عقب اشتعال فتيل الحرب مجددًا بين أردوغان، الذي ما زال عازمًا على خفض معدلات الفائدة عملًا بالنص القرآني، ورئيس رابطة “توسياد”، أكبر المنظمات الاقتصادية في تركيا، الذي بدأ يدعم علنًا توجهات المعارضة التركية، التي ترى أن أردوغان يجرّ البلاد إلى أزمة اقتصادية حادة ستأتي على الأخضر واليابس، جددت جمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين التركية “موصياد” المحافِظة من دعمها للرئيس أردوغان وسياسته الاقتصادية.
وخلال العقدَين الماضيَين اللذين شهدا فترة حكم حزب العدالة والتنمية المحافظ، تمكّنت “موصياد” التي تأسّست منتصف عام 1990 من قبل رجال أعمال معروفين بانتمائهم إلى التيار التركي المحافظ، من منافسة ومزاحمة رابطة الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك “توسياد” العلمانية، التي كانت تهيمن على مفاصل تركيا التجارية والاقتصادية بالكامل، وباتت تشكّل البديل المحافظ لجمعية “توسياد” التي حتى وقت قريب كانت تتحكّم بمصير السياسة التركية، من خلال قدرتها على تحريك الجيش والإعلام لإسقاط أي حكومة لا تنفّذ سياساتها الاقتصادية.
واليوم، أصبحت “موصياد” ذراع تركيا الاقتصادية داخل الحدود التركية وخارجها، وباتت تُعتبر بمثابة جسر تركيا الممتد للخارج من أجل تعزيز التواصل الاقتصادي مع العالم بأسره، من آسيا إلى أفريقيا ومن أوروبا إلى فنزويلا ومن أمريكا الجنوبية إلى الشمالية، لتشكّل بذلك واحدة من أكبر وأهم التكتلات الاقتصادية.
“موصياد” والتأسيس
شهدت الفترة الممتدة من 13 ديسمبر/ كانون الأول 1983 إلى 31 أكتوبر/ تشرين الأول 1989، والتي تولّى خلالها تورغوت أوزال منصب رئاسة الوزراء في تركيا؛ زراعة البذور الأولى لجمعية “موصياد”، التي ستتحول خلال فترة قصيرة إلى إحدى أكبر إمبراطوريات تركيا الاقتصادية.
فبالتزامن مع تبنّي أوزال سياسة الخصخصة، التي مهّدت الطريق أمام إنشاء هيكل السوق الحرة وفتح الاقتصاد التركي على الدول الغربية، بدأت الشركات التركية ذات التوجهات الإسلامية بالنمو نتيجة انفتاح تركيا على الاقتصاد الغربي، فضلًا عن استطاعتها جذب ثروات المغتربين الأتراك في الغرب وألمانيا تحديدًا.
وفي 9 مايو/ أيار عام 1990، تأسّست جمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين التركية “موصياد” في مدينة إسطنبول، من قبل مجموعة من رجال الأعمال الأتراك المؤمنين بقدرات تركيا الاقتصادية وضرورة انفتاحها على السوق العالمي، وكان من أهم أهداف القائمين على الجمعية ذات التوجه الإسلامي تشجيع رجال الأعمال الأتراك على توسيع أعمالهم خارج تركيا، بالإضافة إلى مساعدتهم على تطوير أنفسهم من خلال توفير الفرص لتأسيس الشراكات مع المنظمات الدولية خارج بلادهم.
وتجدر الإشارة إلى أن فكرة إنشاء كيان محافظ منافس لجمعية “توسياد” العلمانية، التي ما زالت تسيطر على 50% من الناتج المحلي الإجمالي وحوالي 85% من تجارة تركيا الخارجية، كانت من بنات أفكار رجل الأعمال التركي المعروف بانتمائه إلى التيار المحافظ، إيرول يرار، الذي نجح باستمالة دعم رئيس الوزراء الأسبق، نجم الدين أربكان، الذي كان حينها رمزًا للتيار المحافظ التركي، وعليه باشرت “موصياد” انتشارها وتوسُّعها ليس فقط في تركيا، بل في العالم أجمع.
ومنذ عام 1993، وبدعم من وزارة الاقتصاد التركية، تقوم جمعية “موصياد” بتنظيم معرض “إكسبو” مرة كل عامين من أجل زيادة أعداد منتسبيها وبالتالي زيادة أنشطتها الاقتصادية، وبالتزامن مع عقد معرض “موصياد إكسبو” تُعقد أيضًا فعاليات مؤتمر منتدى الأعمال الدولي (IBF)، الذي أُنشئ من قبل “موصياد” عام 1995 كمنصة دولية لرجال الأعمال.
حقائق وأرقام
رغم كل المضايقات السياسية والتجارية التي تعرّضت لها الجمعية من قبل العسكر والقضاء في تسعينيات القرن الماضي، نجحت “موصياد” بالتوسُّع والانتشار داخل وخارج تركيا، حيث تضمّ بين صفوفها الآن نحو 11 ألف رجل أعمال تركي، و60 ألف شركة توظِّف ما يقرب من 1.8 مليون موظف وعامل، وللجمعية 88 مكتبًا تمثيليًّا في عموم المحافظات التركية، بالإضافة إلى 224 نقطة تواصُل وخدمات استشارية في 94 دولة حول العالم.
وضمن جهود الجمعية للنهوض بالاقتصاد التركي وتشجيع ريادة الأعمال في تركيا، دشّنت “موصياد” عام 2002 الفرع الشبابي في الجمعية، لإعداد رجال الأعمال الشباب ضمن رؤيتها “الأخلاق العالية والتكنولوجيا العالية”، من خلال تعليم منتسبيها الشباب كيفية الالتزام بالأخلاق التجارية، واحترام عادات وثقافة المجتمع أثناء التفكير بروح العصر الجديد، فيما يواصل الفرع الشبابي أنشطته مع 4250 عضوًا من خلال مراكزه التمثيلية البالغ عددها 53 مركزًا في تركيا، ونحو 23 مركزًا حول العالم.
وفي عام 2003 أصبحت “موصياد” عضوًا في الاتحاد الأوروبي لجمعية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وباتت اليوم تمتلك مكاتب تمثيلية في معظم دول أوروبا.
كما تسعى “موصياد” للنهوض برائدات الأعمال داخل تركيا، من خلال خلق المزيد من فرص العمل والتدريب لصقل مهارتهن وتطوير قدراتهن في مجالات ريادة الأعمال، وذلك من خلال الفرع النسوي في الجمعية، والذي يصل عدد منتسباته إلى قرابة 220 عضوة.
“موصياد” والساحة السياسية
عقب تأسيس “موصياد”، قام عدد كبير من أعضاء الجمعية المعروفين باسم “النمور الأناضولية”، والبالغ عددهم حينها قرابة 3 آلاف عضو، بنقل جزء من شركاتهم المنتشرة في جميع أنحاء الأناضول إلى مدينة إسطنبول، عاصمة تركيا التجارية، من أجل المساهمة في نهضة تركيا الاقتصادية، وفقًا لرؤى وخطط رئيس الوزراء الأسبق نجم الدين أربكان.
فخلال حقبة أربكان حظيت “موصياد” بدعم ورعاية كبيرَين، كي تصبح قوة كبيرة قادرة على الحدّ من تأثير منافستها العلمانية “توسياد” على الحياة الاقتصادية والسياسية في تركيا، وفعلًا نجحت حيث بدأت “موصياد” تدريجيًّا بتحقيق ذلك، وهنا قررت “توسياد” أن تحدَّ من نمو “موصياد” المضطرد، بإسقاط حكومة أربكان وإغلاق حزبه، وهذا ما فعلته عندما دعمت ما سُمّي بانقلاب ما بعد الحداثة عام 1997.
وخلال السنوات التي سبقت قدوم أردوغان وحزبه إلى رأس السلطة في تركيا بداية الألفية الجديدة، أنتجت “موصياد” سياسة النأي بالنفس عن الأنشطة السياسية، الأمر الذي مكّنها من الصمود رغم هجمات “توسياد” الإعلامية والقضائية الشرسة.
مع قدوم أردوغان إلى رئاسة الوزراء، أعلنت “موصياد” دعمها الكامل له ولسياساته الاقتصادية، وتسلّمَ أعضاء من “موصياد” مناصب مهمة داخل الدولة والحزب، مثل الرئيس التركي السابق عبد الله غول، ووزير الاقتصاد السابق علي بابا جان وغيرهما الكثير.
ورجعت الجمعية إلى استكمال نموها من حيث توقفت أيام أربكان بدعم ورعاية حكومة العدالة والتنمية، وبدأت بالتوسُّع داخل حدود تركيا وخارجها من أجل امتلاك موارد تجارية وصناعية أكثر تزيد من قدرتها ونفوذها، لتتمكّن من منافسة “توسياد” التي تفوقها لغاية يومنا الحالي قوةً ونفوذًا.
وتتّسم رؤية “موصياد” بالتوافق التام مع رؤى أردوغان في السياسة الداخلية والخارجية، التي تهدف إلى تخفيف حضور وتأثير المؤسسة العسكرية على المشهد السياسي في البلاد، وتدعم توجه أردوغان للتمدُّد ضمن ما يُعرَف بـ”العالم التركي” و”النطاق العثماني”، انطلاقًا من تلاقيهما في الفكر لإسلامي المحافظ، فضلًا عن دعم الجمعية مساعي الانضمام للاتحاد الأوروبي.
كما تدعم “موصياد” بكل قوة برنامج أردوغان الاقتصادي الأخير الذي أعلن عنه ليلة 20 ديسمبر/ كانون الأول 2021، وأكّدت مجددًا ثقتها في الاقتصاد التركي الذي حقّق نموًّا سنويًّا بمتوسط 5.3% على مدى السنوات العشرين الماضية دون المساس بظروف السوق الحرة، فيما دعت أعضاءها وجميع شركات تركيا لأخذ خطوات جدّية من أجل خفض أسعار السلع والخدمات.
الوزن الاقتصادي
خلال العقدَين الماضيَين، تمكّنت “موصياد” من توسعة أنشطتها الاقتصادية وزيادة عدد منتسبيها من خلال الدعم والتسهيلات اللذين تلقّتهما من قبل حكومات العدالة والتنمية المتعاقبة، وبات أعضاؤها ينشطون في كل قطاع تقريبًا، بدءًا من المنسوجات والأثاث والمعدّات الكهربائية، مرورًا بالمقاولات والتعدين، وصولًا إلى المحركات وقطع الغيار والمنتجات الإلكترونية، بالإضافة إلى البنوك الإسلامية وشركات التمويل العاملة وفق الشريعة الإسلامية.
وبينما وصلت مساهمة الشركات المنتسبة للجمعية إلى حوالي 18% من الناتج القومي الإجمالي التركي، بلغت الصادرات ما يقرب من 17 مليار دولار عام 2018، فضلًا عن مساهمتها الجادة في الحد من نِسَب البطالة في عموم البلاد، من خلال توفيرها نحو 1.8 مليون فرصة عمل في عموم البلاد وفي مختلف القطاعات التجارية والصناعية.
وتُعتبر “موصياد” أكبر المساهمين في الاستثمارات التركية الخارجية، والتي قُدِّرت بنحو 40 مليار دولار في الفترة ما بين عامَي 2000 و2017، وفقًا لتقرير صادر عن مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي (DEIK).
وبحسب تصريح رئيس جمعية “موصياد” السابق، عبد الرحمن قان، فإن حجم الإسهام السنوي في الناتج القومي الإجمالي التركي، سيصل من قبل أعضاء ومنتسبي جمعية “موصياد” نحو 200 مليار دولار بحلول العام 2023، وذلك من خلال تحقيق الرؤية الاقتصادية وتشجيع الإنتاج من خلال الحلول العقلانية في عموم مدن تركيا الـ 81.
ولا تقتصر أنشطة الجمعية على الأعمال التجارية وحسب، بل تمتدُّ لمساعدة منتسبيها من أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة، من خلال مشاركتهم بالدراسات والأبحاث والتجارب التجارية الناجحة في شتّى المجالات اللازمة لرفع كفاءة الإنتاج، كما تقوم الجمعية بالدور الاجتماعي والإنساني المنوط بها لمساعدة وخدمة المجتمع التركي، فضلًا عن وصول مساعدتها المجتمعية خارج الحدود التركية.
ويبلغ عدد منتسبي جمعية “موصياد”، التي يرأسها حاليًّا محمود أصمالي، نحو 60 آلاف شركة، أبرزها:
– يلديز القابضة (Yıldız Holding): التي أسّس نواتها الأولى صبري أولكر عام 1944، وهي اليوم من أكبر شركات الأغذية والمشروبات، فضلًا عن مساهمتها في الأسهم والعقارات، تمتلك المجموعة مصانع Ülker التي تنتج البسكويت والمقرمشات والشوكولاتة، وتصدّرها لأكثر من 110 دُول حول العالم؛ ويرأسها حاليًّا مراد أولكر.
– ناكسان القابضة (Naksan Holding): أُسِّست الشركة في غازي عنتاب عام 1940 من قبل شاه محمد ناكيبو أغلو الذي كان يعمل في تجارة الأجهزة بالجملة، وتنتج الشركة المنتجات البلاستيكية إلى جانب تصنيع المنسوجات والعقارات والخدمات اللوجستية؛ ويرأسها حاليًّا جاهد ناكيبو أغلو.
– شركة تشينار بورو (Çınar Boru): تأسست عام 1978 من قبل عبد الرحمن تشينار، وتختصُّ بإنتاج جميع أشكال وأحجام الحديد اللازمة لعمليات البناء والبنية التحتية.
في النهاية، تدرك “موصياد” جيدًا أن استمراريتها ونموها مستمدَّين من بقاء أردوغان وحزبه على رأس السلطة في البلاد، لذلك تجدها تدعم بقوة كل سياسات الحكومة المتعلِّقة بالسياسة والاقتصاد على حدّ سواء، وتحاول الاستفادة قدر الإمكان من فترتها الذهبية التي عاشتها وتعيشها في ظل العدالة والتنمية.
في حين يبدو أن “توسياد” قررت المواجهة العلنية مع أردوغان وسياساته، إيمانًا منها أن فترة أردوغان شارفت على الانتهاء، وطمعًا في كسب ودّ المعارضة التركية بعد أن خذلتها عدة مرات بسبب خوفها من مواجهة أردوغان، فضلًا عن خوفها على مصالحها التجارية إذا ما قررت خوض حرب مع الحزب عندما أحكمَ سيطرته على مؤسسات الدولة بالكامل.