تطوّران أخيران في سياق النزاع السوري لهما مضاعفات جسيمة على «الجيش السوري الحر»: الأول، حجم ومدى الغارات الجوية التي ينفّذها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» والمجموعات الجهادية الأخرى في سورية والعراق، والثاني، الاقتراح الخاص باستخدام اتفاقات وقف إطلاق النار المحلية بين النظام السوري والمعارضة المسلحة كمدخل ووسيلة لإنهاء النزاع.
فرغم المكاسب التكتيكية للغارات الجوية، إلا أنها قد تعطي عكس النتائج المرجوة وتصبّ لغير صالح «الجيش الحر». وفي موازاة ذلك، اقترح المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سورية ستيفان دي ميستورا تنفيذ اتفاقات وقف إطلاق نار محلية، لتمهيد الطريق أمام حلّ سياسي للنزاع. ويهدف هذا الاقتراح إلى تمكين نظام الأسد والمعارضة السورية من التقاط الأنفاس والتركيز على مقارعة «الدولة الإسلامية»، التي يعتبرها دي ميستورا تهديداً أكثر إلحاحاً للاستقرار في الشرق الأوسط.
لكن في السياقات الراهنة، لا الغارات الجوية ولا اتفاقات وقف إطلاق النار ستكون وسائل كافية لإنهاء النزاع السوري والقضاء على «الدولة الإسلامية». ما يُحتمل أن يحدث على الأرجح هو تصعيد المجابهات بين «الدولة الإسلامية» وبين منافستها الرئيسية «جبهة النصرة». إذ أن هذين التنظيمين، كما هو معروف، غرقا منذ أشهر في لجج معارك وجودية عاتية كانت اليد العليا فيها، حتى الآن، لـ «الدولة الإسلامية». وهذه المجابهة قد تتفاقم الآن، لأن كلاً من هاتين المجموعتين المتنافستين ستجد نفسها مدفوعة لإثبات قدرتها على الصمود والتصدّي رغم الغارات الجوية. ومثل هكذا تصعيد قد يُسفِر بدوره عن جعل «الجيش الحر» أكثر ضعفاً وانكشافاً.
ثمة تقارير عن أن غارة جوية جديدة للتحالف الدولي أدّت إلى إصابة زعيم «الدولة الإسلامية» أبو بكر البغدادي بجروح خطيرة. بيد أن انقضاء أجل هذا الرجل، سواء كان وشيكاً أم لا، لن يسفر عن الانهيار الفوري للتنظيم، كما دلّت على ذلك تجارب سابقة مع أسامة بن لادن وأنور العولقي وقادة جهاديين آخرين جرى اغتيالهم خلال العقد الماضي. ثم، صحيح أن موت البغدادي قد يضعف التنظيم نسبياً، إلا أن ذلك قد يوفِّر أيضاً لمنافسته «جبهة النصرة» الفرصة لإعادة تأكيد نفسها ونفوذها.
وقد سبق لـ «النصرة» أن دشّنت بالفعل هذا المسعى. فهي إذ عجزت عن التغلّب على «الدولة الإسلامية» الأقوى منها، عمدت إلى استهداف المعارضة السورية في الشمال والغرب كي تثبت سطوتها، فشنّت منذ أسبوعين هجوماً قويّاً على «جبهة ثوار سورية»، وهي كانت أحد أقوى ألوية المعارضة التي تقاتل كلاً من نظام الأسد و»الدولة الإسلامية» في الشمال. أسفر الهجوم عن انشقاق 3500 من أعضاء «جبهة ثوار سورية» وانضمامهم إلى «النصرة» وإلى حل هذه الجبهة برمتها، ولا سيما عقب تقارير غير مؤكّدة عن اعتقال «النصرة» قائد «جبهة ثوار سورية» جمال معروف. وفي 5 تشرين الثاني (نوفمبر)، قصف التحالف بقيادة الولايات المتحدة مقرّ «أحرار الشام» في إدلب، وهو الهجوم الأول من نوعه على هذه المجموعة الإسلامية التي تربطها صلات غير رسمية بـ «جبهة النصرة». وفُسِّر هجوم التحالف على «أحرار الشام» على أنه كان يستهدف مقاتلي «النصرة» الذين كانوا يستخدمون مبنى تابعاً لهذا التنظيم.
بيد أن لهذا الهجوم فوائد محدودة. فقبل هجوم «النصرة» على «جبهة ثوار سورية»، كان قد أصبح جلياً أنه رغم القوة التي تمتّعت بها الجبهة، كانت تخضع، إلى جانب «الجيش السوري الحر» عموماً، إلى تهديدٍ متنامٍ من «النصرة». وكان جمال معروف قد سعى إلى التواصل مع «النصرة» لإقناع قادتها بالموافقة على شكلٍ من أشكال التسوية، بغية تجنّب مواجهة قاتلة مع المجموعة. في غضون ذلك، كان «الجيش السوري الحر» يتعرّض لهجمات «النصرة» في الجنوب أيضاً، حيث اغتالت هذه الأخيرة سبعةً من كبار قادة «الجيش السوري الحر» حتى الآن. ونتيجة لهذا الضغط، أوضح «الجيش الحر» للولايات المتحدة أنه يحتاج إلى دعمٍ كبيرٍ لا ليحمي نفسه من التهديد الثلاثي الذي يفرضه نظام الأسد و»جبهة النصرة» و»الدولة الإسلامية» وحسب، بل أيضاً ليتمكّن من التفوّق على أعدائه لاحقاً. غير أن الولايات المتحدة تأخّرت جداً في الردّ، وعندما فعلت، لم يكن ردّها شاملاً. فعوض أن تقدّم لـ «الجيش السوري الحر» دعماً استباقياً ودفاعياً، لم تهاجم مقرّ «أحرار الشام» إلا بعد أن تمكّنت «النصرة» من إلحاق أضرار فادحة بـ «جبهة ثوار سورية». ولم يهاجم التحالف، إلا بعد ذلك، موكب «الدولة الإسلامية» الذي من الممكن أنه كان ينقل البغدادي. ردُّ التحالف المتأخّر هذا أدّى إلى ترك حلفائه مكشوفين. ورغم الانتكاسة التي مُنيَت بها «النصرة» عقب مقتل بعض مقاتليها في الهجوم الذي شُنّ على «أحرار الشام»، دلّ استهداف موكب قيادة «الدولة الإسلامية» أيضاً على أن «النصرة» تستطيع الإفادة من هذا الهجوم، في حين تواجه «الدولة الإسلامية» نفسها الآن التحدي الأكبر المتمثّل بإثبات قدرتها على البقاء، سواء مع البغدادي أو من دونه.
كل هذه التحديات تدفع «الدولة الإسلامية» و»جبهة النصرة» إلى بذل جهود حثيثة لإثبات قدرتهما على الصمود، في حين تواصل المجموعات الجهادية الأصغر، وآخرها «أنصار بيت المقدس» في مصر، الانضمام إلى التنظيمَين. ومن المتوقّع أن تتواصل هذه العملية. ففي سياق الحرب، غالباً ما تُترجم رغبة اللاعبين الصغار في حماية الذات وفي السلطة، بطريقة براغماتية. هذا يعني، رغم الخسائر التي تكبّدتها «الدولة الإسلامية» و»النصرة» نتيجة الغارات، أنه كلّما اتّسع نطاق الضربات، يرجّح أن يزيد التنظيمان أنشطتهما لإثبات قدرتهما على الصمود، وبالتالي، يبدأ عدد متزايد من المجموعات الجهادية الأخرى بالنظر إلى «الدولة الإسلامية» و»النصرة» على أنهما ملاذان محتملان. وهذا في آخر المطاف يؤدي بسورية إلى انقسام مناطقها الشرقية والشمالية والغربية كما الوسط بين سيطرة «الدولة الاسلامية» و»النصرة» والنظام، فيما تنحصر المعارضة في الجنوب. يمكن وقف ردّ الفعل التسلسلي هذا حين يصبح «الجيش السوري الحر» منافساً قويّاً على الأرض، وقادراً على إلحاق الهزيمة بالتنظيمين وبالنظام السوري أيضاً. وهنا ستكون عمليات وقف إطلاق النار في الوضع الراهن في غير مصلحة «الجيش السوري الحر».
طيلة فترة الصراع، ثبُت أن عمليات وقف إطلاق النار المحلية لا تفيد المعارضة السورية، بل نظام الأسد وحسب: فبعد كل وقفٍ لإطلاق النار، كان النظام قادراً على استعادة المناطق التي خسرها أمام المعارضة في مناطق وقف القتال. حمص خير مثال على ذلك. قد ينجح وقف إطلاق النار في سياقٍ تكون فيه الجهات المتحاربة متكافئة نسبيّاً على المستوى العسكري. لكن بما أن نظام الأسد أقوى من «الجيش السوري الحر» في الوضع الراهن، فان من شأن وقف إطلاق النار أن يمكّن نظام الأسد ضد «الجيش السوري الحر» و»الدولة الإسلامية»، وليس ضد الأخيرة وحسب.
في حال تم تنفيذ عمليات وقف إطلاق النار المحلية خلال استمرار التحالف بمهاجمة «الدولة الإسلامية» و»جبهة النصرة» من دون تمكين «الجيش السوري الحر»، سيكون هذا الأخير الخاسر الأكيد في السيناريو المقبل، خصوصاً أن أيّاً من «الدولة الإسلامية» أو «جبهة النصرة» لن يوافق على وقف إطلاق النار. وفي حين أجّجت ضربات التحالف نار المواجهة بين التنظيمَين اللذين يصعّدان أنشطتهما العسكرية في إطار سعيهما إلى إثبات نفسيهما، سيصبح «الجيش السوري الحر» الهدف الأسهل. وفيما يطول أمد الصراع السوري وتزداد حدّته، لا يحتاج «الجيش السوري الحر» لمواجهة هذه العاصفة إلى إجراءات انتقامية على يد التحالف، ولا إلى وقفٍ لإطلاق النار من شأنه تمكين أعدائه، بل هو بحاجةٍ إلى دعم دفاعي في المدى القصير، وإلى تعزيز قدراته الهجومية في المدى الطويل.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط