جاء القصف الجوي الروسي على جبل الشيخ بركات وعدد من المواقع في محيط دارة عزة شمال غرب حلب أواخر العام 2021 ليثبت بالنار الخط الفاصل بين مناطق سيطرة الفصائل المعارضة في ريف حلب (درع الفرات وغصن الزيتون) ومناطق سيطرة هيئة تحرير الشام في إدلب ومحيطها شمال غرب سوريا.
ويبدو أن تحرير الشام حريصة على تثبيته أيضًا بعد أن اتخذت إجراءات عديدة في هذا الاتجاه، وذلك من خلال تكثيف نقاط الحراسة ونشر المزيد من العناصر التابعين للواء الحدود وعلى طول الشريط، وحصر الدخول والخروج من معبرين اثنين فقط هما معبر دير بلوط ومعبر الغزاوية الواصلين بين منطقتي النفوذ.
نشأة الحدود
بعد سيطرة المعارضة السورية على منطقة عفرين شمال حلب بدعم من الجيش التركي عام 2018 تحقق للمعارضة في منطقتي (درع الفرات وغصن الزيتون) الاتصال البري مع مناطق إدلب وغرب حلب التي كانت تحرير الشام تتقاسم السيطرة فيها مع فصائل محلية أخرى، وفي النصف الثاني من العام ذاته بدأت تحرير الشام تولي اهتمامًا خاصًا بالمنطقة الفاصلة على اعتبار أنها ترسم مناطق نفوذها في مواجهة الفصائل، ومنذ ذلك الوقت بدأت فعليًا حربها ضد عدد من الفصائل التي كانت تشاركها المنطقة، أهمها فصيل حركة نور الدين الزنكي.
وافتتح في الفترة ذاتها معبران: الأول يصل منطقة دارة عزة في ريف حلب الشمالي الغربي بريف عفرين الجنوبي الغربي، وأُطلق عليه اسم معبر الغزاوية بحكم وقوعه بالقرب من قرية الغزاوية الصغيرة، أما المعبر الثاني فيصل بين دير بلوط في ريف عفرين الغربي بمنطقة أطمة والمخيمات شمالي إدلب.
يعتبر المعبر الثاني قديمًا نسبيًا، ويعود إنشاؤه إلى العام 2014 تقريبًا، فكان قائمًا في أثناء سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية ypg على منطقة عفرين، وكان المدنيين فقط ينتقلون عبره بين منطقتي حلب وإدلب، أي أولئك الذين ليس لهم علاقة بالمعارضة، لأن الوحدات كانت تعتقل كل من له صلة بالمعارضة السورية، وكثيرًا ما وقعت حوادث اعتقال بحق ناشطين وعسكريين كانوا ينوون التنقل بين المنطقتين مرورًا بمناطق سيطرة الوحدات، وبعض المعتقلين سلمتهم الوحدات لقوات النظام في حلب.
اقتصاد مغلق لمنطقة إدلب
بعد أن تأسست حكومة الإنقاذ التابعة لتحرير الشام عام 2017، وبعد أن تمكنت الأخيرة من السيطرة والهيمنة الكاملة على مناطق إدلب وما حولها في الفترة ما بعد العام 2019، أي بعد القضاء على الفصائل الكبيرة التي كانت تنافسها هناك، أهمها (أحرار الشام وصقور الشام وحركة نور الدين الزنكي) بدأت بالعمل على تمكين حكومتها والتأسيس لاقتصاد محلي خاص منعزل عن اقتصاد المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل.
السياسات التي تتبعها هيئة تحرير الشام تركز على تثبيت واقعية حكومتها (الإنقاذ) من خلال الفصل التام بين مناطقها ومناطق الحكومة المؤقتة
وخلال الأعوام 2018 و2019 و2020 بدأت تظهر شركات ومؤسسات استيراد تحتكر تجارة واستيراد أنواع مختلفة من السلع القادمة من تركيا من خلال معبر باب الهوى شمالي إدلب، أو تلك الواصلة عبر ممرات التهريب بين مناطق تحرير الشام ونظام الأسد، كشركة وتد للمحروقات التي احتكرت تجارة وتوزيع الديزل والبنزين بأنواعه المحلي والمستورد.
كذلك احتكرت “وتد” استيراد الغاز المنزلي القادم من تركيا وتوزيعه محليًا في إدلب، بالإضافة إلى ظهور شركات مؤسسات تجارية ناشئة أخرى تحتكر استيراد الإسمنت والحديد والأسمدة والمنتجات الزراعية والمواد الغذائية والطحين وغيرها، وظهرت طبقة من التجار المرتبطين بالاقتصاد الناشئ لحكومة الإنقاذ وبقادة بارزين في تحرير الشام.
قال الباحث السوري محمد السكري لموقع “نون بوست”: “السياسات التي تتبعها هيئة تحرير الشام تركز على تثبيت واقعية حكومتها (الإنقاذ) من خلال الفصل التام بين مناطقها ومناطق الحكومة المؤقتة وهذا لا يمكن إلا من خلال اتباع سياسات متباينة سواء في التعامل مع الملفات السياسية أم الاقتصادية”.
مضيفًا “هذه السياسات في الغالب صارمة لا تعتمد على إنعاش مناطق المعارضة كاملة وإنما إثبات تميّز مشروع عن الآخر، وهذا يُسهل عمليات الاحتكار والاعتماد على شخصيات حرب تثق بها تحرير الشام من حيث معايير الولاء والثقة على حساب الكفاءة والفاعلية، كما تمنع أي عمليات اختراق أمني لمناطقها”.
وتابع السكري “الواقع المعيشي في مناطق تحرير الشام يدفع الكثير من التجار وصغار الكسبة للبحث عن طرق لتهريب المواد عبر مناطقهم لإيجاد ثغرة أملًا بتخفيف حجم الاحتكار، في المقابل تستفيد تحرير الشام من سياستها عبر جلب استثمارات وعقد شراكات في مختلف القطاعات مع شركات ناشئة مهتمة بالداخل السوري لا سيما من تركيا”.
وأشار السكري إلى أنه “في حال عدم قدرتها على إفراغ السوق من البضائع القادمة من مناطق منافسة وبأسعار أقل، فإن هذا سيشكل تهديدًا عليها وكل هذا يصب في معادلة التمكين السياسي لحكومة الإنقاذ كسلطة أمر واقع من خلال ترسيخ هيمنتها الاقتصادية وضبط عمليات البيع والشراء في السوق بما يضمن استمرارية سلطتها القائمة على أرباح الاحتكار، وهذه في الغالب مشابهة إلى حد ما للسياسات الاشتراكية مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات الكبيرة”.
موضحًا “يكمن هذا التشابه من خلال منع الحكومة للقطاع الخاص الذي يتجسد في مناطقها بشخصيات تنطلق من الحاجة في دعم ذاتها والسوق في ظل الأوضاع المعيشية، تعتقد تحرير الشام أنّها قادرة على استدامة هذه السياسة، لكن في الغالب اقتصاد الحرب لا يدوم كثيرًا وسط الغليان الشعبي والارتفاع الكبير في الأسعار والغياب شبه التام للخطط الاقتصادية الواضحة على الأقل قريبة المدى مع فقدان الكادر الحكومي المهني”.
فارق الأسعار
بدت قبضة تحرير الشام وحكومتها “الإنقاذ” على الاقتصاد المحلي في إدلب أكثر شدة عام 2021، وكان للهيمنة الكاملة على القطاع التجاري بمختلف مجالاته دورًا في منع ظهور أي شكل من أشكال المنافسة والمضاربة في الأسعار، وبالتالي تحكم الشركات والمؤسسات المتنفذة بالأسعار لمختلف السلع الغذائية والتحويلية ومواد البناء وغيرها، ولتحقيق أرباح أكبر.
وكان هامش الربح دائمًا في حدوده العليا، وهو ما شكل فارقًا كبيرًا في الأسعار لمختلف السلع والمواد بين منطقة إدلب ومناطق ريف حلب الخاضعة لسيطرة الفصائل صاحبة الاقتصاد المحلي المفتوح، لذلك بدأت تحرير الشام تشدد رقابتها على الخط الفاصل بين مناطقها ومناطق الفصائل لتحمي شركاتها وتجارها من المنافسة ولتحافظ على الأسعار، ومنذ ذلك الوقت بدأت تتصاعد عمليات تهريب السلع من منطقة حلب إلى منطقة إدلب.
قال مصدر محلي يعمل في قطاع تجارة الغذائيات في ريف حلب لموقع “نون بوست”: “مختلف أنواع السلع بما فيها الخضراوات والفاكهة والمحروقات تباع في مناطق سيطرة الفصائل في ريف حلب بأسعار أقل من مثيلاتها في منطقة إدلب، فمناطق الفصائل بريف حلب مناطق مفتوحة على تركيا بأربعة معابر هي: الحمام وباب السلامة والراعي وجرابلس، بالإضافة إلى ممرات التهريب، ولا توجد أي مؤسسة أو جهة تحتكر نوعًا معينًا من السلع، وهو ما جعل المنطقة تشهد منافسة كبيرة من ناحيتي السعر والبضائع المعروضة”.
قالت مصادر متطابقة في إدلب لموقع “نون بوست”: “هناك قائمة متعارف عليها لدى المهربين بين المنطقتين، وتضم أهم السلع والمواد التي يمكن أن يجني منها المهرب أرباحًا بسبب فارق السعر بين المنطقتين، وعلى رأسها المازوت والبنزين السوري المفلتر محليًا، إذ يباع اللتر الواحد في ريف حلب بسعر أقل من سعره في إدلب بليرتين تركيتين، كذلك الغاز المنزلي، الفارق في سعر الأسطوانة بين المنطقتين يصل الى 15 ليرةً تركيةً أحيانًا، وبريف حلب أرخص بطبيعة الحال”.
أضافت المصادر “الدخان (التبغ) بأنواعه ومعسل النرجيلة يأتي في المرتبة الثانية من حيث الطلب وفارق السعر، ويجني المهربون مبالغ خيالية من تهريب الدخان وإيصاله من مناطق ريف حلب إلى إدلب، ويعمل في تهريب الدخان أطفال ونساء فقراء يحاولون قطع الخط الفاصل بين التلال والأراضي الزراعية وإن حالفهم الحظ ولم تمسك بهم عناصر تحرير الشام يمكن القول إنهم أمنوا مصاريف معيشتهم لأسبوع على الأقل، عمليات التهريب تجري أيضًا من خلال معبري: الغزاوية ودير بلوط، وبات الكثير من عناصر تحرير الشام شركاءً في عمليات التهريب”.
يشمل فارق الأسعار بين منطقتي حلب وإدلب المزيد من السلع والمواد، كالخضراوات والفاكهة، وسبق أن منعت تحرير الشام دخول الفلفل الأحمر والملوخية وغيرهم من الخضراوات القادمة من ريف حلب لكيلا يتأثر المنتج المحلي بحسب تصريحات مسؤولي المعبرين، وشهدت أشهر الصيف والخريف التي تعتبر أشهر صناعة المؤونة لدى السوريين في الشمال جدلًا واسعًا بسبب قائمة الممنوعات التي أصدرتها إدارة المعابر التابعة لتحرير الشام.
ووصلت أسعار بعض الخضراوات في إدلب في ذلك الحين إلى ضعف السعر المتداول لذات المنتج في ريف حلب وهو ما دفع الناس في إدلب للتوجه نحو عفرين ومناطق ريف حلب للتسوق، وبعد الجدل الذي أحدثته قائمة الممنوعات لجأت إدارة المعابر التابعة لتحرير الشام لزيادة ضريبة المرور على الشاحنات والسيارات التي تحمل بضائع ومواد متنوعة، ووصلت الضريبة إلى 30 دولارًا على الطن الواحد من الحمولة، وهي محاولة لمنع تدفق البضائع القادمة من ريف حلب إلى إدلب.
رقابة مشددة
في بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول 2021، تداول ناشطون سوريون على مواقع التواصل الاجتماعي صورةً لثلاثة أطفال قالوا إن حرس الحدود التابع لتحرير الشام ألقى القبض عليهم في أثناء محاولتهم نقل دخان مهرّب من ريف حلب إلى مناطق نفوذ تحرير الشام في إدلب.
ووجّه الناشطون عبر منشوراتهم انتقادات حادة لتحرير الشام التي نشر إعلامها الرديف صورة الأطفال مع علب الدخان وهم يبكون وتظهر على وجوههم علامات الخوف الشديد، وطالب الناشطون تحرير الشام بملاحقة أمراء الحرب وتجار الممنوعات والمحتكرين التابعين لها بدلًا من هؤلاء الأطفال.
تكررت الحوادث من هذا النوع خلال الأشهر الثلاث الأخيرة من عام 2021، واعتقل الكثير من المهربين الصغار والنساء على الشريط الفاصل وفي أثناء العبور من ممري الغزاوية ودير بلوط لكن هذه المرة بسرية تامة، وحاولت تحرير الشام تجريم فعل التهريب وأصدر مشايخ مقربون منها فتوى تحرمه.
وتداولت حسابات موالية لتحرير الشام في تليغرام الفتوى التالية: “شيخنا شخص يهرب مازوت من منطقة عفرين إلى منطقة إدلب، من معبر الغزاوية عن طريق دابو السيارة أو في قلب خزان الماء صانع خزان صغير يملأه، هل هذا النوع من التهريب محرم وماله حرام، أفدنا رفع الله قدركم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، الجواب، إذا أصدر الأمير أمرًا بمنع هذا التهريب أو ما شابه، لغرض شرعي، فيجب السمع والطاعة له وتحرم مخالفته”.
زعيم تنسيقية الجهاد المنشقة عن تحرير الشام أبو العبد أشداء قال في تليغرام: “امرأة مسلمة فقيرة تهرب 10 لترات مازوت بين الجبال من مناطق درع الفرات إلى منطقة إدلب فينقض عليها أحد مجرمي الجولاني ويضرب بالسكين بيدون البلاستيك الذي فيه فقط 10 لترات مازوت فينسكب على الأرض وتنسكب معه دموع المرأة التي صعدت الجبال وتحملت عناء ساعات كي تربح عشرة ليرات تطعم بها أولادها”.
الحادثة التي تحدث عنها أشداء جرت في الأسبوع الأخير من عام 2021، وهي واحدة من عشرات حالات التعدي والملاحقة التي يتعرض لها المهربون من عناصر الحدود التابعين لتحرير الشام، قال الأسيف عبد الرحمن في تليغرام: “تهريب كروز ماستر جريمة لا تغتفر، والتضييق على قوت الشعب مسألة فيها نظر، نحاسب الصغار رغم فقرهم، ونحمي التجار الكبار رغم غناهم”.