تنظيم القاعدة، تنظيم الدولة، جبهة النصرة، تنظيم أنصار الشريعة، تنظيم الشباب المسلم، تنظيم أنصار بيت المقدس .. كل هذه مسميات وغيرها الكثير للحركة الجهادية العالمية التى انتشرت بشكل ملحوظ في أرجاء المعمورة واجتذبت كثيرًا من الشباب المسلم من شتى البقاع، والأمر لا يقتصر على الشباب العربى فقط والذي لديه الكثير مما يقنعه للانضمام لهذه التنظيمات، إلا أن الغريب هو الإقبال الكبير من الشباب الأوروبي والغربي والذي يثير الدهشة، حتى وصل أعداد المقاتلين الأجانب في صفوف تنظيم الدولة فقط – وخاصة أبناء دول الاتحاد الأوروبي – والتي جاءت فرنسا في مقدمة الدول بتسعمائة مقاتل تليها بريطانيا ثم ألمانيا.
ولا يتخيل أحد أن تأتي الأيام التي يصبح فيها “تنظيم القاعدة” مجموعة من الشباب الكيوت والمداهنين كما يأتي على ألسنة شباب “تنظيم الدولة” والمعروف إعلاميًا بـ “داعش” بعد الخلاف الذي نشب بينهما بعد انقلاب “البغدادى” على “الظواهري” زعيم تنظيم لقاعدة – حيث كان”البغدادي” أميرًا لتنظيم دولة العراق والشام التابع لتنظيم القاعدة العالمي -، بعد إعلان “البغدادى”خليفة للمسلمين دون الاستئذان أو الاستشارة من “الظواهرى”؛ مما أدى إلى انفراط عقد التحالف العالمي لتنظيم القاعدة بعد انسحاب كثير من التنظيمات الجهادية من تنظيم القاعدة وأعلنت البيعة للبغدادي.
ولاشك أن لكل ذلك أسباب ومعطيات ومقدمات كثيرة، فلعلي في السطور القادمة أجمل بعضها والتي أجدها أكثر الأسباب تأثيرًا في إقبال الشباب على مثل هذه التنظيمات كفرًا بالحدود الترابية، وتحقيقًا للأفكاراليوطوبية، وتخلصًا من حالة الاغتراب المجتمعي.
(1) الإمبريالية العالمية:
تعد الإمبريالية العالمية والأهداف الاستعمارية الاحتلالية والاستيطانية للدول الكبرى من أهم عوامل العصف بآمال وأحلام كثير من الشباب المسلم في كثير من الدول العربية والإسلامية، ولقد ولدت الحرب العالمية الأولى 1914، لتسيطر على العالم وتغير خريطته وتفرض نظامها العالمي الجديد، وكان من أهم نتائج زلزال هذه الحرب الاتفاق المشئوم بين بريطانيا وفرنسا لتوزيع غنائم الحرب، وتقسيم الدول طبقًا لحدود ترابية، والتى عرفت باتفاقية “سايكس بيكو” 1916 والتي تم فيها فصل ملايين من أبناء الأسر والعائلات والعشائر الواحدة والتي وجدت نفسها وقد انقسمت بخط حدود ترابي لم يكن لها من دور ولا إرادة في رسمه، وتمت السيطرة على هذه المستعمرات من خلال حكم الأقلية لهذه الشعوب وإنشاء مجموعات وظيفية للسيطرة والتسلط عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا على مقدرات الشعوب وإراداتها، وتسلطت دول الحلفاء على العالم، حتى ظهرت بوادر الحرب العالمية الثانية والتي انتهت 1945، فظهرت أمريكا والاتحاد السوفيتى كقوتين كبيرتين فى العالم حتى نشبت الحرب الباردة بينهما لأكثر من أربعين عامًا نتج عنها أن أصبحت أمريكا القطب الأوحد في العالم.
ولايخفى على ذي عقل أطماع الأمريكي والغربي في منطقتنا العربية والإسلامية، من خلال السيطرة والتسلط على شعوبها وأراضيها ومستقبلها، تارة بالاحتلال العسكرى للمنطقة أو بعض منها كما في أفغانستان والعراق، وتارة باحتلال الإرادة والمستقبل كما في سوريا ومصر والدول الخليجية، وللأمريكي دور عسكري وسياسي قوى وحاضر في المنطقة، وذكر الكاتب “جرين جرينوالد” فى مقال من ترجمة وتحرير نون بوست “كم بلد مسلما قصفته أمريكا منذ 1980؟” للحصول على النطاق الكامل للعنف الأمريكي في العالم، يجدر طرح سؤال أوسع: “كم عدد الدول في العالم الإسلامي قصفتها الولايات المتحدة منذ عام 1980؟”، قدمت افتتاحية واشنطن بوست مؤخرًا جوابًا على هذا السؤال، وهي تلك التي كتبها المؤرخ العسكري والعقيد السابق في الجيش الأمريكي آندرو باسيفيتش:
بينما تمتد جهود أمريكا “لتفكيك وتدمير” تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) إلى سوريا، تُحول حرب العراق الثالثة الشرق الأوسط الكبير إلى ساحة المعركة الرابعة عشرة في العالم الإسلامي والتي تقصفها أو تحتلها الولايات المتحدة والتي يُقتل فيها جنود أمريكيين أو يقاتلون فيها منذ 1980.
دعونا نعدهم: إيران (1980، 1987 – 1988)، ليبيا (1981، 1986، 1989، 2011)، لبنان (1983)، الكويت (1991)، العراق (1991-2011، 2014-)، الصومال (1992 – 1993، 2007-)، البوسنة (1995)، السعودية (1991، 1996)، أفغانستان (1998، 2001-)، السودان (1998)، كوسوفو (1999)، اليمن (2000 – 2002)، باكستان (2004-) والآن سوريا وياللعجب!
لقد استبعد باسيفيتش في حسابه السابق قصف واحتلال البلدان ذات الأغلبية المسلمة الأخرى التي لاتزال حليفة للولايات المتحدة مثل دولة الاحتلال الإسرائيلي والمملكة العربية السعودية، والتي نفذت فيها بدعم أمريكي حاسم، كذلك استبعد الانقلابات ضد الحكومات المنتخبة ديمقراطيًا والتعذيب وسجن الناس دون أي تهم، كما أنه بالطبع استبعد كل تفجير وغزو واحتلال قامت به الولايات المتحدة خلال هذه الفترة في أجزاء أخرى من العالم، بما في ذلك أمريكا الوسطى والكاريبي، فضلاً عن الحروب بالوكالة في أفريقيا.
(2) الدور الاستبدادي الديكتاتوري:
سرقة الأوطان واحتلال الشعوب من خلال مجموعات سلطوية وظيفية، كحكم الأقلية للأغلبية، أو عسكرة الدول والسيطرة عليها من خلال جيوش عسكرية تقتل وتنهب في شعوبها، كل هذا تم على عين أمريكا وبيديها، فدول الخليج الملكية السلطانية أو الأميرية العائلية ودول الديكتاتوريات العسكرية كسوريا والجزائر ومصر، جزء أصيل من سيطرة الأمريكي على العالمين العربي والإسلامي، وللنظام الديكتاتوري والاستبدادي دور كبير في سرقة أحلام الأمة ومستقبلها وقتل شبابها ونهب مقدراتها وسجن شبابها واعتقال الآلاف ومطاردة وتشريد مئات الآلاف، فمثلا قتلى النظام الأسدي – الابن – تجاوزوا 200 ألف سورى وهناك أكثر من خمسين ألفًا لم يوثقوا كما ذكرت الأمم المتحدة، وقتلى السيسي في مصر تجاوزوا خمسة آلاف منهم أكثر من ألف في ساعات قليلة، كما في مذبحتي رابعة والنهضة، والذي يعد أكثر من جرم الصهاينة في حق أهل غزة في الحرب الأخيرة.
(3) الدور الهوياتي الطائفي:
انقسمت الأمة وتشتت شملها وتفرقت وحدتها فكريًا ومذهبيًا وعرقيًا، وحالة التيه هذه بدأت بذرتها ليلة (السقيفة)، ثم تحولت إلى فتنة عمياء في (الجمل)، ونشبت حرب هوجاء في (صفين)، انتصرت فيها القوة على الحق والبغي على العدل والملك على الخلافة ممن أهدروا الدماء وقتلوا الآلاف وهدموا الخلافة وورثوا الأثرة والجور الفئة الباغية التي تقتل عمار وهو يدعوهم للجنة ويدعونه إلى النار كما في البخاري، واستمر هذا الانشقاق وازداد وأمعن الجميع فى الخلاف والتشتت والتكفير والدماء؛ حتى صارت الدماء أرخص من الماء.
فالسنة يكفرون الشيعة، والشيعة يكفرون السنة، وليس بعد الكفر إلا القتل، والسنة منقسمون، والعرب مشتتون، وبالحدود الترابية يفتخرون، ومن أجلها يتقاتلون؛ كل ذلك أفرز حقد بغيض يعمي القلوب والأبصار عن رؤية الحق، فيزداد الخلاف وتتسع الفجوة وينتصر الجميع لفكرته ورأيه وحزبه ومذهبه ووطنه، فيسقط الجميع وينجع العدو وتنجح خطته “فرق تسد”، فكيف بمن فرق المفرق وشتت المشتت وقسم المقسم؟! فهل له من قومة أخرى؟!
(4) الفساد والاستبداد:
ارتباط الفساد بالاستبداد ارتباط تزاوجي، فعندما تخنق المسار السياسي فسيفشل المسار القيمي والأخلاقي والاقتصادي، وتنتشر الرشوة والمحسوبية، ويؤمن الخائن ويخون الأمين، ويتصدر المشهد الرويبضة، وتقل الكفاءات ويقدم أهل الثقة على أهل الكفاءة، وتُسرق الأموال كما سرقت الأوطان والإرادات، ويرتع المجتمع في الفساد والإفساد، وتُحبط الآمال، وتُكبت الأحلام.
(5) خنق المسار السياسي:
عندما تصبح جماعة الإخوان المسلمين صاحبة السجل النضالي السلمي منذ 1975 وحتى الآن بعد انقلابها على كثير من مفاهيم المؤسس – رحمه الله – جماعة إرهابية في مصر والسعودية ويصبح عملها مجرم في كثير من الدول العربية بعد الانقلاب العسكري في مصر على أول تجربة ديمقراطية حقيقية بعد ثورة يناير، وتطيح الديكتاتورية العسكرية بدعم من الديكتاتوريات الملكية العربية وصمت أمريكي غربي – بل وتنسيق في أكثر الأحيان – بآمال وأحلام جيل كامل من الشباب الذي كان يحلم بعد 25 يناير بمستقبل له ولوطنه وأمته إلا أنه تم العصف بجميع أحلامه والقضاء على طموحاته بسبب هذه الانتكاسة الثورية.
(6) الدور الأيديولوجي:
بدأت الظاهرة الجهادية في السبعينيات بشكل محلي تواجه الأنظمة التي تسميها “العدو القريب” وتصفها بـ “الكافرة والمرتدة”، ثم انطلقت حركة الجهاد العالمي أو جهاد النكاية “إيلام العدو البعيد أينما كان ” بما يسمى ظاهرة “الجهاد التضامني” على يد الشيخ “عبد الله عزام” لنصرة قضايا المسلمين في العالم، وفي عام 1988 في اجتماع بين الشيخ “أسامة بن لادن” والشيخ “عبد الله عزام” والشيخ “سيد إمام” والدكتور “أيمن الظواهري”، اتفقوا على مركزية القرار وليس مركزية التنفيذ، والاتجاه نحو العدو البعيد والذي هو رأس حربة للنظام العالمي، واطلقوا “تنظيم القاعدة” بعد انتهاء الحرب مع السوفيت، ومنذ ذلك الحين وأصبحت حركة الجهاد العالمي لها أنصارها ومؤيديها ومريديها من أبناء الأمة الإسلامية والتي لازالت تعاني من الوهن والضعف والتبعية، حتى أصبحت المنطقة سوقًا رائجًا للفكر “الجهادي” ورغم أن الجهاد ظلم كثيرًا من أعدائه ومن أبنائه إلا أن الجهاد كـ “عبادة” ذروة سنام الإسلام وعمود من أعمدته الحضارية، لكن هل ما يفعله أبناء “الحركات الجهادية” كتنظيم الدولة وتنظيم القاعدة هو الجهاد المحمدي الرسالي الذي هو ذروة سنام الإسلام؟!