في نموذج لافت للعمل العام، وعلى مدار أسبوع تقريبًا، قضى السيسي الأيام الأخيرة من العام الميلادي الحالي متنقلًا بين أرجاء الجنوب المصري، من أسيوط إلى قنا إلى أسوان، وذلك بعد مدة وجيزة، أيضًا، من وجوده في الأقصر لافتتاح التطويرات الأخيرة في طريق الكباش السياحي.
خلال تلك الزيارات، افتتح السيسي طيفًا واسعًا من المشاريع الحكومية والخدمية، في مجالات المقاولات والنقل والطاقة والزراعة، والتي يشرفُ عليها مع الشركات الخاصة ويشاركُ في ملكية بعضها الجيشُ المصري، بعد توسُّع نفوذه الاقتصادي على نحو غير مسبوق، بالتوازي مع عودته إلى السياسة منذ يوليو/ تموز 2013.
تحدّث السيسي على نحو شبه متواصل، خلال الأيام الماضية، موجِّهًا رسائله إلى عدة أطراف، داخليًّا وخارجيًّا، وذلك بعد مرور حوالي 7 أعوام على وصوله إلى حكم مصر، وبمناسبة افتتاح وتدشين تلك المشاريع التي وصفها بـ”المستحيلة”.. فما حقيقة تلك الرسائل؟
“أنا لستُ مبارك”
إحدى السرديات التي صارت صُنوًا لحقبة الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك، والتي باتت متداولة كـ”تفسير” للثورة الشعبية التي تسبّبت في الإطاحة به بعد 3 عقود من حكم البلاد، أنه، أي مبارك، لم يكن قادرًا، من الناحية الصحية، على القيادة وبالأخصّ في الأعوام الأخيرة، كما أنه أهملَ التنمية الشاملة في البلاد، في الريف والصعيد وسيناء ومطروح، لصالح القشرة الخارجية: القاهرة.
يحاول السيسي، بشتّى الطرق، أن يبعث إلى الرأي العام، من الحين للآخر، رسالةً مفادها: “أنا لستُ مبارك”، وهي رسالة ذات حدَّين، أحدهما إيجابي، من خلال الإصرار الدائم على استظهار الرياضة وركوب الدراجة وتفقُّد الأحوال العامة بصورة دائمة عن قرب، على غرار تخصيص يوم الجمعة لتفقُّد أعمال الإنشاءات شرق القاهرة.
ومن جهة أخرى، يحاول السيسي أيضًا أن يرسل إلى الرأي العام رسالة مفادها أنه ليس كمُبارك، الذي انحنى أمام الموجة، واستجاب للضغوط الداخلية، وبعض الضغوط الخارجية المطالِبة برحيله في يناير/ كانون الثاني 2011، وإنما هو، السيسي، أكثر حنكة وفطنة من رئيسه السابق.
في هذا السياق، يركّز السيسي دومًا، بالقول والفعل، على تأكيد أنه تعلّمَ من درس يناير/ كانون الثاني جيدًا؛ فقد سلَّحَ القوات الأمنية بشكل أفضل، ونقل الدواوين الحكومية إلى خارج القاهرة التقليدية، ودشّن أجهزة عسكرية رسمية لمكافحة التمرد، وصار أكثر تحكُّمًا بمواقع التواصل الاجتماعي، وأصلب في مواجهة الانتقادات الخارجية لأوضاع حقوق الإنسان.. ليس كُمبارك.
في زياراته تلك إلى الصعيد، حرص السيسي على توجيه تلك الرسالة، بشقَّيها، إلى الرأي العام؛ فأنا لست مبارك، الذي ثرتم عليه لترهُّله الذي انعكس على وضع مرافق الدولة، بل على العكس، أنا، رغم سني الكبير (67 عامًا)، أختلفُ عنه، إذ إنني أكثر يقظة، أكثر صلابة، لا أتراجع عن سياساتي الجذرية تحت الضغوط مثله.
لذلك، ألقى السيسي في تلك المناسبة باللَّوم على من سبقوه في حكم البلاد، لتسبُّبهم -بسوء إدارتهم- في تحويل البنية التحتية، من طرق وموانئ ومطارات، إلى “كهن” بنصّ كلامه، بينما هو في المقابل يستطيع أن يتّخذ أصعب القرارات بلا خوف، لأنه -على حد قوله- لا يخشى على المنصب، كما كان الحال مع حكّام مصر منذ أربعينيات القرن الماضي.
وقد استعرض السيسي قدرته على إنجاز ما لم يستطع سابقوه إنجازه، عمليًّا، من خلال معاودة افتتاح مشروع توشكى الزراعي العملاق جنوب البلاد، والذي كان قد تعطّلَ إبّان حكم مبارك، لأسباب مالية وتقنية، ولكن السيسي أعادَ إحياءه مجددًا.
لكلّ شيء تكلفة.. “مفيش دعم”
أحد أبرز الأسباب التي قوَّضت قدرة الحكّام السابقين على الارتقاء بالبنية التحتية للبلاد، والتي تجلّى فيها خوفهم على مناصبهم، وفقًا للسيسي؛ هي موافقتهم على سياسة “الدعم”، التي تؤدّي إلى تكريس التخلُّف اجتماعيًّا، بنصّ كلامه، وذلك تجنُّبًا لإثارة المواطنين ضدهم.
في هذا السياق، يقول السيسي خلال لقائه بالفريق كامل الوزير، المسؤول عن ملف النقل في الحكومة ورئيس الهيئة الهندسية للجيش سابقًا، إن الدولة يمكنها أن تتحمّل، مثلًا، تسيير مرفق السكة الحديدية، مدعومًا، لمدة أقصاها 3 أعوام؛ ولكن استمرار الدعم يعني، مباشرة، انهيار المرفق وعدم القدرة على إدارته بكفاءة.
لذلك يعتقد السيسي أن أبرز ما تحلّى به خلافًا للحكّام السابقين، هو القدرة على مواجهة المجتمع بالمشاكل الحقيقية دون خوف، فالمجتمع المصري، وفقًا لروايته، أمام خيارَين لا ثالث لهما: إما أن يدفع ثمن الخدمة التي يتطلّع إليها، وإما لا يدفع ويتّخذ مسارًا متهوِّرًا سيؤدّي إلى كوارث، كادت أن تقع فعلًا خلال يناير/ كانون الثاني 2011.
وبالتبعيّة، أصدر السيسي وزفَّ للمواطنين أخبارًا جديدة عن التقشف ورفع الدعم، وذلك بالتوازي مع افتتاح كل مشروع جديد، وكأن لسان حاله: ليس في الإمكان أفضل ممّا هو كائن. فأعلن نهاية عصر “بطاقة التموين”، فلا إضافة للمواليد الموجودين حاليًّا، ولا بطاقات جديدة للمتزوِّجين، ونهاية دعم الكهرباء بحلول عام 2025، والاستعداد لتسعير جديد لتذكرة القطار الحكومي.
إلى جانب ترويجه لتلك السياسة باعتبارها الطريقة الوحيدة لتلافي مسار يناير/ كانون الثاني الذي كان سيؤدّي إلى تدمير البلاد، لأنها ستسمح للمواطنين بالتمتُّع بخدمة جيدة مدفوعة الأجر وبلا دعم، بدلًا من خدمة رديئة مدعومة تُغضب المواطنين؛ فإن السيسي يسوّق لكونها الطريقة التي تعلّم المواطن أن يصطاد، في حين كان السابقون يعطونه السمك جاهزًا، حتى لو على حساب المصلحة العامة.
الدفع المسبق والقضاء على الاقتصاد غير الرسمي
إحدى الركائز الأساسية لفهم استراتيجية السيسي في إجبار المواطنين على الانخراط في سياساته، التي باتت تُعرَف بـ”الرأسمالية العسكرية”، هي تطويع التكنولوجيا في المعاملات الخدمية بين المواطن والحكومة، وذلك لمراقبة وضمان استيفاء كل المستحقات، تحت دعاوى الرقمنة ومكافحة الفساد وتسهيل الخدمة.
على سبيل المثال، رغم كونه نظامًا معقدًا يغامر بالأمان الاجتماعي للمواطن، فإن السيسي لا يجدُ حرجًا في التصريح برغبته في أن تصبح كل الخدمات الحكومية الأساسية، الكهرباء والمياه والغاز، مسبوقة الدفع، وذلك بالإضافة إلى كون تسعيرها مرتبطًا بالسعر الحر، بما يعني أن من يملك النقود يستطيع الحصول على الخدمة، ومن لا يملك لن يحصل على تلك الخدمات الضرورية أبدًا، لأنها مسبوقة الدفع، لا علاقة للحكومة بها.
في حديثه مع محمد شاكر، وزير الكهرباء وأحد الرجال الأوفياء لأحلام الرئيس، اقترح السيسي أن يتمَّ تغيير العدادات التقليدية القديمة، والتي تعمل بنظام: احصل على الخدمة ثم ادفع، والذي يتيح هامشًا زمنيًّا للمواطن المتعثّر، وهو المعمول به في معظم بلاد العالم إلى الآن؛ بنظام “مسبوق الدفع“، وذلك كحلّ لمشكلة القراءات الظالمة والفواتير المرتفعة.
في السياق نفسه، صرّح السيسي أنه أعطى أوامره للأجهزة المعنية بوقف ملاحقة المصانع المخالفة (مصانع بير السلم)، والتي تعمل دون أوراق رسمية، مقابل إجبارها على الانخراط في الاقتصاد الرسمي، وهو ما يعني المزيد من الضرائب الحكومية والتكاليف المرتفعة في التشغيل.
خلال تلك الزيارات، أعلنَ السيسي أيضًا نيته المضيّ قدمًا في مسار زيادة المعروض من العقارات، وذلك بعد اتخاذه تدابير حكومية كثيرة خلال الفترة الماضية لضمان سيطرة الدولة، وحدها، على سوق العقار المتوسط، من أجل القضاء على فكرة أن يكون العقار مخزنًا لرأس المال وتحقيق الربح، مطالبًا المواطنين بالحفاظ على أموالهم في البنوك، في أقل تقدير، وفقًا لكلامه (الشمول المالي).
أبرز ما تحدّث عنه السيسي في سياق تدخُّل الدولة لزيادة المعروض العقاري، هو خطته لبناء 100 ألف شقة، مفروشة ومشطبة تشطيبًا كاملًا، أي جاهزة للسكن، وعرضها للإيجار على الشباب المقبل على الزواج، ما يتوقع منه أن يساهم في الحدّ من سياسة التعامل مع العقار كأداة للربح من جانب صغار المستثمرين، لصالح الاستثمار البنكي وفقًا لتلك الخطة.
التحسُّس الزائد من اتهامات الفساد
قبل أيام قليلة من تلك الجولة، بثَّ اليوتيوبر المصري المعارض في الخارج، عبد الله الشريف، تسريبًا صوتيًّا تضمّن مكالمة هاتفية بين رجل وسيدة عرّفا نفسيهما بأنهما من الفريق الاستشاري لرئاسة الجمهورية، وقد حوى التسريب تفاصيل فساد ضخمة تقدَّر بملايين الجنيهات عبر شبكة علاقات تصل إلى صندوق “تحيا مصر” الذي يشرف عليه السيسي شخصيًّا.
تسبّب ذلك التسريب في إرباك مؤقّت بالمشهد العام في مصر، خاصة أنه ذكّر المواطنين بوقائع تسريبات المقاول الذي عمل مع الجيش نحو عقدَين، وقرّر فضح ما لديه، بعد الخلاف مع الجهات السيادية وتسوية أعماله في مصر، متّجهًا نحو الاستثمار في أوروبا، والتي عرفَت بتسريبات محمد علي في سبتمبر/ أيلول 2019.
حاولت الأجهزة السيادية احتواء التسريبات الأخيرة سريعًا، وذلك عبر الضغط على الشريف من خلال اعتقال والده المقيم في مصر من جهة، بالتزامن تقريبًا مع القبض على الشخصَين المذكورَين في التسريب وتصوير اعترافات ينكران خلالها أي صلة بأجهزة الدولة.
اتّهمَ السيسي المسؤولين عن إدارة ما يُعرَف بشركات قطاع الأعمال الحكومي بإهدار المال العام، عبر تحويل أراضي الدولة التي يفترض أن تُقام عليها مشاريع إنتاجية إلى ڤيلات وشاليهات.
خلال تلك الجولة في صعيد مصر، بدا السيسي حذرًا للغاية تجاه ذلك الأمر، فبادر بالردّ على مواطن طلبَ منه النظر في تفصيلة مالية تخصُّ موظفي الصعيد، وقنا على وجه التحديد، قائلًا على الملأ: “أنا لا أهادي أحدًا، أنا لا أعطي لأحد أي أموال”.
كذلك أثنى السيسي على وزير الكهرباء والطاقة محمد شاكر، لأنه رفض التعاون مع الدولة في المشاريع القومية رغم امتلاكه شركة خاصة تعمل في المجال نفسه، مفضّلًا -على حد قول السيسي- أن يقوم ببعض الأعمال في تلك المشاريع، دون تقاضي مقابل.
تعمّد السيسي أيضًا أن يفاوض عددًا من المقاولين العاملين في مشاريع بناء المحاور على الهواء مباشرة بخصوص أعمالهم القادمة، على نحو يظهره ممثّلًا للدولة يحارب من أجل الحصول على أفضل سعر ممكن في أقل مدى زمني من هؤلاء المقاولين.
وفي استمرار لتلك الاستعراضات، اتّهمَ السيسي المسؤولين عن إدارة ما يُعرَف بشركات قطاع الأعمال الحكومي بإهدار المال العام، عبر تحويل أراضي الدولة التي يفترض أن تُقام عليها مشاريع إنتاجية إلى ڤيلات وشاليهات، مشيرًا إلى أنه لا يخاف من أي أحد طالما أن الأمر يتعلق بالمصلحة العامة.
العلاقة مع القطاع الخاص لا تزال مضطربة
رغم ما يروّجه النظام في مصر عن ازدهار أعمال القطاع الخاص في البلاد تحت قيادة المؤسسة العسكرية، إلا أن تلك الجولة للسيسي في صعيد مصر، كشفت أن العلاقة بين الطرفَين لا تزال مضطربة على نحو واضح.
قبل تلك الجولة بأيام، شنَّ الإعلام الحكومي هجومًا حادًّا على رجل الأعمال البارز نجيب ساويرس، وذلك على خلفية تصريحاته لإحدى الوكالات الأجنبية بخصوص تجنُّبه الشخصي لخوض أي منافسة مشترَكة مع الشركات الحكومية على المشاريع الجديدة، لأن نتائجها تكون محسومة سلفًا لصالح شركات النظام، لا سيما شركات الجيش.
في تلك الجولة أيضًا، واصلَ السيسي الحملة نفسها ضد ساويرس، قائلًا إنه انخرطَ مع الدولة في مشاريع تقدَّر قيمتها من طرفه وحده بـ 75 مليار جنيه خلال 7 أعوام فقط، أي أنه كان يعمل في العام الواحد بما لا يقلّ تقريبًا في المتوسط عن 11 مليار جنيه، وفقًا للسيسي.
وبسبب حرصه على استظهار النزاهة علنًا، قايضَ السيسي رجلَي أعمال مرموقَين في مجال المقاولات، على الهواء مباشرة، ببناء مشاريع في قطاع النقل، خلال عام واحد فقط، مقابل الحصول على 25% من المستحقات فقط، مع إرجاء الباقي لأجل غير مسمّى، فتلعثم أحدهم أمام الكاميرات خوفًا من عواقب الرفض والمناقشة، فيما سارع الثاني بالردّ: “أوامر حضرتك يا فندم!”.
في الوقت نفسه تقريبًا، انتشر مقطع فيديو للفريق كامل، الوزير المسؤول عن النقل، خلال أحد اللقاءات التلفزيونية يقول خلاله إنه تدخّلَ شخصيًّا لمنع انتقال مهندس كفء (52 عامًا) إلى إحدى شركات القطاع الخاص، براتب يعادل 5 أضعاف راتبه الحكومي “بالفردة والدراع” (القوة المعنوية)، مهددًا تلك الشركة بعدم الحصول على أي مقاولات جديدة مع الدولة حال انتفاعها من الكوادر البشرية الحكومية.
الخلاص الصعب
مرّر السيسي عام 2019 تعديلات دستورية تعزِّز سيطرته على الجهات المختلفة في الدولة، وعلى رأسها القضاء، وتكرِّس الدور السياسي للجيش، وتتيح له البقاء في السلطة مُددًا إضافية إلى عام 2034. هذا فيما يخص التكييف القانوني.. ماذا عن الإرادة؟
خلال تلك الجولة، عاود السيسي التأكيد على أنه يمتلك كمًّا هائلًا من الأحلام، في طريق إعادة رسم الديموغرافيا المصرية من جديد، وبالأخص مواضيع السكّان والتمدُّد العمراني، وعلاقة الدولة الاجتماعية بالمواطن، والتي يسابق الزمن من أجل تحقيقها.
قال السيسي أيضًا إن كل أمانيه أن يمنحه الله القدرة والمُهلة كي يظل خادمًا له وللمصريين، مشيرًا إلى أن صعوده لهذا المنصب بعد عام 2011 الذي كادَ يشهد نهاية البلاد، واستمراره فيه إلى الآن، علامة على أن تلك المهمة لم تكتمل بعد، منوّهًا عن أنه مستعدّ للقاء لله بكل أعماله، فالله يعلم ويعينُ من يريد البناء والتعمير.
في الواقع، يبذل السيسي بالفعل قصارى جهده لإبراز نفسه على الدوام الحاكم الأوحد للبلاد، والمنحة الإلهية للمصريين، ويعيد هندسة المشهد من الحين للآخر بحيث يقصي أي اسم يمكن أن يمثّل تهديدًا على تفرُّده بالبلاد، ممثلًا عن الجيش في السلطة.. فهل ينجح السيسي في البقاء حاكمًا حتى ينجز كل ما يحلم بإنجازه من سياسات تكرِّس لحكم الفرد وهيمنة الجيش وتطويع التكنولوجيا لخدمة رؤاه الاقتصادية، أم أن الأيام قد تخبئ له ما لا يتمناه؟