مع اشتداد حدّة الأزمات الاقتصادية التي يمرُّ بها الاقتصاد التركي، والتي يرى المحلِّلون أنها قرعت جرس الإنذار لخوض انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكّرة منتصف العام الحاليّ، وكما هو حال أصحاب رؤوس الأموال والشركات الكبرى في كل مكان، يبدو أن رابطة الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك “توسياد” بدأت بإدارة دفّة دعمها لأردوغان وحكومته باتجاه المعارضة الآن، خصوصًا أن العديد من استطلاعات الرأي بدأت تشير إلى إمكانية فوز تحالف المعارضة هذه المرة بالانتخابات المقبلة، بعد عقدَين من جلوس أردوغان وحزبه على رأس السلطة في البلاد.
ففي أعقاب التغريدة التي كتبها كمال كليجدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، والتي أشار فيها إلى أنه تحدّث مع رئيس “توسياد” وطالبه فيها بالتحدُّث بصوت عالٍ لإظهار المشاكل الاقتصادية التي تمرُّ بها البلاد، كتب سيمون كاسلوسكي، رئيس رابطة “توسياد”، مغرّدًا: “السيد كمال كليجدار أوغلو، “توسياد”، كمنظمة أعمال عالمية مستقلة، تشارك وجهات نظرها حول المشاكل التي نواجهها في الاقتصاد مع المؤسسات العامة والجمهور منذ فترة طويلة. وكما قلت على الهاتف، سوف أستمر في القيام بذلك”.
ورغم فتح أردوغان النار على “توسياد” أكثر من مرة مع كل بيان كانت تصدره المنظمة، محذِّرة الحكومة التركية من الآثار السلبية لسياسة خفض أسعار الفائدة ودورها السلبي على الشركات والمواطنين على حدٍّ سواء، فضلاً عن جرّ أردوغان البلاد بعيدًا عن الديمقراطية؛ إلا أن “توسياد” حتى وقت قريب كانت تربطها علاقات جيدة مع حكومة أردوغان، وما زالت حتى اليوم متكفّلة بمشاريع استثمارية ضخمة مع الحكومة، لعلّ أبرزها مشروع السيارة الكهربائية التركية (TOGG).
قصة التأسيس
قرر 12 رائد أعمال من أصحاب الشركات الكبرى مثل كوتش وصابنجي وإيجزانيباشي، وغيرهم من الذين كان منضمين سابقًا لمنظمات تجارية مختلفة، ويمتلكون مصانع منتشرة في جميع أنحاء الأناضول (خارج إسطنبول)، أن يتّحدوا في منظمة كبيرة واحدة مستقلة يكون لها شأن قوي، من أجل التصرُّف بشكل مستقلّ وفعّال ضد سياسات الحكومات القومية المحافظة أو اليسارية الاجتماعية.
واستغلّوا التمكين السياسي للجناح اليساري وأعمال الفوضى والعنف التي مرّت فيها تركيا خلال فترة الستينيات، وما تلاها من انقلاب ناعم عُرف بانقلاب مذكرة 12 مارس/ آذار، الذي أطاح بحكومة سليمان ديميريل عام 1971؛ كمحرك أساسي لتأسيس رابطة “توسياد” يوم 2 أبريل/نيسان 1971، والتي كان خلفها عمالقة التجارة والإنتاج آنذاك، ومن أبرزهم وهبي كوتش (أنقرة) ونجاة إيجزانيباشي (إزمير) وساكيب سابانجي (أضنة)، بالإضافة إلى رشيد أوزساروهان (إزمير) وآخرين، فيما وافقت الحكومة التركية رسميًّا على إنشائها يوم 20 مايو/ أيار 1971.
وعقب الموافقة وإتمام أعمال التسجيل والتنظيم في السنوات الثلاث التالية، جرى انتخاب غونغور أوراس كأول أمين عام للجمعية بين عامَي 1974 و1980.
وبينما تتخذ “توسياد” من إسطنبول مقرًّا لها، فإن لديها مكتبًا تمثيليًّا في أنقرة، وممثلين دوليين في بروكسل وواشنطن وبرلين ولندن وباريس وشبكات في الصين ووادي السيليكون والخليج، فضلًا عن كونها عضوًا في اتحاد الأعمال الأوروبي (Business Europe) وممثلًا للقطاع الخاص الأوروبي منذ عام 1987.
ومنذ يوم تأسيسها، تبنّت رابطة “توسياد”، التي تقودها برجوازية تركيا، المبادئ والأُسُس العلمانية التي وضعها مؤسِّس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، إذ تنص أول فقرة في النظام الداخلي لهذا التكتل الاقتصادي على “… تنمية التركيبة الاجتماعية المخلصة والوفية لأهداف ومبادئ أتاتورك في الحضارة العصرية، والعمل على ترسيخ مفهوم دولة القانون العلمانية والمجتمع المدني الديمقراطي…”، ومنذ ذاك الوقت وهي تعمل جاهدة لمقاومة ضغط السياسيين المحافظين والجماعات الدينية، وأوكلت لنفسها مهمة نشر الحياة المعاصرة والدفاع عن النظام العلماني الديمقراطي، من خلال تأسيس الجامعات القوية والمرموقة، ودعم المتاحف والفعاليات الفنية والمسرحية في عموم تركيا.
مساهمات “توسياد” في الاقتصاد التركي
تُعتبر رابطة “توسياد” أقوى كيان اقتصادي في تركيا، حيث تمتلك قدرة تمثيلية غاية في الأهمية داخل الاقتصاد التركي في مجالات التجارة والصناعة والتمويل والصادرات، فإلى جانب سيطرتها على 50% من الناتج المحلي الإجمالي، وحوالي 85% من تجارة تركيا الخارجية، فإنَّ منتسبيها يوظِّفون حوالي 50% من الأيدي العاملة في تركيا، فضلًا عن دفعهم لنحو 80% من إجمالي ضرائب الشركات في عموم البلاد، والتي تعدّ أهم عنصر في إيرادات الخزينة التركية.
وفي السنوات القليلة التي تلت تأسيسها، تمكّنت “توسياد” من استغلال نفوذها داخل أروقة السياسة والمؤسسة العسكرية، لتعزيز هيمنتها الاقتصادية على مختلف نواحي الحياة الاقتصادية في تركيا، فقد عطّلت المشاريع الحكومية التي رأت فيها ضررًا لأعمالها التجارية، وبالأخصّ مشاريع النقل العامة التي كنت ستحدُّ من سيطرة أعضاء “توسياد” على سوق السيارات ولوازمها، كونهم المصنّعين الأساسيين للسيارات وقطع غيارها من خلال شراكتهم مع كبرى الشركات الأجنبية.
ولا يقتصر نشاط “توسياد” على الأعمال التجارية والصناعية وحسب، بل يمتدُّ تأثيرها ليصل جميع مناحي الحياة في تركيا تقريبًا، بدءًا من سيطرتها على قطاع الصحافة والإعلام حتى وقت قريب قبل أن ينتقل معظمه لرجال أعمال مقرّبين من أردوغان، مثل شركة ديمير أوران وغيرها، مرورًا بدور النشر والموضة والفن وأندية كرة القدم، مثل نادي فينرباهتشة الذي يرأسه حاليًّا علي كوتش، سليل أغنى عائلات تركيا، وصولًا إلى البنوك وشركات الاستثمارية والجامعات الخاصة وغيرها الكثير من المجالات.
وتجدر الإشارة إلى أن “توسياد” تعرّضت لبعض الخسائر بعد تأسيس منافستها المحافِظة، جمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين التركية “موصياد”، بدعم ورعاية من رئيس الوزراء الأسبق نجم الدين أربكان عام 1990، الأمر الذي دفع “توسياد” لتحريك القضاء والإعلام للانقلاب على حكومة أربكان.
من بعدها تمَّ الاستفراد بشركات “موصياد” وملاحقتها قضائيًّا بسبب انتهاجها نهجًا إسلاميًّا مخالفًا للمعايير العلمانية، التي أُسِّست عليها الجمهورية التركية الحديثة وتبنّتها هي عند إنشائها، لكن “موصياد” نجحت في البقاء على قيد الحياة من خلال اتّباع سياسة النأي بالنفس عن السياسة، حتى قدوم أردوغان وحزبه المحافظ إلى سدّة الحكم بداية الألفية الجديدة.
عمالقة “توسياد”
يبلغ عدد منتسبي رابطة “توسياد”، التي يرأسها حاليًّا سيمون كاسلوسكي ذو الأصول اليهودية الإيطالية، نحو 4 آلاف شركة تتحكّم بمفاصل الاقتصاد التركي تقريبًا، ومن أبرزها:
– كوتش القابضة (Koç Holding): أسّس نواتها الأولى رجل الأعمال الراحل وهبي كوتش عام 1926 في العاصمة أنقرة، وهي اليوم أكبر تكتُّل صناعي في تركيا، والشركة الوحيدة في البلاد التي دخلت قائمة Fortune Global 500 اعتبارًا من عام 2016.
وتضمُّ المجموعة 113 شركة تنشط في جميع المجالات تقريبًا، ومن أهم علامتها التجارية في تركيا: بنك Yapı Kredi، ومحلات Koçtaş، ومصنعَي الأجهزة المنزلية Arçelik وBeko، بالإضافة إلى مصنعَي السيارات Otokoç Otomotiv والحافلات Otokar؛ ويرأسها حاليًّا عمر كوتش.
– صابنجي القابضة (Sabancı Holding): أسّسها حجي عمر صابنجي في مدينة أضنة عام 1925، وهي عبارة عن تكتُّل مالي وصناعي مركزه إسطنبول، تنشطُ في العديد من المجالات في 12 دولة، ومن أبرز علامتها التجارية: بنك Akbank، ومتاجر البيع بالتجزئة CarrefourSA وTeknoSA؛ وترأسها حاليًّا غولار صابنجي.
– يشار القابضة (Yaşar Holding): أسّسها سلجوق يشار في إزمير عام 1945، وتنشط في صناعة الأغذية والدهانات، ومن أبرز علاماتها التجارية Pınar وDYO Boya؛ ويرأسها حاليًّا مصطفى يشار.
– إيجزانيباشي القابضة (Eczacıbaşı Holding): أسّسها نجاة إيجزانيباشي عام 1942 في إسطنبول كمختبر أدوية، ليتطور لاحقًا إلى أكبر مصانع الأدوية في تركيا والمنطقة.
وإلى جانب الأدوية، تنشط في التمويل الصناعي وصناعة مواد البناء ومستلزمات التنظيف الشخصية والمنزلية، ومن أبرز علامتها التجارية VitrA وEczacıbaşı Pharmaceuticals؛ يرأسها حاليًّا بولنت إيجزانيباشي.
“توسياد” داخل ملعب السياسة
في البداية، كان تأثير “توسياد” مقتصرًا على الأعمال التجارية والصناعية وحسب، ولم يكن لها أي تأثير على الصعيد السياسي، لكن الأمور تغيرت نهاية السبعينيات، حيث اكتسبت المنظمة القوة تدريجيًّا على الصعيدَين الاقتصادي والسياسي، ووصلت قوتها حدّ التأثير على قادة المنظمة العسكرية، المتحكّم الفعلي بالبلاد حينها.
وبداية تدخُّلهم بالسياسة كان من نصيب رئيس حكومة حزب الشعب الجمهوري، بولنت أجاويد، وذلك بعد أن شنَّت عليه حملة صحفية عنيفة دشّنتها في 15 مايو/ أيار 1979، من خلال نشر إعلانات صحفية تطالب باستقالة الحكومة بعد أن رفعت الأسعار وتسبّبت في أزمة اقتصادية خانقة لاقتصاد البلاد.
وبينما عزا البعض ردّة الفعل هذه على خلفية عملية السلام القبرصية التي أطلقها أجاويد لتحرير الجزيرة عام 1974، رأى البعض الآخر أن السبب يرجع لرفض أجاويد نشر أمريكا طائرات تجسُّسها على الأراضي التركية أثناء الحرب الباردة.
وفي أعقاب انقلاب عام 1980، لعبت “توسياد” دورًا رئيسيًّا من خلال دعمها حكومة الأقلية برئاسة سليمان ديميريل، كما كان لها دور فعّال عام 1995 في حلّ حزب الرفاه، الذي كان يتزعّمه نجم الدين أربكان وإغلاقه لاحقًا بأمر قضائي عام 1998، من خلال دعمها ماليًّا وإعلاميًّا لتشكيل ائتلاف حزب الوطن الأم.
ومنذ الثمانينيات بدأت “توسياد” بفرض سيطرتها الفعلية في الخفاء على الاقتصاد والسياسة على حدّ سواء، وبقيَ الأمر كذلك حتى اندلاع أحداث غيزي بارك عام 2013، حيث عارضت عائلات قوية في المنظمة من أمثال كوتش وأي دوغان سياسات أردوغان بشكل غير مباشر، من خلال تقديمهم الدعم للمتظاهرين.
“توسياد” وحزب العدالة والتنمية
دعمت “توسياد” بشكل علني قدوم أردوغان وحزبه، الذي كان يصنِّف نفسه في خانة النيوليبرالية وليس المحافظ كسابقيه، إلى سدّة الحكم في تركيا بداية الألفية الجديدة، وأشادت بصوت عالٍ بأنشطة حكومة حزب العدالة والتنمية الإصلاحية حتى عام 2007، نظرًا إلى كون هذه السياسات وبالأخصّ الاقتصادية عادت بالنفع على الاقتصاد وحقّقت معدلات نمو مرتفعة ومستمرة، وبالتالي صبَّ كل ذلك في جيوب أعضاء “توسياد” المهيمنين فعليًّا على اقتصاد البلاد.
عقب ذلك، بدأت المنظمة بتبنّي سياسة الصمت الهادئ ضد التصريحات التي بدأت تستهدف أردوغان وحكومته، واكتفت بتقديم الانتقادات ضمنيًّا وبأدنى حدّ ممكن، بسبب خوفهم من إشعال حرب مع أردوغان تكلّفهم خسارة أعمالهم التجارية التي بقيت مزدهرة حتى وقت قريب، الأمر الذي تسبّب في إثارة غضب المعارضة وتحفُّظات المنظمات الاجتماعية والحقوقية، التي تتبنّى نفس المبادئ والقيم العلمانية التي تتبنّاها “توسياد” أيضًا.
وفي السنوات التي تلت أحداث “غيزي بارك”، عادت “توسياد” والتزمت سياسة الحياد مع أردوغان، خصوصًا بعد فشل المحاولة الانقلابية منتصف عام 2016، ليطفو خلافها مع الرئيس أردوغان مجددًا على السطح في الشهرَين الأخيرَين، بعد أن بقيَ مخفيًا خلف الأبواب المغلقة لأكثر من عامَين، وذلك بعد تبنّي أردوغان سياسة أسعار فائدة مخفّضة، الأمر الذي رأى فيه منتسبو “توسياد” بجانب اقتصاديين كثر السبب الرئيسي في جرّ اقتصاد البلاد لأزمات حادة.
وردًّا على تحركات “توسياد” الأخيرة، وانتقادها العلني للحكومة بشأن سعر الصرف، قال أردوغان: “سوف نقاومهم مثلما قاومنا الوصاية والمنظمات الإرهابية ومخطِّطي الانقلاب وأباطرة النفوذ العالمي”، ودعا “توسياد” لتنفيذ مهمتها الوحيدة: الاستثمار والإنتاج والعمالة والنمو، وألّا تبحث عن طرق جديد لمهاجمة الحكومة لأنه لا يمكنها ذلك، نظرًا إلى كونه خبيرًا بكل خفاياها.
وفي سياق متصل، يرى الصحفي المعارض باريش ياركداش، الذي تحدث لتلفزيون KRT TV منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أن قرار “توسياد” لمعارضة أردوغان وسياساته الاقتصادية علنًا الآن، بعد تنصُّلها من مسؤولياتها في الدفاع عن الديمقراطية في تركيا طوال العقدَين الماضيَين، يعود لعدة أسباب، أهمها إدراكها أن عصر أردوغان الذي دعمته في أوروبا وأمريكا من خلال لوبيات وجماعات الضغط التي تموّلها قد شارف على الانتهاء، وأنها بصدد تغيير موقعها لحماية مصالحها التجارية وحسب.
في النهاية، لا يرغب لا أردوغان ولا “توسياد” خوض حرب مفتوحة قد تؤدّي إلى هلاك كلاهما، خصوصًا أن مصالحهما مترابطة ومتشابكة، ولغاية وقت قريب كان منتسبو “توسياد” يجاهرون بأنهم كسبوا أكبر ثرواتهم خلال حقبة أردوغان وحزبه.
رغم الرعاية التي حظيت بها جمعية “موصياد” المحافظة خلال فترة حكم العدالة والتنمية التي اقتربت من العقدَين الآن، إلى جانب النمو السريع الذي حقّقته الشركات المنتمية إلى المنظمة التي باتت تفوق إمبراطورية “توسياد” عددًا؛ إلا أن “توسياد” ما زالت القوة الاقتصادية الأكثر تأثيرًا على سير الاقتصاد التركي، نظرًا إلى أن منتسبيها ما زالوا الأكثر قوة مالًا ونفوذًا.