من تشاد والسودان إلى غينيا ومالي، مرورًا بإثيوبيا وموزمبيق عبر حدود نيجيريا وبوركينا فاسو ومالي، ثم صعودًا مرة أخرى إلى الشمال حيث تونس، تعرّض قطار الديمقراطية في القارة الأفريقية خلال هذا العام لعثرات وعقبات أخرجته حينًا عن قضبان مساره، فيما واجهَ انقلابًا في أحيان أخرى.
تتربّع أفريقيا على صدارة البقاع الأكثر سخونة وتقلُّبات واضطرابات في خارطة العالم، إذ شهدت منذ تأسُّس جمهورياتها واستقلالها عن المستعمرات الأوروبية، منتصف القرن الماضي، أكثر من 200 انقلاب، نجح ما يقارب نصفها وفشل الباقي، بمتوسط 4 محاولات في العام، وإن تراجعَ هذا الرقم مؤخرًا لكن تبقى القارة على رأس الهرم.
في هذه الإطلالة نعرّج سريعًا على أبرز المحطات التي تعرّض فيها قطار الديمقراطية داخل أفريقيا لعثرات، سواء كانت انقلابات ناعمة أو خشنة، مع الإشارة إلى أنه رغم تعدد تلك المحطات، فإن الشعوب الأفريقية ضربت أروع المُثُل في مقاومة الاستبداد.
4 انقلابات خشنة
شهدت القارة خلال العام الجاري الذي يلملمُ أوراقه قرابة 4 انقلابات عسكرية خشنة، البداية كانت من أفريقيا الوسطى، حين أعلنت الحكومة أن جماعات مسلحة، بداية عام 2021، حاولت الإطاحة بالرئيس فوستين أرشانج تواديرا (المعاد انتخابه حديثًا)، لكن قوات الجيش أحبطت تلك المحاولة، وفرضت حالة طوارئ لمدة 15 يومًا، بدءًا من 21 يناير/ كانون الثاني وحتى 4 فبراير/ شباط.
وبعد شهرَين من تلك المحاولة، وتحديدًا في مارس/ آذار، شهدت النيجر محاولة انقلابية أخرى، إذ حاولَ منشقّون داخل الجيش فرض التغيير بالقوة، ومحاولة اعتقال الرئيس محمد بازوم، المنتخَب حديثًا وقتها خلفًا لمحمد يوسوفو، غير أن الجيش النيجري أحبطَ المحاولة وألقى القبض على المشاركين فيها.
ومن النيجر إلى تشاد التي تعرّضت هي الأخرى لأحداث وصفتها المعارضة بالانقلاب العسكري، فيما اعتبرها آخرون -على رأسهم الاتحاد الأفريقي- تبادلًا سلسًا للسلطة التي انتقلت من الرئيس الراحل إدريس ديبي، الذي قُتل على يد مسلحين متمردين، إلى نجله محمد إدريس، الذي رأس المجلس العسكري الانتقالي الذي دُشِّنَ في أبريل/نيسان الماضي لإدارة شؤون البلاد.
يعدّ السودان الدولة الأكثر عددًا في الانقلابات داخل القارة، والتي تجاوزت أكثر من 200 محاولة منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي.
وفي مالي كانت المحطة الأبرز لقطار الانقلابات، إذ يبدو أن أطماع الجنرال أسيمي جويتا الذي قادَ انقلابًا على الرئيس إبراهيم أمادو كيتا، كانت أكبر من مجرد الإطاحة بالرئيس فقط، ليعاود الانقلاب مرة أخرى في مايو/ أيار الماضي على الرئيس الانتقالي باه نداو ورئيس وزرائه مختار وان، ليعلن نفسه رئيسًا للبلاد.
وفي بداية سبتمبر/ أيلول الماضي، قامت قوات خاصة غينية بمحاولة انقلاب عسكري، احتجزت خلالها رئيس البلاد ألفا كوندي، الذي ظهر في مقطع مصوَّر حافي القدمين، جالسًا على أريكة، يرتدي سروالًا من الجينز، فيما تمَّ فرض حالة الطوارئ القصوى حتى إشعار آخر، قبل أن يتمكّن الجيش من إفشال تلك المحاولة.
بالعموم، يعدّ السودان الدولة الأكثر عددًا في الانقلابات العسكرية داخل القارة التي تجاوزت أكثر من 200 محاولة منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، حيث شهدَ منذ الاستقلال أكثر من 15 انقلابًا، نجحَ 5 منها فقط، تليه بوروندي بـ 11 انقلابًا، ثم نيجيريا وغانا بمعدل 8 انقلابات، كذلك سيراليون التي شهدت 3 انقلابات بعضها كان دمويًّا، لتتصدر أفريقيا قائمة قارات العالم من حيث عدد محاولات الانقلاب.
الانقلابات الناعمة المستمرة
لم تستمر محاولات الانقلابات التي شهدتها دول غرب ووسط وجنوب القارة طويلًا، إذ سرعان ما أُسدل الستار عنها بإجهاضها بشكل أو بآخر، فيما بقيَ المشهد السوداني التونسي الأكثر تأثيرًا واستمرارية، بل من المتوقع أن يستمرَّ للعام القادم وسط حالة من الترقب من قبل قرابة 55 مليون عربي (43 مليون سوداني و12 مليون تونسي).
ففي 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فوجئ السودانيون بحملة اعتقالات غير مسبوقة، شملت عددًا من الوزراء، مع وضع رئيس الحكومة عبد الله حمدوك قيد الإقامة الجبرية، هذا بخلاف إعلان قائد الجيش عبد الفتاح البرهان عن حزمة إجراءات وصفها الشارع السوداني بـ”الانقلاب العسكري مكتمل الأركان”.
أثار هذا الانقلاب البرهاني على وثيقة 15 أغسطس/ آب 2019، التي تعدّ المرجعية لسودان ما بعد البشير، حفيظة الشعب الذي خرج عن بكرة أبيه يطالب بإسقاط الانقلاب، وسط تنديد إقليمي ودولي بهذه الخطوة التي تعيد البلاد إلى عصور الظلام مرة أخرى، بعدما تنفّست الصعداء في أبريل/ نيسان 2018.
لم تعد الشعوب الأفريقية تلك الأرقام المهمَلة في خارطة العالم الديموغرافية، ولم يعد الأفريقي ذلك المواطن الذي اعتاد رفع الراية البيضاء، مستسلمًا لكل من يتلاعب بأقداره ويرسم مساره.
ومن السودان إلى الشمال الأفريقي، حيث تونس أول محطة في قطار الربيع العربي، والتي كان يُنظر إليها على أنها الناجي الوحيد من مقصلة الثورات المضادة التي رعتها بعض الدول العربية حفاظًا على مصالحها ونفوذها الإقليمي، إذ استيقظ التونسيون صبيحة 25 يوليو/تموز الماضي على قرارت مفاجئة من الرئيس قيس سعيّد، وضعت مسار الديمقراطية في البلاد في مفترق طرق.
شملت القرارات إقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، وتجميد اختصاصات البرلمان لمدة 30 يومًا، ورفع الحصانة عن النواب، فيما منحَ سعيّد نفسه صلاحيات رئيس الوزراء والنيابة العامة، في خطوة أثارت الجدل رغم ما لاقته من دعم وتأييد من أنصار الثورة المضادة في تونس وخارجها.
وحتى كتابة هذه السطور، لم يقدِّم الرئيس أي حلول عاجلة للوضع الذي يسير من تدنٍّ لآخر، وسط تفشّي الفوضى وانتشار البطالة وتأزُّم الوضع الاقتصادي، مكتفيًا بتصريحات للاستهلاك المحلي، على شاكلة إجراء “استشارة شعبية على الإنترنت” تشمل التونسيين في الداخل والخارج، لتقديم مقترحات بشأن الإصلاحات السياسية، في الفترة بين الأول من يناير/ كانون الثاني وحتى نهاية مارس/ آذار عام 2022، والتعهُّد بإجراء الانتخابات البرلمانية يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول العام المقبل.
انتفاضة شعوب القارة
لم تعد الشعوب الأفريقية تلك الأرقام المهمَلة في خارطة العالم الديموغرافية، ولم يعد الأفريقي ذلك المواطن الذي اعتاد رفع الراية البيضاء، مستسلمًا لكل من يتلاعب بأقداره ويرسم مساره، فقديمًا كانت تمرُّ الانقلابات مرور الكرام، فلا مقاومة تُذكر ولا اعتراض ملموس، وهو ما كان يطمع فيه الطغاة ويسيّلُ لُعابَ المستبدين.
ورغم الانقلابات المستمرة التي تشهدها القارة، والتي تتصدر بها القائمة، إلا أن ذلك تزامنَ مع ارتفاع الأصوات الشعبية الرافضة للاستسلام لهذا التراجع في المسار الديمقراطي، فكانت المقاومة للمستبد والتصدي لمخططاته، بل العمل وفق تشكيلات محلية وإقليمية للضغط على القوى الداعمة له في الخارج، في تطور يعكس حجم الوعي الذي باتت عليه شعوب القارة.
استعرضت دراسة نشرها موقع Africa Report بعنوان “أفريقيا عام 2021.. نهاية الديمقراطية؟”، أوجُه المقاومة التي قامت بها شعوب القارة ضد المستبدين، ففي السنغال خرج الشباب إلى الشوارع تنديدًا باستبداد رئيس الدولة الحاكم ماكي سال، كما تجاهل المواطنون في زامبيا التهديدات ووسائل الإعلام المنحازة والرشوة لطرد حكومة الرئيس إدغار لونغو الاستبدادية، وفي غينيا أظهر الشعب دعمه للديمقراطية بنسبة 77% وفق استطلاع رأي هناك، مقابل 62% في مالي.
وفي السودان ما زال الشعب يسيطر على الشارع في مواكب مليونية غير مسبوقة، رافضًا كافة إغراءات الجنرالات، ومطالبًا بإسقاط الانقلاب وتسليم السلطة للمدنيين، دافعًا ثمنًا غاليًا من الدماء والأرواح والوضع المعيشي الذي يتفاقم يومًا تلو الآخر، وسط إصرار على عدم وقف التصعيد إلا بعد عودة العسكر لثكناتهم.
الوضع ذاته في تونس وإن اتّخذَ الاحتجاج صُورًا متباينة ولم يقتصر على الاحتجاجات فقط، حيث تصاعد الرفض الشعبي ضد تقويض سعيّد للمسار الديمقراطي للبلد الذي كان أيقونة الشعوب العربية طيلة العقد الماضي، ورغم الدعم الذي يتلقّاه الرئيس من بعض دول المنطقة لدعم قراراته الانقلابية -بحسب وصف الكثير من القوى-، فإن الشارع لم يتوقف عن مطالِبه بعودة تجربته الديمقراطية المسلوبة مرة أخرى.
وفي المجمل، رغم النفق المظلم الذي دخلته أفريقيا هذا العام من خلال الانقلابات المتعددة التي شهدتها دول القارة، إلا أن في نهايته ضوء شمعة من الممكن أن يكون نقطة انطلاق لانتفاضة توعوية شعبية ضد الأنظمة الاستبدادية، إذ خلعت شعوب القارة عباءة الاستعباد والاستسلام، مؤمنة ان الديمقراطية هي السبيل الوحيد للحياة مهما كان الثمن المنتظَر دفعه في سبيل تحقيقها.