تحدّثنا في مقال سابق عن التراث المادي في سوريا، وغناه التاريخي، وما آل إليه بسبب ممارسات النظام واستمرار الحرب. وفي مقالنا هذا سنقفُ عند التراث اللامادي في سوريا، من خلال تعريفه وتعداد أنواعه ورصد واقعه.
ما هو التراث اللامادي؟
ظهر مصطلح “التراث الثقافي اللامادي” عام 2003 مع عقد الأمم المتحدة لاتفاقية صون التراث اللامادي للشعوب، وقد عرّفت الاتفاقية التراث اللامادي بأنه “الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات -وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية- والتي تعدّها الجماعات والمجموعات، وأحيانًا الأفراد، جزءًا من تراثهم الثقافي. وهذا التراث الثقافي غير المادي المتوارث جيلًا عن جيل، تبدعه الجماعات والمجموعات من جديد بصورة مستمرة، بما يتفق مع بيئتها وتفاعلاتها مع الطبيعة ومع تاريخها”.
وحسب الاتفاقية، فإن دور هذا التراث يتجلّى بأنه “ينمي لديها -أي الجماعات- الإحساس بهويتها والشعور باستمراريتها، ويعزِّز من ثم احترام التنوع الثقافي والقدرة الإبداعية البشرية”.
ونستطيع من خلال هذا التعريف، تصنيف التراث اللامادي في عدة مجالات، على الشكل التالي:
– التقاليد وأشكال التعبير الشفهي (وتشمل اللغة والحكايا الشعبية والأمثال..).
– الفنون الحرفية التقليدية (مثل الموزاييك ونفخ الزجاج والحفر أو النقش على النحاس..).
– فنون وتقاليد أداء العروض (مثل الدبكة والأغاني والموسيقى ومسرح خيال الظل..).
– الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات (طريقة اللباس والمطبخ ولعب الأطفال والأعراس..).
– المهارات والتقاليد المتعلقة بالطبيعة والكون (التي تنبع من اختلاف البيئة المحيطة والتديُّن).
ويتجلّى دور التراث الثقافي في جوانب متعددة؛ ثقافية وحضارية واقتصادية واجتماعية وهُويّاتية، فمن أجزاء هذا التراث يتشكّل ما يميز جماعة عن أخرى، وهذا يقفُ حاجزًا في وجه العولمة للحفاظ على تمايُز الجماعات فيما بينها، وفي هذا غنى ثقافي للذاكرة البشرية ولتطور الحضارات.
كما أنه يحمل رسائل تاريخية كثيرة، إذ يتشكّل هذا التراث من خلال أحقاب تاريخية مختلفة لتصل إلى صورتها الأخيرة، أي أنه يدلّ على ثقافات مختلفة نشأت منها ثقافة ما، وأيضًا يساعد في خلق حالة من التضامن الاجتماعي بين الأطياف المختلفة، كما سنرى ذلك في الحالة السورية.
التراث اللامادي في سوريا
حسب اليونسكو، فإن سوريا “لديها ثروة من التعبير الثقافي الذي يعكس الطابع المتعدد الأعراق والمتعدد الطوائف للمجتمع السوري الحالي”، وتُقسم عادة الثقافات في سوريا، بمعناها الواسع، إلى الثقافات القومية والثقافات الدينية.
تنقسم الثقافات القومية إلى: الثقافة العربية، وهي الثقافة الطاغية في المنطقة، والتي ترسّخت بشكل نهائي مع الفتوح الإسلامية؛ والثقافة الكردية، الأكثر انتشارًا بعد العربية، وهي قديمة في المنطقة كذلك؛ والثقافة الشركسية، وهي ثقافة الشركس الذين جاؤوا من شمال غرب القوقاز إثر انتهاء حرب القوقاز (1864).
أيضًا الثقافة الأرمنية، التي جاءت إلى سوريا من خلال الأرمن الأصيلين في المنطقة، والذين يعود تواجدهم إلى القرن الأول الميلادي، والقسم الأكبر منهم جاء إلى سوريا في الحرب العالمية الأولى بعد موجة عنف إبان الحكم العثماني؛ والثقافة التركمانية، التي تتميز بعمق اندماجها بالمجتمع السوري والعربي بشكل عام، إلى جانب بعض القوميات الصغيرة مثل الأرناؤوط والقزق وغيرهما.
أما الثقافات الدينية فهي كثيرة كذلك، وتنبثق من الثقافة الإسلامية (بما فيها السنّية، العلوية، الإسماعيلية، المرشدية، الدرزية) الأكثر انتشارًا في المنطقة، والثقافة المسيحية (بما فيها الإغريقية الأرثوذكسية، الإغريقية الكاثوليكية، المارونية، النسطورية، الكلدانية، الأرمنية، السريانية)، وبقايا من الثقافة اليهودية التي كان لها تواجد قبل مدة من الزمن في المنطقة.
تظهر نتائج هذا التنوع الثقافي من خلال عدة نقاط أهمها اللغة، حيث يوجد في سوريا 9 لغات، هي: العربية، الأرمنية، الشركسية (الأديغية والأبخازية)، الكردية (السوراني والكرمنجي)، الآرامية أو السريانية الغربية، التركية، الألبانية.
كما تظهر معالم هذا التنوع الثقافي بطريقة العيش والموسيقى والرقص والهيئات الخارجية والمطبخ والاحتفالات، وجديرٌ بالذكر أن هذه التنوعات الثقافية تعرّضت لكثير من التغيير والتهديد بالاندثار بسبب الحرب، كما سنبيّن لاحقًا.
هناك نوع من التراث الثقافي الذي لا يختصّ بطائفة من الطوائف، ويعدّ مشترَكًا بين أطياف المجتمع المختلفة، والمثال الأبرز هو الفنون والحِرَف التقليدية، لذلك سنتحدث عنه بشيء من التفصيل. وهذا النوع من الكثرة بدرجة يصعب معها حصره والحديث عنه، لذلك سنذكر بعضًا من هذه الفنون ونتحدث عن أبرزها.
فمن هذه الفنون: إنتاج الزيوت من الوردة الدمشقية، صناعة صابون الغار، صناعة البروكار الدمشقي، الدامسكو، صناعة الأغباني، الطباعة اليدوية على القماش، التطريز، صناعة الحرير الطبيعي، صناعة كراسي الخيزران، صناعة الأعواد الموسيقية، الموزاييك، صناعة السيوف والخناجر، النقش على النحاس، العجمي (دهان الخشب الدمشقي)، وغيرها الكثير.
ويقسمها الأستاذ حسّان عباس، أشهر السوريين المختصين بهذا المجال وصاحب مبادرة “دروب”، إلى الصناعات الغذائية، والصناعات القماشية، وصناعة المقشّشات والأماليد (ما يُصنع من القشّ والنباتات الحرجية)، وصناعة الآلات الموسيقية، والصناعات الخشبية، والصناعات المعدنية.
نماذج فنّية
يشتهر على الخصوص عدد من الصناعات في سوريا كالأغباني والدامسكو والعجمي، ولكن لعلّ أبرزها صناعة الموزاييك الدمشقي وصناعة الصابون الحلبي.
والموزاييك تعني فنَّ تطعيم الخشب بالصَّدَف، أو بمعنى آخر إدخال مادة الصَّدَف إلى جزيئات من أنواع خشبية مختلفة، حيث ينشر الخشب إلى أعواد صغيرة تشكّل في ربطها حزمة من أنواع وألوان مختلفة، يتمُّ تقطيعها بشكل شرائح تُجمَع إلى بعضها ليصاغ منها الشكل المطلوب.
ويعود تاريخ هذه الصنعة إلى 700 عام، وقد تميّز بها الدمشقيون على وجه الخصوص حتى أصبحت من أشهر الحرف الدمشقية، وقد ملأ هذا الفن البيوت الدمشقية القديمة، لا سيما في حي باب شرقي، والمراكز المهمة كمكتب عنبر وقصر العظم وغيرهما، وصُدّر إلى خارج سوريا.
وحسبما يروي أحد الحِرَفيين، مصيبًا، فإنه “يعود الفضل في اختراع الموزاييك الخشب إلى الحِرَفي الدمشقي جرجي بيطار، حيث قام بتقديم قطعة من الموزاييك عبارة عن غرفة جلوس في غاية الروعة إلى البلاط العثماني، فنالَ عليها وسامًا من السلطان وامتيازًا لتعليم الحرفة، كما وصل كثير من إبداعات هذا الحِرَفي الدمشقي إلى معظم دول العالم”.
وقد حافظت هذه الحرفة على استمرارها من خلال توارثها بين الآباء والأبناء عبر الأجيال، بما اُعتبر تراثًا عائليًّا عند بعض العائلات الدمشقية.
أما صابون الغار، أو الصابون الحلبي، فيعدّ من أشهر الصناعات السورية التي انتشرت عالميًّا، ويعدّ رمزًا تراثيًّا للأصالة عند الكثير من أبناء حلب، كما أنه يستهوي الكثيرين بسبب رائحته الجميلة وصنعه من المواد الطبيعية (زيت الزيتون وزيت الغار).
ويعود تاريخ صنع صابون الغار في حلب إلى الحقبة الألفية الثانية قبل الميلاد، وقد احتفظَ إلى حدٍّ ما بطريقة صنعه التقليدية شبه اليدوية إلى اليوم، كما أنه كان يعدّ من مصادر الدخل الرئيسية عند كثيرين من أبناء حلب.
وطريقة صنع الصابون، كما يروي أحد الحِرَفيين، تتمُّ من خلال “غلي زيت الزيتون مع المياه ومع “الصودا كوستيك”، وبعد يومين يتمُّ ضخّ المزيج على أرضية واسعة جدًّا، وينتظر العاملون حتى مرحلة جفاف جزئي قبل الانتقال بعد ذلك لعملية تقطيع الصابون إلى خطوط متقاطعة بالطول والعرض، لتشكّل ألواحًا يتمُّ ترتيبها وبيعها بعد وضع الختم الخاص بالمصنع على كل لوح صابون”.
ويكمل الحِرَفي: “ثم يوضع الصابون على شكل هرم وُتسمّى هذه الطريقة بـ”البيبار”، ضمن فراغات معيّنة لضمان تهوية جيدة للصابون، ويُعمل بعدها على التجفيف لمدة من الوقت بين 6 إلى 9 أشهر، وبعدها يصبح جاهزًا للتسويق”.
خطر الزوال
تتعرض صنعتا الموزاييك وصابون الغار، كما باقي الحِرَف كافة، إلى خطر الزوال، وذلك لعدة أسباب، منها اعتماد الناس على الصناعات الرخيصة التجارية، كالصناعات الصينية على حساب هذه الصناعات طويلة الصنع والمكلفة، ومنها عوامل التغيُّر المناخي وقلّة بعض المواد اللازمة النادرة لهذه الصناعات، ومنها انصراف الشباب عن تعلُّم هذه المهن بسبب عدم قدرتها على تلبية الحاجات المعيشية.
هذا على الصعيد العام، أما في سوريا فإن هذا التهديد يتضاعف بسبب الحرب التي أدّت إلى تهجير عدد كبير من الحِرَفيين، والذين اضطروا إلى العمل بحِرَف مختلفة بعيدة عن حِرَفهم التقليدية الأصلية، كما تسبّبت الحرب في تراجُع اقتصادي كبير، وانهار قطاع السياحة، ما أثّر بشكل سلبي كبير على هذه الحِرَف التي كانت تعتمد على السياح، هذا عدا عن تعرض الكثير من المحال وأماكن صناعة هذه الحِرَف إلى الدمار الذي يصعب معه إعادة العمل بها.
وهذا بما يخص جانب الفنون والحرف التقليدية، أما عن التراث اللامادي السوري في معناه الواسع، فإن تعرضه لخطر الزوال يأتي من أولًا بسبب هجرة الكثير من أصحاب الثقافات المختلفة، لا سيما الصغيرة، إلى الخارج، وخلو سوريا من كثير من مكوّناتها التاريخية، بفعل ضغط دخلاء جدد على الساحة الثقافية السورية.
ويتمثّل ضغظ الدخلاء هذا بالتوغل العسكري الإجباري من قبل روسيا وإيران في الدرجة الأولى، وبدخلاء متطرّفين حاربوا كل ثقافة اختلفت عن ثقافتهم، وإن كان لها جذور تاريخية تعود لآلاف السنين، كما هو الحال عند الميليشيات الكردية والتنظيمات الجهادية المتطرفة بأطيافها المختلفة.
وكما يشير الأستاذ حسّان عباس، فإن مثل هذا التراث لا يحتاج إلى متحف أو موقع أثري ليستمرَّ في العيش، وإنما يعيش في “المجتمع وفي صدور أصحابه، فإن تخرّب المجتمع وتشرّد أو قُتل أهله تبدّد التراث اللامادي وتخرّب هو الآخر”.