يبحثُ معظم السوريين اليوم، في مختلف المحافظات السورية القابعة تحت سيطرة نظام الأسد، عن طرق نجاة تخلّصهم من شبح الجوع والفقر المدقع الذي يعاني منه معظمهم، في ظل ظروف اقتصادية قاسية تعيشها البلاد منذ سنوات على التوالي، ما دفع السوريين إلى تحمُّل مشقة رحلة الفرار إلى بلدان اللجوء بحثًا عن حياة جيدة توفر لهم معظم مقومات الحياة التي تفتقدها بلادهم.
ورغم موجة الهجرة، يواصل نظام الأسد وحليفته روسيا الترويج لفتح الأبواب أمام اللاجئين السوريين للعودة إلى بلادهم، بدعوى استتباب الأمن وسعيهما المتواصل في تحسين الواقع الاقتصادي والخدماتي.. فهل باتت سوريا آمنة مستقرة لعودة السوريين، كما يروَّج لها؟
ترويج عودة اللاجئين السوريين
يحاول الأسد بضغط روسي تسويق فكرة أن الحياة عادت إلى طبيعتها في المناطق التي تسيطر عليها قواته، في حين لا يعكس واقع القطاعات الخدمية التي عمل على ترميمها سوى عجزه في ظل الوضع الاقتصادي الذي تعيشه البلاد.
في هذا السياق، عقدَ مقرّ التنسيق المشترَك بين روسيا وسوريا، في 23 ديسمبر/ كانون الأول، اجتماعًا عبر تقنية الفيديو في قصر المؤتمرات بدمشق، والمركز الوطني لقيادة الدفاع بالاتحاد الروسي في موسكو، بحثَ فيه المجتمعون للهيئتَين الوزاريتَين التنسيقيتَين السورية-الروسية عودة اللاجئين.
وتبادل الجانبان “الإنجازات” التي تمَّ تحقيقها في إطار عملهما المشترَك، أبرزها “استعادة الحياة السليمة” في سوريا لتسهيل عودة اللاجئين إلى البلاد، التي تشهدُ موجة هجرة موازية لسوريين يعانون من ظروف معيشية واقتصادية غائبة تمامًا عن واقع ترويجهما لعودة الملايين من اللاجئين إلى سوريا.
واعتبرَ رئيس الهيئة التنسيقية السورية ووزير الإدارة المحلية في حكومة نظام الأسد، حسين مخلوف، أن حكومة نظام الأسد تحاول منح اللاجئين السوريين إعفاءات تتيح للمتخلّفين عن الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية في صفوف جيش نظام الأسد تسوية أوضاعهم الأمنية.
تواصل روسيا تغلغلها في مختلف الإدارات والقطاعات السورية، حيث تُظهر تحركاتها التوسعية مدى إصرارها على بقاء وجودها في سوريا وإدارة البلاد عبر هيئات وإدارات روسية.
ورغم تلك الادّعاءات التي تحمل في جوانبها تسهيلات للعائدين من اللاجئين إلى سوريا، إلا أن معظمها تبرر الاستثمار الذي أوجدته حكومة نظام الأسد في عملية تسوية أوضاع المتخلفين عن الخدمة الإلزامية، عبر دفع البدل المالي الذي يصل إلى 18 مليون ليرة سورية لكل شخص بالدولار الأمريكي، والتي تتراوح بين 6 و8 آلاف دولار أمريكي، بحسب ما أكّد والد شاب سوري عاد مجددًا إلى مدينة حلب لـ”نون بوست”.
يرى الصحفي منار عبد الرزاق أنّ التسهيلات التي يتحدث عنها نظام الأسد دعائية وغير واقعية، فهي تخصُّ المغادرين من مؤيديه تحت واقع الهرب من الخدمة الإلزامية، ولكن بطبيعة الحال كم يشكّل هؤلاء من نسبة في تعداد السوريين الفارّين من الحرب السورية؟
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “تصبّ كلّ هذه الإجراءات من البدل وتخفيضه وإعطاء مهل للمتخلفين في سبيل ضخّ إمدادٍ بالدولار، لرفد خزينة النظام الذي يعيش أزمة اقتصادية سيّئة للغاية”.
مضيفًا: “يعمل نظام الأسد على إعادة تدوير السكان عبر استخدامهم في المشاريع الترويجية التي تعمل عليها حكومته في إطار التشجيع للعودة إلى سوريا”، مؤكّدًا “أن الأرقام غير صحيحة ونسبة العائدين إلى البلاد قليلة جدًّا مقارنة مع إحصاءات نظام الأسد”.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2020، عُقد مؤتمر حول عودة اللاجئين، تحت مظلة روسية في دمشق، عقب دعوة وزارة الدفاع الروسية، لأول مرة في 5 سبتمبر/ أيلول 2018.
وخلال يوليو/ تموز 2018، قدمت موسكو مقترحات إلى الولايات المتحدة الأمريكية حول تنظيم العمل لعودة اللاجئين السوريين، وتشكيل مجموعة مشتركة لتمويل إعادة إعمار البنية التحتية السورية، إلا أن المؤتمر لم ينعقد رغم المحاولات الروسية الساعية للحصول على التمويل لإعادة الإعمار من قبل الدول المانحة.
وتعمل روسيا ونظام الأسد على استعراض إنجازاتهما لتحقيق هدفهما في الحصول على ملفٍّ لإعادة الإعمار، بحسب ما يشير إليه قول وزير الخارجية فيصل المقداد: “إن سوريا تسعى لاستعادة أبنائها وتدعوهم مجددًا للعودة والمساهمة في عملية إعادة إعمار ما دمّره الإرهاب”.
وتواصل روسيا تغلغلها في مختلف الإدارات والقطاعات السورية، حيث تُظهر تحركاتها التوسعية مدى إصرارها على بقاء وجودها في سوريا وإدارة البلاد عبر هيئات وإدارات روسية، باتت تشترك مع إدارة المحافظات القابعة تحت سيطرة حكومة نظام الأسد، ما يدلّ على أنها ليست مجرد حليف عسكري فقط، وإنما شريك في إدارة البلاد إلى جانب نظام الأسد.
واقع متهالك.. لا حقيقة لادّعاءات النظام وروسيا
عبّر رئيس الهيئة التنسيقية الروسية، ميخائيل ميزنتسييف، عن إيجابية عودة مقومات الحياة والبنى التحتية وترميم القطاعات الخدمية وتوفير المياه والكهرباء، ودورها في إعادة اللاجئين إلى سوريا، مشيرًا إلى “أن إحصاءات العائدين إلى مناطق حكومة النظام تفوق المليونين ونصف”.

بينما لا تعكسُ الإصلاحات الخدمية في مختلف القطاعات التي تحدّث عنها المسؤولون السوريون والروسيون، سوى مشاهد الدمار والانفلات الأمني السائد، في ظل سيطرة الميليشيات على الدوائر والمؤسسات الحكومية، وانتشار الفساد والمحسوبيات مع تدخُّل حلفاء نظام الأسد في مختلف المجالات.
وبحسب التقرير الصادر عن المكتب الأوروبي لدعم اللجوء، في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني، “إن الجهات الأجنبية الفاعلة، بما في ذلك إيران وروسيا وحزب الله اللبناني والميليشيات الموالية لحكومة النظام السوري، تمارس نفوذًا كبيرًا على أجزاء من المنطقة الخاضعة اسميًّا لسيطرة النظام السوري”.
ووفقًا لتصورات حكومة نظام الأسد، باتت سوريا تعيش واقعًا خدماتيًا ومؤسساتيًا مستتبًّا، إلا أنها فعليًّا غير قادرة على تأمين المقومات الحياتية الرئيسية للذين ما زالوا يعيشون في مناطق سيطرتها، فكيف يمكنها أن تقوم بتقديم التسهيلات الأمنية والخدمية لاستعادة حياتهم الطبيعية في سوريا.
حكومة النظام لم تعمل حتى على ترحيل الركام الذي سبّبته طائراتها سابقًا، إلى جانب الخدمات الصحية في المرافق العامة التي يغيب عنها الاهتمام بشكل كُلّي.
وهذا ما أكّده مصطفى (اسم مستعار)، رجل يقيم في مدينة حلب، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “هناك غياب لدور المؤسسات الخدمية بشكل كلي، لا سيما تراكم الركام والأوساخ وانقطاع الكهرباء والماء عن معظم الأحياء”.
وأكّد أيضًا “أن الواقع الصحّي يشهد تدهورًا بحيث لا يجد الأهالي مكانًا لمرضاهم في المشافي غير الصالحة للمرضى، ما يضطر العديد منهم إلى البحث عن المشافي الخاصة التي ترتفع فيها تكاليف الطبابة، ما يدفعهم إلى طرق أبواب التجّار وميسوري الحال لمساعدتهم في تحمُّل تكاليف الطبابة”.
من جهته، أكّد الصحفي منار عبد الرزاق خلال حديثه لـ”نون بوست”، “أن إعادة تأهيل البنى التحتية التي تتحدث عنها حكومة نظام الأسد لا ترقى لأن يُقال عنها ترميم، مشيرًا إلى وجود المئات من المنازل في أحياء حلب الشرقية ومحافظات ومدن سورية أخرى سيطر عليها نظام الأسد معرضة للانهيار، وحكومة النظام لم تعمل حتى على ترحيل الركام الذي سبّبته طائراتها سابقًا، إلى جانب الخدمات الصحية في المرافق العامة التي يغيب عنها الاهتمام بشكل كلّي، ما يعكس واقعًا سوداويًّا تعيشه المدن الواقعة تحت سيطرة نظام الأسد، الذي ينتظر المنح الخاصة بالخدمات لامتصاصها من قبل مسؤولين، والتي تشكّل 90% من المساعدات.
هجرة السوريين متواصلة
وكما ذكرنا، فمن المفارقات أن حملة الترويج لعودة المهجرين التي يتبناها النظام والروس تتزامن مع موجة هجرة واسعة تشهدها البلاد، حيث تتراصف طوابير السوريين أمام مراكز الهجرة والجوازات في مناطق سيطرة نظام الأسد، ويلجأ السوريون إلى خيارات صعبة من أجل مغادرة البلاد.
وتبدأ مسيرة الرحلة في الحصول على جواز سفر من مراكز الهجرة والجوازات، وتنتهي مع المهرّبين والسماسرة في دمشق للحصول على تذكرة طائرة في شركة أجنحة الشام للطيران، والتي نشطت في نقل السوريين إلى بيلاروسيا، أو الحصول على طرق تهريب تمرُّ عبر مناطق المعارضة السورية في الطريق إلى تركيا ولاحقًا نحو أوروبا.
ويعمل السوريون على بيع ممتلكاتهم لدفع المبالغ الباهظة للحصول على جواز سفر، والتعامل مع شبكات التهريب من السماسرة والمهرّبين في دمشق بآلاف الدولارات، لقاء عمليات النقل إلى البلدان المتاحة التي تسوِّق لها شركة أجنحة الشام للطيران، وآخرين يعملون تحت مظلة شخصيات تتبع للنظام.

وعن هذا الموضوع، اعتبر عبد الرزاق “أن أجهزة النظام الأمنية مسؤولة عن دفع آلاف اللاجئين إلى الحدود ما بين بيلاروسيا وأوروبا عبر شبكات تهريب بشر لها علاقات مباشرة مع النظام، حيث حصل مسؤولون مقرّبون من النظام على مبالغ هائلة من الناس ورموا بهم على الحدود، ومن ثم علّقوا الرحلات إلى تلك المنطقة وتركوا الناس لمصيرها المجهول”.
انتهاكات تطال العائدين إلى البلاد
تعرّض مئات اللاجئين والمهجّرين السوريين الذين عادوا إلى البلاد خلال الأعوام القليلة الماضية للانتهاكات، عقب اتساع رقعة سيطرة حكومة نظام الأسد، وعمليات التسوية التي جرت خلال العام 2018 في عدة محافظات سورية.
وقال مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، في حديث لـ”نون بوست”: “إن نسبة العائدين إلى سوريا لا تتجاوز 7% من إجمالي عدد اللاجئين السوريين حول العالم، 6% منهم عادوا من دول جوار سوريا كلبنان والأردن”، بينما نفى “وجود عودة حقيقية للاجئين والنازحين رغم معاناة التشريد والتهجير التي يكابدونها”.
وثّقت منظمة العفو الدولية انتهاكات بحقّ عدد من اللاجئين السوريين الذين عادوا إلى مناطقهم الأصلية، حيث تعرضوا للاعتقال والاختفاء والتعذيب والاغتصاب على أيدي قوات نظام الأسد.
وأضاف حول الانتهاكات التي يتعرّض لها اللاجئون العائدون إلى مناطق نظام الأسد: “إنهم يتعرضون لأنماط كثيرة من الانتهاكات التي تصل إلى 45% من العائدين، وهي جزء من الانتهاكات التي يتعرض لها السوريون في مناطق نظام الأسد، لا سيما أبناء المناطق التي ثارت ضد نظام الأسد، حيث يتمّ اتهامهم بالخيانة ويخضعون لتحقيقات واعتقالات تعسفية من أجهزة أمن النظام، إلى جانب الابتزاز المالي والسطو على الممتلكات العقارية”.
وأكّد: “خلال فترة العامَين الماضيَين تعرّض أكثر من 800 شخص لانتهاكات من قبل نظام الأسد، لذلك سوريا ليست آمنة لعودة اللاجئين”، مشيرًا إلى “أن نظام الأسد غير مكترث بعودة اللاجئين، فهو يعمل على استدامة التهجير لكن روسيا هي التي تريد عودة اللاجئين للوصول إلى هدفها في الحصول على ملف إعادة الإعمار”.
ووثّقت منظمة العفو الدولية انتهاكات بحقّ عدد من اللاجئين السوريين الذين عادوا إلى مناطقهم الأصلية، حيث تعرضوا للاعتقال والاختفاء والتعذيب والاغتصاب على أيدي قوات نظام الأسد، ما يثبت أنه لا يزال من غير الآمن عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم.

ونقلت الشبكة في تقريرها خلال سبتمبر/ أيلول الماضي، شهادات العشرات من الأشخاص، بينهم رجال ونساء وأطفال، عادوا إلى سوريا مع ترويج روسيا ونظام الأسد لعودة اللاجئين، وضغط البلدان التي لجأوا إليها بغية عودتهم إلى بلادهم، حيث تعرض هؤلاء العائدون للاعتقال والتعذيب والاغتصاب من الأجهزة الأمنية التابعة للنظام.
ختامًا، يبدو أن روسيا والنظام يستثمران في عودة اللاجئين لتأكيد رسالتهما بأن “سوريا آمنة” أمام المجتمع الدولي، بغية الفوز بتمويلات إعادة الإعمار والتباهي بالنصر الموهوم، وفي حين يمكن لموسكو ودمشق تكرار إقامة المزيد من المؤتمرات الخلبية التي تدعي الحرص على تمهيد الأرضية لإعادة اللاجئين، لكن الحقائق على الأرض تقول إن من بقي في سوريا يريد الهجرة، ولا أحد تقريبًا ممن يعيش في الخارج يريد العودة إلا من تقطعت بهم السبل ولم يبق لهم خيارًا أصلًا.