونية جديدة في 30 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، تخرج من الخرطوم ومدن سودانية أخرى، على أن يكون اللقاء عند محيط القصر، هذا في الوقت الذي أكّدت فيه المؤسسة العسكرية أنها لن تقف صامتة أمام أي تجاوز، وأنها ستتصدّى لما أسمته “محاولات جر البلاد للفوضى”.
وقابلَ الثوار مساعي تهدئة العسكر عبر استمالة بعض القوى والعزف على أوتار دعم المسار الديمقراطي وعدم طمع الجيش في السلطة، بالإصرار على المضيّ قدمًا في درب الحراك والتصعيد حتى عودة الجنرالات لثكناتهم، رافعين شعارات “لاتفاوض ولا شراكة ولا حوار مع العسكر”، ومطالبين بتقديم المتورّطين منهم في قتل الثوار لمحاكمات عاجلة.
وكان نتيجة لذلك أن شنَّت السلطات الأمنية حملات اعتقال واسعة طالت كوادر لجان المقاومة والتنسيقيات في الأحياء، فيما أصدر البرهان قرارًا أول أمس أعاد بموجبه صلاحيات جهاز المخابرات العامة ومنحه وفقًا لحالة الطوارئ الحصانة وحقّ الاعتقال، بزعم مواجهة التهديدات الأمنية بدارفور وكردفان والخرطوم.
وفي سياق سياسة التنكيل التي يتبعها العسكر لإجهاض الحراك الثوري، استنكر “محامو الطوارئ”، وهو جسم قانوني تشكّل حديثًا لتقديم الدعم القانوني للمعتقلين، ما أقدمت عليه قوات الشرطة بأخذها عيّنات من الدم والبول من المعتقلين من مليونية 25 ديسمبر/ كانون الأول، ما عدّته مؤشرًا خطيرًا ومؤامرة تُعدُّ من الأجهزة الأمنية لتلفيق اتهامات للثوار.
مناورة جديدة للبرهان
يعلم العسكر جيدًا أن تلويح حمدوك بالاستقالة يهدف في المقام الأول للضغط عليهم للعودة إلى ما قبل 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وأن الحراك الثوري المتصاعد سيتلقّف هذا التأرجح في الاستقالة لتعزيز زخمه وتكوين حاضنة سياسية شعبية أكثر خنقًا للجنرالات، خاصة أنها ستجد دعمًا إقليميًّا ودوليًّا.
ومن ناحية أخرى، سيجد البرهان وحميدتي تحديدًا صعوبة في تقديم المزيد من التنازلات إزاء تلك الضغوط، أمام جنودهما وحاضنتهما السياسية على حد سواء، إذ إن ذلك ربما يعرّض مستقبلَيهما السياسي للخطر، هذا إن لم يكن بداية مرحلة جديدة من حياتهما داخل السجون والمعتقلات، كونهما الرأس المدبِّر لجرائم القتل والتنكيل بحقّ المتظاهرين.
وكما حاول الجنرال امتصاص غضب الشارع والمجتمع الدولي في أعقاب الانقلاب، بإعادة حمدوك لمنصبه والإيماء بأن ما حدث كان لحماية الثورة واستقرار البلاد من مستنقع الفوضى، وهو ما ثبت عكسه تمامًا، ربما يجدُ البرهان في فكرة التلويح بإجراء الانتخابات ورقة مهمة لاستمالة الطرف الآخر، خاصة أن هذا المطلب كان على رأس المطالب الثورية المرفوعة.
يعلم العسكر أن إجراء الانتخابات في موعد قريب خطوة ستجد دعمًا وترحيبًا كبيرَين، لا سيما أنها الخطوة الأولى نحو التمكين المدني، كما يأمل الثوار، وعليه من المحتمل أن تكون صخرة تتحطم عليها كافة أوجه التصعيد، إذ إن استمرار الحراك على الوتيرة نفسها بعد الإعلان عن الانتخابات سيكون محل جدل بين مختلف الأطياف السياسية.
فخّ جديد قد ينصبُ الجنرال شباكه للثورة، ما يجعل القوى المدنية والشارع أمام مسؤولية جسيمة، تتطلب استمرار التصعيد لحين الانتهاء من كافة الإجراءات الإدارية والقانونية والأمنية لإجراء الانتخابات.
يحاول البرهان من خلال تلك المناورة الانتخابية، الممتدة لقرابة 6 أشهر، من يناير/ كانون الثاني وحتى يوليو/ تموز القادم، كسب المزيد من الوقت لشرعنة انقلابه وهيمنته على المشهد برمّته، خاصة أنه حتى اليوم لم تُحدَّد كيفية إجراء تلك الانتخابات ولوائحها وشروطها والترتيبات الخاصة بها، ما يعني أن الأمر ربما يحتاج لوقت طويل، وهو ما يريده الجنرال لتهيئة المشهد تمامًا لترسيخ أركان العسكر في المرحلة المقبلة.
وفيما يتعلق باستقالة حمدوك، فإنها بعد هذا الإعلان ربما تفقد بريقها وزخمها، طالما أن الفاصل الزمني بين الوضع الحالي والانتخابات ليس طويلًا، بحسب بيان مجلس السيادة، ليتحول المسار من تشكيل حكومة مدنية وعودة العسكر لثكناتهم إلى توفير ضمانات نزاهة العملية الانتخابية وتهيئة الأجواء لها، وإشغال الشارع بتلك التفاصيل المبهمة.
وحتى تحل الانتخابات التي لم يتحدَّد موعدها بعد، قد يعيّن البرهان رئيس حكومة من المستقلين، ويشكّل مجلس وزراء من التكنوقراط، بزعم تيسير الأمور خلال تلك الفترة المتبقية حتى إجراء العملية الانتخابية، بما يصبّ في النهاية في صالح العسكر ويسحب البساط رويدًا رويدًا من تحت الزخم الثوري الذي بلا شك بدأ ينتابه بعد الفتور.
فخّ جديد قد ينصبُ الجنرال شباكه للثورة، ما يجعل القوى المدنية والشارع أمام مسؤولية جسيمة، تتطلب استمرار التصعيد لحين الانتهاء من كافة الإجراءات الإدارية والقانونية والأمنية لإجراء الانتخابات، مع تقديم الضمانات الكافية لإتمامها على خلفية ثورية، تستبعد العكسر من المشهد وتحقق أهداف ثورة ديسمبر/ كانون الأول 2018، وحتى الانتهاء من تلك التفاصيل لا بدَّ أن يزأر الشارع بأصوات الثوار التي تطالب بإسقاط الانقلاب وعودة العسكر لثكناتهم وتسليم السلطة للمدنيين.