في منطقة أسنيورت بإسطنبول، يقطن الشاب السوري علاء أبو الوفا مع عائلته المكونة من زوجته وطفلين وأبيه وأمه، ويعمل في مهنة الخياطة التي يتقاضى منها 4 آلاف ليرة تركية (نحو 310 دولارات)، بعد أن تأثر بتدهور سعر الصرف في البلاد، فقد كان دخله يساوي نحو 650 دولارًا قبل عام ونصف، لكن مع الصعوبات الاقتصادية التي ضربت تركيا وفقدان الليرة التركية قيمتها باستمرار، يقول أبو الوفا لـ”نون بوست”: “لا أدري ماذا أفعل، من أين أجلب المال لسد التزاماتي كإيجار المنزل والفواتير الشهرية؟”.
ويتحدث أبو الوفا عن الغلاء الذي يضرب الأسواق في تركيا يومًا بعد يوم، خاصة المحلات التجارية السورية، فيقول: “لم يعد لدي القدرة على شراء الكثير من السلع بعد هذا الغلاء الحاصل نتيجة انخفاض الليرة التركية مقابل الدولار”، مضيفًا “لا أسمع إلا ارتفعت الليرة، انخفضت الليرة، ارتفعت الأسعار ولم تنخفض، وراتبي ما زال على ما هو عليه منذ سنة ونصف”.
بالنظر إلى حالة علاء، فإن شريحة كبيرة من السوريين تعيش اليوم في تركيا في كفاح مستمر، نتيجة الحالة الاقتصادية المتقلِّبة في البلاد، وهنا يعد علاء المرتب الذي يتقاضاه جيدًا بالنسبة إلى رواتب أصدقائه التي لم تتعد إلى الآن 3 آلاف ليرة (ما يوازي في يومنا هذا 230 دولارًا).
يؤكد هذا الأمر لنا السيد محمد طحان، الذي يعمل في مجال الموبيليا والنجارة، ويقول في حديثه لـ”نون بوست”: “أعمل أنا واثنان من أولادي في المهنة، أنا أتقاضى 4000 ليرة فيما يتقاضى ولديّ 3000 ليرة، ولدي 3 بنات يكملن دراستهن”.
يشير السيد طحان إلى أن ولديه اللذين يعملان تركا دراستهما مقابل العمل لمساعدته في الإنفاق على العائلة، ويذكر أن ولديه اللذين أصبحت أعمارهما فوق الـ25 لم يفكّرا إلى الآن في مشروع الزواج، ويبدو أنهما لن يفكرا بذلك في ظّل الأوضاع الاقتصادية المتردية، كما يوضح أن بقاءهما في العمل رهين مزاج صاحب العمل التركي، فبأي لحظة يمكن لك أن تجد نفسك بلا عمل لتعيد الكرّة من الأول، بالبحث عن عمل والبدء براتب أحيانًا يكون 2000 ليرة، ما يعني أقل من 200 دولار.
قَدِمَ طحان وعائلته إلى تركيا منذ عام 2013، ويروي أنه لم يعش سنة صعبة في البلاد هنا كهذه السنة، فالعمل في السنوات الأولى كان متوافرًا والأجور كانت عادلةً إلى حد ما، فقد كان يعمل وحده ويستطيع أن يصرف على العائلة بالحد الأدنى.
ولا شك، أن عام 2021 مر بصعوبة على أصحاب الدخل المحدود من السوريين الذين باتوا أسرى للعمل الشاق والراتب المحدود واستحكام أصحاب العمل الذين يرفضون تسجيل العامل السوري بشكل رسمي، ما يعني ضياع حقه في الطبابة والتعويضات والإجازات السنوية.
أسوأ السنوات
في السياق، تذكر دراسة لمركز الحوار السوري صادرة في أغسطس/آب 2021، أنه مع “ظروف العمل الطويلة والشاقة يتلقى 75% من العاملين السوريين في تركيا رواتب أقل من الحد الأدنى للأجور البالغ 2825 ليرةً تركيةً، إذ يتقاضى 50% منهم متوسط أجر شهري يتراوح بين 1500-2500 ليرة تركية (175-300 دولار)، فيما يتقاضى 25% رواتب تزيد على 2500 ليرة، فلا تتناسب معدلات الرواتب مع ساعات العمل الطويلة، إلا أن حيازة ملكات لغوية متقدمة يمكن أن تزيد فرصة الحصول على راتب أعلى في بعض الأحيان”.
في حديث آخر، يقول الشاب السوري رضوان – عامل سابق في مطبعة أوراق -، البالغ من العمر 23 عامًا، لـ”نون بوست”: “أسوأ سنة تمر عليّ في تركيا.. الأمور بدأت بالتدهور منذ بداية جائحة كورونا، فقد فصلت من عملي دون تعويضات، لأنني لا أملك أوراقًا قانونية تثبت عملي”، مشيرًا إلى أن راتبه لم يكن يتعدى الـ3000 ليرة، وكان يرسل جزءًا منه إلى أهله في سوريا.
كما يوضّح أنه استدان مبلغًا كبيرًا من المال منذ شهرين، ويحاول من خلاله تأمين طريق تهريب شبه آمن إلى أوروبا، ووفقًا لما ذكره فإنه سيعمل هناك لفترة وجيزة من أجل سد ديونه، وكذلك يأمل في إرسال مبالغ أكبر إلى أهله في سوريا.
العاملون في اقتصاد الظل
خلال حديثه لـ”نون بوست”، يقول الخبير الاقتصادي السوري يحيى سيد عمر: “تدني قيمة الليرة التركية في الحقيقة، وارتفاع معدل التضخم، يسببان ضغوطًا اقتصاديةً حادةً على السوريين والأتراك، لكن ما يزيد حجم الضغوط على السوريين أن قسمًا كبيرًا منهم يعيل عائلات في الداخل السوري، لذلك الضغوط الاقتصادية تطال السوريين في الداخل أيضًا، وممّا يزيد حدة الضغوط هو تدني مستوى الأجور الذي يناله العامل السوري مقارنة بنظيره التركي، لا سيما أولئك الذين يعملون في اقتصاد الظل”.
بالعموم، وصل عدد السوريين العاملين في كل المجالات بتركيا إلى مليون و200 ألف شخص، وذلك وفقًا لتقديرات دراسة تركية صدرت عام 2020 أشارت إلى أن نسبة واسعة من السوريين تعمل في مجال الاقتصاد غير الرسمي.
ولم تذهب تقديرات مجموعة العمل الدولية بعيدًا، إذ قدّرت أعداد السوريين العاملين في تركيا بين 750 و940 ألفًا، وتجدر الإشارة إلى أن الأرقام الرسمية التركية ذكرت عام 2019 أن 140 ألف سوري يعملون بشكل رسمي ومسجلين في الدولة من أصل 600 ألف عامل أجنبي.
تذكر الدراسة السابقة التي نشرها مركز الحوار السوري، أن الشريحة الكبرى من العمالة السورية “تعمل في قطاع الورشات الصناعية التي تضم ورشات النجارة والحدادة والتصنيع، بنسبة وصلت إلى 31%، بينما احتل قطاع الألبسة والأحذية الذي يشمل ورشات الخياطة والتطريز والأحذية القطاع الثاني الأكثر استقطابًا للعمالة السورية بنسبة تصل إلى 23%، ثم يأتي قطاع الإنشاءات في المرتبة الثالثة، ويشمل كل ما يتعلق بإنشاء وإكساء المباني والشقق بنسبة تصل إلى 17%”.
وتكمل الدراسة “يحتل قطاع الشركات والمحلات التجارية المرتبة الرابعة بنسبة وصلت إلى 13%، بينما يشكل قطاع الأعمال الحرة (كالبقاليات أو محلات صيانة الموبايلات أو مكاتب الاستشارة الطلابية وغيرها) المرتبة الخامسة بنسبة تصل إلى 6%، فيما يعمل 4% في قطاع المطاعم والمخابز السورية، ويتوزّع البقية بنسبة 6% في مجموعة من الأعمال الأخرى كصيانة السيارات والعمل في نقل وبيع الفحم والزراعة والإعلام والتعليم وغيرها”.
وعن الوضع القانوني للعاملين السوريين في السوق التركية، تقول الورقة البحثية: “يعمل 90% من الشريحة المدروسة بشكل غير نظامي، ودون تراخيص عمل رسمية، رغم أن 85% منهم ليس لديهم أي عائق قانوني لاستصدار هذه التراخيص، إنما يرجع السبب الرئيسي لتهاون أرباب العمل والرغبة في التهرب من دفع التأمينات الاجتماعية في محاولة لتخفيض تكلفة الإنتاج”.
الطبقة الوسطى
يقول المهندس السوري محمد أبو الفضل: “الوضع الاقتصادي حاليًّا صعب وضبابي جدًا، إذ إن أصحاب الطبقة المتوسطة من السوريين الذين يملكون عملًا بمرتب جيد باتوا عرضة للخطر، فما بالك بأصحاب الدخل المحدود؟”.
ويشير أبو الفضل إلى أن راتبه الشهري البالغ 6500 ليرة كان يوازي منذ 3 أشهر 1000 دولار، فيما يصل اليوم إلى 500 فقط، و”هذا أمر لا يمكن تصوره مع ازدياد معدلات التضخم وارتفاع الأسعار بشكل جنوني”.
ووفقًا لدراسة جديدة منشورة مؤخرًا، فإن الأسر السورية ذات الحالة المتوسطة “تعمل في مجالات شتّى، فبعضهم يعمل مع المنظمات السورية أو المنظمات الغربية الموجودة في تركيا، وبعضهم لديه مشروعه الصغير الخاص، بينما تعمل الأسر المرفّهة في بعض المنظمات على مستوى القيادات العليا أو تملك مشاريعها التجارية أو الصناعية المتوسطة أو الكبيرة ذات المردود الجيد”، وهنا تجدر الإشارة إلى أن العاملين السوريين الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار يمتلكون ثباتًا في المعيشة نسبيًّا.
يقول يحيى سيد عمر، عن طبقات المجتمع السوري في تركيا: “ما يتعلق بتقسيم المجتمع السوري لطبقات تبعًا للوضع الاقتصادي ليس محصورًا بالسوريين، فهذه ظاهرة عالمية وتفرضها طبيعة الحياة، فمن الطبيعي وجود طبقة فقيرة وأخرى متوسطة وغنية”.
ويكمل: “لكن في الحالة الطبيعية من المفترض أن تكون الطبقة الوسطى هي الأوسع، لكن بسبب الضغوط الاقتصادية والظروف الذاتية والموضوعية شهدت الطبقة الوسطى تآكلًا على حساب الطبقة الفقيرة التي باتت الطبقة الأوسع، وهذا يحتّم العمل على تقديم الدعم للسوريين للمحافظة على الاستقرار الاجتماعي”.
في سياق توضيح الحالة التي أصابت السوريين مؤخرًا في تركيا، من ضبابية في الوضع الاقتصادي السيّئ وارتفاع الأسعار وانخفاض الأجور، قال الباحث بشؤون اللاجئين السوريين في تركيا أحمد الحسن لـ”نون بوست”: “اختلف التأثير حسب كل فئة من السوريين، فالفئة العاملة منهم مثل باقي الفئات التركية العاملة زادت مشكلاتهم، حيث بقيت الأجور كما هي بينما ارتفعت الأسعار بين الضعف والضعفين، ما ساهم في زيادة أعداد الراغبين بالهجرة، وكذلك توجُّه بعض السوريين للعودة إلى الداخل رغم خطورته”.
ويكمل الحسن “أما الفئات المنتِجة والمصدِّرة من السوريين فقد اعتبرت الوضع عاملًا محسِّنًا للإنتاج وزيادة التصدير، وأنه مرحلة يجب أن تمر بها تركيا للوصول إلى مرحلة تعافي الاقتصاد بعد جائحة كورونا”.
مشيرًا إلى أنه “لا خلاف على ضرورة الفصل بين العامل والمنتج والتاجر، وهذا الفصل ضروري لفهم بعض المواقف السورية تجاه الدولار، فيسهل هذا توضيح تناقض المواقف بين الفئات الضعيفة الساخطة على الوضع والمنتِجة التي تعتبر الوضع فرصة”.
أما عن الحلول التي يجب أن يتبعها السوريون، يرى يحيى السيد عمر أن “البدائل التي لدى السوريين في تركيا للتعامل مع الضغوط الاقتصادية قليلة عمومًا، وأبرز هذه الوسائل اللجوء لممارسة عدة أعمال في الوقت ذاته، إضافة إلى تخفيض التكاليف من خلال الحد من الكماليات أو حتى إلغائها”، وفي السياق، يقول الشاب رضوان إن الحل لتخطي هذه الأزمة هو “الهجرة إلى أوروبا، حيث تتوفر أدوات العمل والرواتب العادلة، عكس تركيا”.
ختامًا، لم تكن تحديات الغربة وحدها كافيةً لتزيد الوضع تعقيدًا أمام السوريين في تركيا، فقد جاءت الصعوبات الاقتصادية في تركيا لتزيد الطين بلة على اللاجئ السوري، ليبقى رهين انخفاض الأجور وغلاء الأسعار وغياب الدعم الحكومي اللازم، ما سيجعل السوري دائم التفكير ببدائل صعبة المنال أو غير مأمونة العواقب، مثل هجرة جديدة أو العودة إلى سوريا حيث يفقد الأمان.