يصرُّ السودانيون على استمرار حراكهم الثوري حتى إسقاط الانقلاب وعودة العسكر لثكناتهم وتسليم السلطة للمدنيين في أقرب وقت، استنادًا إلى مرجعية الوثيقة الدستورية الموقّعة في أغسطس/ آب 2019، رافضين كافة المغازلات المقدَّمة من الجنرالات أو القوى الداعمة لهم، والتي تهدف إلى تبريد الأجواء الملتهبة ميدانيًّا.
ويختتم الثوار فعالياتهم لهذا العام بمليونية 30 ديسمبر/ كانون الأول التي دعت إليها لجان المقاومة والتنسيقيات، تحت شعار “لتكن هديرًا للحق يزلزل عروش الانقلابيين وغطاءهم المدني، ولسوف تلقانا الشوارع بالهتافات المضادة للعساكر والمساخر والخنوع”، بحسب بيان “تجمع المهنيين السودانيين”.
وسبقت المليونية العديد من التطورات على المسارَين السياسي والأمني، أضفت عليها أهمية نسبية، فيما شهدت الشوارع وأبرز الميادين في البلاد تواجدًا أمنيًّا كثيفًا، إلى جانب إغلاق للجسور المؤدية إلى القصر الجمهوري، في مشهد حملَ الكثير من الدلالات، لا سيما أن المواكب السابقة نجحت في الوصول إلى القصر.
ويشهد السودان منذ 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي احتجاجات رفضًا لإجراءات قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، والتي تضمّنت حل مجلسَي السيادة والوزراء الانتقاليَّين وعزل حمدوك، واعتقال قيادات حزبية ومسؤولين، ما اعتبرته القوى الثورية “انقلابًا عسكريًّا مكتمل الأركان”، ومن ثم جاءت فعاليات ديسمبر/ كانون الأول الجاري لإجهاض هذه الإجراءات والعودة إلى ما قبل هذا التاريخ.
البرهان يلتقي حزب الأمة
التقى رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش مع قادة حزب الأمة القومي (أكبر مكوّنات الائتلاف الحاكم السابق بالسودان)، أمس الأربعاء، حسبما أفاد مصدر داخل الحزب لـ”الأناضول“، لافتًا إلى أن اللقاء جاء بدعوة من البرهان، عقب إعلان الحزب عن خارطة طريق لحلّ الأزمة في البلاد، فيما لم يصدر أي بيان رسمي عن نتائج ومخرجات هذا الاجتماع المفاجئ.
وكان الحزب قد أعلنَ قبل يومَين عن خارطة سياسية لاستعادة الشرعية الثورية واستكمال مراحل الانتقال الديمقراطي للسلطة، لافتًا في بيان له أن الخارطة “ستتمّ بالتراضي بين مكونات المجتمع السوداني السياسية والمدنية، وقوى الحراك الثوري”، إضافة إلى مؤسسات الدولة النظامية وأطراف العملية السلمية (الحركات المسلَّحة الموقِّعة على اتفاق السلام في أكتوبر/ تشرين الأول 2020).
وفي أول تعليق على هذا اللقاء، أشار رئيس الحزب، فضل الله برمة ناصر، أن مقابلة البرهان جاءت للمطالبة بعودة الشرعية، منوّهًا إلى ضرورة إعادة النظر في كل التشكيلات التي تمّت تحت الحكم العسكري بما فيها مجلس السيادة، مع التأكيد على وجوب أن تسبق عودة المؤسسية للدولة الانتخابات لضمان المسار الديمقراطي.
وأوضح ناصر خلال تصريحاته لـ”الجزيرة” أن الاتفاق السياسي الذي عقده رئيس الوزراء عبد الله حمدوك مع البرهان في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، والذي أثار الكثير من الجدل والرفض الشعبي، أعاد الشرعية وأدّى إلى الإفراج عن المعتقلين، محذّرًا من أنه إذا لم يجد حمدوك تأييدًا من القوى السياسية، فسوف يستقيل من منصبه كرئيس للوزراء.
وعن رؤيته للمرحلة المقبلة، يرى رئيس حزب الأمة القومي أن البلاد بحاجة إلى عام على الأقل للتحضير للانتخابات لضمان حريتها ونزاهتها، وكان البرهان قد أعلنَ قبل أيام عن إجراء الانتخابات في الفترة من يناير/ كانون الثاني وحتى يوليو/ تموز 2022، دون تحديد آلية إجرائها وضوابطها.
جدير بالذكر أن حزب الأمة ربما يكون الكيان السياسي الرسمي الوحيد الذي يدعم حمدوك وقراره بالعودة لمنصبه بعد وضعه قيد الإقامة الجبرية، فيما تعتبره القوى الأخرى “شريكًا أساسيًّا في الانقلاب”، وإحدى الأدوات الرئيسية لتمرير مخطَّط العسكر للهيمنة على السلطة، ولو لم تتوفر النية المسبقة لذلك.
حملة اعتقالات مسعورة
وفي السياق ذاته، اتّهمت القوى المدنية السلطات الأمنية بحملة اعتقالات وصفتها بـ”المسعورة” تستهدفُ أعضاء في “القوى الثورية”، استباقًا لتظاهرات اليوم، وفي بيان له نشره على صفحته في فيسبوك، قال تجمع المهنيين: “تنفّذ القوات والميليشيات المأجورة التابعة للمجلس العسكري الانقلابي في هذه اللحظات حملة مسعورة من الاعتقالات تستهدف عضوية القوى الثورية في لجان المقاومة والقوى النقابية”.
ولفت البيان إلى أن الحملة تأتي “استباقًا للمواكب المليونية التي تعتزم جماهير شعبنا تسييرها اليوم 30 ديسمبر/ كانون الأول 2021 في كل مدن وقرى وحلال السودان، ويظن المجلس العسكري الانقلابي وغطاؤه المدني أن هذه الممارسات القمعية وغير القانونية ستثني القوى الثورية عن حركتها المقاومة الصامدة وأهدافها في إسقاط الانقلاب العسكري، وهيهات”.
ويُحمِّل التجمع المجلس العسكري “المسؤولية كاملة عن سلامة الثائرات والثوار ممن طالتهم أيادي التسلُّط والغدر الآثمة، ونؤكد أننا نرصد هذه التحركات ونضيفها لسجلّ مخزٍ من الجرائم سيتم تقديم كل من شارك فيه بالتخطيط والأوامر والتنفيذ للعدالة الناجزة في القريب العاجل”.
واختتم البيان بالتأكيد على أن تلك الحملات العشوائية لن ترهب الثوار ولن تثنيهم عن صمودهم حتى إسقاط الانقلاب، منوّهًا أنها “تؤكد الطبيعة الإجرامية والفاسدة لطغمة الجنرلات وقادة الميليشيات التي تحاول الحكم بقوة السلاح والعنف الممنهَج، وتزيد من جذوة المد الثوري الممتد منذ ديسمبر/ كانون الأول 2018 وتعمّق الإيمان بأهدافه في إسقاط هذه الطغمة ومحاكمتها”.
استقالة حمدوك.. بين المناورة والقفز من المركب
تتزامن المليونية مع تصاعُد الجدل بشأن استقالة حمدوك، والتي باتت حديث الشارع السوداني حتى إن تجاهلتها القوى السياسية التي تراها “شأنًا خاصًّا”، فقبل نحو 10 أيام تقريبًا، أي بعد 40 يومًا على عودته لمنصبه، قالت مصادر مقرَّبة من رئيس الوزراء الحالي بأنه يعتزم تقديم استقالته.
وبعد سجال سياسي وإعلامي وعدة وساطات، قامت بها بعض التيارات السياسية، واتصالات خارجية، أرجأ الرجل تلك الخطوة أملًا بأن يمارس صلاحياته كاملة دون تقزيم الجنرالات لها، لكن الأمور لم تكن كما كان يخطِّط لها.
فقبل يومَين عاد الحديث عن الاستقالة مرة أخرى، حيث نقلت وسائل إعلام سودانية عن مصادر مطّلعة أن حمدوك معتكفٌ في منزله منذ أيام، وأنه “أخطر طاقم مكتبه بأنه أبلغ المكوّن العسكري (في السلطة الانتقالية) باستقالته، خلال اجتماع مع رئيس مجلس السيادة (الانتقالي)، عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي)”، فيما قال مصدر مقرّب منه إنه “أبلغ العسكر باستقالته شفاهة، وليس بشكل رسمي ومكتوب”.
وتباينت التفسيرات بشأن دوافع الاستقالة والتلويح بها أكثر من مرة، بين من يعتبرها اعترافًا واضحًا من قبل حمدوك بالفشل في حشد دعم شعبي لاتفاقه السياسي مع البرهان، وفقدانه القوى السياسية الداعمة له، وهي ائتلاف قوى “إعلان الحرية والتغيير” حسبما أشار الخبير السياسي بابكر عبد الله، الذي يرى أن “حمدوك فقدَ الكثير من شعبيته، وأصبح شبه معزول مع استمرار الاحتجاجات الرافضة لاتفاقه مع البرهان”.
واعتبر الخبير السياسي أن العزلة السياسية والشعبية التي يعاني منها حمدوك منذ 21 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، جعلته محسوبًا بشكل تلقائي على معسكر قائد الجيش، ما يعني أنه يتحمّل جزءًا من إعاقة الانتقال الديمقراطي بعد قبوله العمل مع العسكر في المرحلة المقبلة.
وفي الجهة الأخرى، هناك من يرى أن التلويح بالاستقالة ليس سوى ورقة ضغط على البرهان لكسب المزيد من الصلاحيات، في ظلّ ما هو متوقّع بشأن أن تحظى تلك الخطوة باهتمام إقليمي ودولي، غير أن عدم استجابة الجنرال لتلك الضغوط، وفي ظل إصرار الحركات المسلحة الموقِّعة على اتفاق السلام على التمسُّك بمناصبها في الحكومة دون الالتزام بشرط الكفاءات، وقرار منح جهاز المخابرات سلطات الاعتقال، باتت فكرة الاستقالة مطروحة فعليًّا وغير مستبعَدة، في ظل محاولة حمدوك النأي بنفسه عن أي اتهامات بالتورُّط في تمرير انقلاب العسكر.
مناورة عسكرية جديدة
لقاء البرهان بقادة الأمة القومي لأول مرة منذ الانقلاب، يشير إلى مساعي الجنرال لتهدئة الأجواء مع القوى الثورية، لا سيما بعدما بات حمدوك على مشارف الاستقالة بحسب التسريبات، وعليه يحاول البرهان استمالة الكيانات السياسية الموجودة لتبريد سخونة المشهد قدر الإمكان.
ولأجل هذا المسار، أعلن مجلس السيادة قبل يومين عن إجراء الانتخابات العامة خلال الأشهر الستة المقبلة، وهي الخطوة التي حاول من خلالها كسر شوكة التصعيد الثوري وتحجيم نفوذه الممتد، والذي بات على بُعد أمتار قليلة من القصر الرئاسي في قلب العاصمة الخرطوم.
وكعادتهم، يحاول العسكر كسب المزيد من الوقت لتهيئة المناخ العام لتمكينهم من السلطة بشكل كامل، وفي ظل هذا التصعيد الثوري الذي لا يتوقف حراكه، ما كان أمام البرهان سوى فتح قنوات اتصال مع القوى المغدور بها في انقلابه الأخير، في محاولة للتوصل إلى اتفاق تشاركي لتهدئة الموقف قبل الوصول إلى نقطة الصدام بين الثوار والمؤسسة العسكرية بشتّى فروعها.
تسريبات تشير إلى البحث عن بديل لرئاسة الحكومة حال استقالة حمدوك، لإدارة المشهد خلال المرحلة القادمة وحتى الانتخابات، فيما يكثّف الجنرالات جهودهم لإثناء رئيس الوزراء عن تقديم استقالته، وربما يكون لحزب الأمة القومي دور في هذا المسار، في ظل العلاقة القوية التي تجمع بين الحزب وحمدوك، لكن هذا الأمر يتوقف على حجم الصلاحيات الممنوحة للأخير في تشكيل حكومة توافقية.
أثبتت التجارب طيلة العامَين الماضيَين تحديدًا أنه لا أمان ولا عهد للعسكر، وأن حلم الاستئثار بالسلطة لم يراوح مخيلتهم يومًا واحدًا منذ الإطاحة بالبشير في أبريل/ نيسان 2019، رغم التصريحات الوردية التي تصدر عن جنرالاتهم، وهو ما يتفهّمه الثوار بشكل جيد، وعليه كان الإصرار على استمرار الحراك رغم الوعود والاستمالات المتتالية، ليبقى الشارع -كما كان- كلمة الفصل في تحديد هوية وملامح مستقبل البلاد.