أعادَت عمليةُ مستوطنة حومش التي نفّذها مقاومون فلسطينيون في 16 ديسمبر/ كانون أول الجاري، والتي أدّت إلى مقتل مستوطن إسرائيلي وإصابة اثنين آخرين بجراح متفاوتة، لفتَ الأنظار إلى بلدة بُرقة الواقعة شمال غربي محافظة نابلس في الضفة الغربية المحتلة، ففي أعقاب العملية تصاعدت الهجمة الاستيطانية على البلدة التي تعاني من الأساس من اعتداءات مستمرة منذ عام 2007، إذ تزايدت الانتهاكات وأعمال العنف ضد المزارعين وأصحاب الأراضي في البلدة بحماية من قوات الجيش الإسرائيلي.
يحاول المستوطنون في حومش المخلاة منذ عام 2005، أن يعيدوا بناء مستوطنتهم على جزء من أراضي بلدة بُرقة، عبر تدشين مدرسة أقيمت عام 2007 ذات طابع ديني ويغلب على روادها اليهود المتدينون، حيث دشّن المستوطنون مؤخرًا مجموعة أُطلق عليها “مجموعة العودة لحومش”، تضم أعضاء في كنيست الاحتلال وبعض الحاخامات، محاولين استغلال العملية التي جاءت ردًّا على انتهاكاتهم لإعادة بناء المستوطنة وإحيائها على حساب الفلسطينيين.
ومنذ تفاقم هجمات المستوطنين، شهدت البلدة إغلاقًا لبعض مداخلها من قبل المستوطنين وعناصر الجيش عبر سواتر رملية، عدا عن عمليات اقتحام يومية دفعت بالأهالي طلب مساعدة البلدات القريبة منها، مثل سبسطية، للتصدي لهجمات المستوطنين التي شملت اقتحام المنازل وضرب قاطنيها، وتحطيم ممتلكاتهم وعرباتهم، واقتلاع مزروعاتهم.
وقد تكون مأساة عائلة دوابشة، التي قتلت حرقًا على يد مجموعة من المستوطنين أضرموا النار في منزلهم عام 2015، هاجسًا لأهالي البلدة من أن يتكرر من جديد مع إحدى عائلات البلدة، في ظل عدم وجود اهتمام رسمي فلسطيني، وامتناع الأجهزة التابعة للسلطة عن التصدي لهجمات المستوطنين في أي من المدن الفلسطينية بغضّ النظر عن تصنيفها.
تاريخ من النهب والعنف
يقول سامي دغلس، الذي شغلَ منصب رئيس المجلس البلدي لبرقة سابقًا، وأحد ناشطيها الفاعلين، إن البلدة لم تغب على مدار عقود عن ميدان الأحداث، إذ أعادَت عمليةُ حومش الحالة النضالية والكفاحية التي تعيشها برقة منذ عام 1929 مرورًا بجولات الهبّات الشعبية والانتفاضات، ويذكر أنه في نهاية شهر مارس/ آذار عام 1988 خرجت تظاهرة في بلدة بُرقة، إحياءً لذكرى يوم الأرض الذي يؤكد فيه الفلسطينيون على تمسكهم بالأرض وحقهم في استرجاع ما سلب منهم ورفضهم الكامل لخطط الاستيطان الإسرائيلية، وفي تلك الأثناء تواجد دغلس هناك، حيث أُعلنت البلدة “جمهورية مستقلة حرة”.
قدّمت البلدة منذ عام 1929، 58 شهيدًا منهم 13 خلال الانتفاضة الأولى عام 1987، فيما بقية الشهداء كانوا خلال الانتفاضة الثانية وما تبع ذلك من أحداث، وغلب على استشهادهم الصراع مع المستوطنين في حومش.
ويؤكد دغلس أن البلدة تواجه استهدافًا استيطانيًّا من مستوطني الاحتلال “المتدينين”، والذين يهدفون إلى إعادة بناء مستوطنة حومش التي أخلاها رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون، ضمن خطة الانسحاب الأحادية التي نفّذها وشملت حينها قطاع غزة المحاصر عام 2005.
يستندُ هؤلاء المستوطنون إلى ادّعاء توراتي أن المدرسة الدينية المقامة على أراضي البلدة يوجد بها شجرة “مقدسة”، وأنهم يقومون بتدريس الطلبة المنهج الديني الخاص بهم، رغم إخلاء المستوطنة وامتناع جيش الاحتلال عن القبول بإعادة بناء المستوطنة لاعتبارات أمنية بحتة.
قدمت البلدة منذ عام 1929، 58 شهيدًا منهم 13 خلال الانتفاضة الأولى عام 1987 فيما بقية الشهداء كانوا خلال الانتفاضة الثانية.
ويستغل المستوطنون عملية الضمّ المتسارعة للأراضي الفلسطينية في الضفة المحتلة، وتصنيف بعضها على أنها مناطق “ج” بهدف ابتلاع الأراضي، إما عبر إقامة بؤر استيطانية وإما إقامة منشآت ذات طابع ديني تكون مدخلًا لبناء المستوطنات مستقبلًا.
انحياز قضائي للمستوطنين
تبلغ مساحة البلدة المحسوبة على محافظة نابلس شمالي الضفة المحتلة قرابة 19 ألف دونم، فيما يبلغ تعداد السكان فيها حاليًّا 5 آلاف شخص، في حين يوجد 33 ألف شخص من أهالي البلدة مغتربين في الأردن والسعودية والولايات المتحدة.
أقيمت حومش كمعسكر تابع لجيش الاحتلال عام 1978، فوق جبل القبيبات من أراضي برقة والقرى المجاورة، واحتلت أكثر من 1400 دونم من أجل إقامتها، تبع ذلك مصادرة 4 آلاف دونم جميعها على أعلى الجبال من أجل تنفيذ شوارع مركزية للمستوطنة وطرق التفافية، ما حرمَ أصحابها من 5500 دونم، غير أنه تمَّ إخلاؤها جميعها عام 2005.
بعد إخلائها تردّد عدد من المستوطنين إليها في الفترة ما بين عامَي 2007 و2009، تحت ذريعة إقامة مدرسة دينية عليها، ما حرمَ الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم، فضلًا عن عمليات الاعتداءات اليومية بحقّ من يحاول الاقتراب.
وبعد سنوات من الصراع القضائي، نجحَ الفلسطينيون في الحصول على حكم قضائي عام 2013 يسمح لهم بالوصول إلى أراضيهم ومنع المستوطنين من التعرّض لهم، غير أنه ظلَّ حبرًا على ورق في ضوء تصاعد الانتهاكات بحقّ الفلسطينيين.
في السياق، يقول دغلس إن الأهالي حاولوا تقديم أدلة لمحكمة العدل العليا التابعة للاحتلال، بشأن اعتداءات المستوطنين ومنعهم من الدخول إلى أراضيهم، إلا أن المستوطنين اعتدوا على الوفد المكوَّن من 30 مزارعًا، وبعضهم قضى عدة أيام في المستشفى نتيجة للضرب.
ويوضِّح دغلس لـ”نون بوست” أن المستوطن الذي قُتل في عملية إطلاق النار في 16 ديسمبر/ كانون الثاني، هو أحد المتطرفين الذين اعتادوا الاعتداء على الفلسطينيين وسكان البلدة، ويستهدف المزارعين ويمنعهم من الوصول إلى أراضيهم.
ويخشى الناشط الفلسطيني من استغلال مستوطني حومش للقيام بعملية انتقام مشابهة لتلك التي تعرضت لها عائلة دوابشة، أو الضغط من أجل إعادة بناء المستوطنة، خصوصًا مع تشكيل هيئة داعمة لهم تضمُّ أعضاء في كنيست الاحتلال أطلقوا عليها “مجموعة العودة إلى حومش”.
يحظى المستوطنون الذين يشنّون الهجوم على بلدة برقة بدعم من شخصيات وزارية وأخرى في الكنيست.
وعن الاعتداءات، يوضّح دغلس أن المستوطنين ينفّذون عمليات ضرب على الأهالي أو محاولات خطف للأطفال، عدا عن التخريب والتدمير في الممتلكات الفلسطينية مستغلّين الحماية التي توفِّرها لهم السلطات الإسرائيلية، وتحديدًا من شخصيات وزارية وأخرى في الكنيست، مثل إيليت شاكيد وزيرة الداخلية، وإيتمار بن غبير، بالإضافة إلى كبار الحاخامات في المستوطنات الكبرى بالضفة الغربية المحتلة.
ومع تصاعد الانتهاكات في الأسبوع الأخير، شكّل السكان لجان شعبية تعمل على التصدي للمستوطنين وتحاول منع الاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، غير أن جيش الاحتلال نفّذ هو الآخر اعتداءات على الأهالي أسفرت عن إصابات نتيجة استخدامه للرصاص الحي والمطاطي والغاز.
محاولات للعودة من جديد
من جانبه، يقول رئيس المجلس البلدي في برقة جهاد صلاح، إن الهجمات التي يقوم بها المستوطنون حوّلت البلدة لساحة حرب بالتزامن مع حماية من جنود وعناصر جيش الاحتلال لهم وللهجمات التي يقومون بها ضد الأهالي.
وبحسب حديث صلاح لـ”نون بوست”، فإن ما يجري حاليًّا يهدف لإعادة المستوطنين وبناء المستوطنة المخلاة منذ عام 2005، تحت ادّعاء وجود مدرسة دينية في الأراضي المسلوبة من الفلسطينيين لصالح المستوطنين المتدينين.
ويوضِّح رئيس مجلس بلدة برقة أن المدرسة الدينية التي يتذرّع بها المستوطنين، هي مجرد خيمة مقامة تحت شجرة يعتبرونها مقدسة، في حين أن المساعي لإعادة بنائها قائمة كخطوة أولى، ثم تحويلها المدرسة لمزار أمام المستوطنين، ثم إعادة بناء المستوطنة بشكل كامل.
يُعتبر دعم كبار الحاخامات وأعضاء الكنيست وبعض الأحزاب أحد عوامل الخوف الفلسطيني من مصادرة أراضي البلدة، على الرغم من أن قيادة الجيش ترفض ذلك بسبب التغطية الأمنية المكلفة لبناء هذه المستوطنة، كونها نائية وتقع بين عدة قرى فلسطينية ما يشكّل خطرًا أمنيًّا عليها.
تطور الأحداث في برقة قد يدفع الأمور نحو هبّة جماهيرية مشابهة للانتفاضات أو بمستوى أقل، يتخلّلها عمليات متنوعة للمقاومة توتِّر المشهد بشكل أكبر.
ويشير صلاح إلى أن الضغوط التي تتعرض لها الحكومة الحالية التي يقودها الائتلاف برئاسة نفتالي بينيت وئير لابيد، قد تدفعها للقبول بفكرة إعادة بناء المستوطنة، كون الحكومة الحالية هشّة وتضمُّ أعضاء وممثلين عن المستوطنين فيها، ما قد يجعلهم يلوّحون بإسقاط الحكومة إذا رفضت إعادة بنائها.
ما يجري في برقة لا يبدو بعيدًا عمّا تشهده مناطق أخرى في نابلس حاليًّا، مثل بيتا وكفر قدوم، ويندرج في إطار الاحتلال تمرير خطة الضمّ بشكل هادئ وصامت ودون صدام علني مع الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن أو الاتحاد الأوروبي.
وتدل التقديرات الإسرائيلية، على الصعيدَين السياسي والأمني، أن تطور الأحداث في برقة قد يدفع الأمور نحو هبّة جماهيرية مشابهة للانتفاضات السابقة أو بمستوى أقلّ، يتخلّلها عمليات متنوعة للمقاومة تأكيدًا على تمسكهم بأراضيهم.