يشهد العراق اليوم موجةً مخيفةً جدًا من انتشار المخدرات، في ظل صمت وتكتيم الجهات الرسمية، وبعد أن كان العراق سابقًا يشكل قلقًا كونه ممرًا للمخدرات فقط، اليوم أصبح دار مستقر لتلك المواد الفتّاكة بمختلف أنواعها وأشكالها، ويوجد سوق كبير لترويجها، وهناك شريحة واسعة تحديدًا من فئة الشباب تتعاطاها، حسب متابعة مراقبين ومؤسسات رسمية وغير رسمية مهتمة بالأمر.
لا يكاد يمر يوم إلا ونسمع تصريحًا من الجهات الأمنية العراقية تذكر فيه الكشف عن شبكة من تجار المخدرات، والضحية الأولى في هذا التحدي الخطير هم الشباب الذين يشكلون ما يزيد عن 60% من الشعب العراقي، وهذا يعني أننا أمام سحق منظم لمستقبل شعب بكامله، فأي قدرة ستكون للبلد على النهوض والإعمار والبناء إذا كان 50% من أهم فئة فيه وهم الشباب، يتعاطون المخدرات بمختلف أنواعها وأشكالها!
فحسب التصريح الأخير لوزير الداخلية في الحكومة العراقية عثمان الغانمي، حين قال بحوار متلفز في قناة العراقية الفضائية بتاريخ 13 من يناير/كانون الثاني 2021: “نسبة المتعاطين للمخدرات بين صفوف الشباب العراقيين ضمن الفئة العمرية بين 30 إلى 35 سنة بلغت أكثر 50% خلال الفترة الأخيرة”.
والعدد الأكبر لهذه النسبة يكون في الأحياء والمناطق الفقيرة التي يعاني الشباب فيها من مشاكل كثيرة ومتراكمة منذ عقود من الزمن، وآثار صعبة وشديدة للصراعات والمعارك والحروب، أودت بطموحاتهم وأحلامهم وتطلعاتهم وجعلتهم أفرادًا يائسين يملأهم القلق والحزن ويبحثون عن أي وسيلة تنسيهم معاناتهم ولو لمدة مؤقتة!
ويعود سبب هذه الكارثة إلى الفساد المتفشي في العراق بالدرجة الأساس، الذي ألقى بظلاله على كل قطاعات البلد، إذ سمح للمهربين والمجرمين بتجاوز القانون واختراق الحدود وتهريب ما يريدون من تلك المواد المخدرة.
فواحدة من أهم مشكلات العراق، التي لم تتمكن كل الحكومات العراقية المتعاقبة من السيطرة عليها، هي مشكلة المنافذ الحدودية، فهناك منافذ عراقية رسمية وغير رسمية لا تتمكن الحكومة من إدراتها وفرض سلطة القانون فيها، لأنها تخضع لسيطرة كيانات مسلحة تفرض هيمنتها ونفوذها بشكل مستمر بقوة السلاح وبتخادم المصالح بينها وبين جهات سياسية متنفذة داخل العراق، وتعتبر موردًا اقتصاديًا كبيرًا لتمويل أفراد تلك الكيانات وتمويل نشاطاتها.
يعلم الجميع أن العراق تعرض لانحدار كبير في كل القطاعات وعلى مختلف المستويات
ومن الأسباب المهمة الأخرى المشاكل الواضحة التي يتعرض لها العراقيون منذ عام 2003 وحتى اليوم، في الجانب الأمني والاقتصادي والاجتماعي، ما أدى إلى خلق بيئة قلقة جدًا وغير مستقرة وأرض خصبة للجريمة بمختلف أنواعها.
يعلم الجميع أن العراق تعرض لانحدار كبير في كل القطاعات وعلى مختلف المستويات، وكلما بحثنا عن تسلسلنا في أي تقييم أو معيار أو إحصائية عالمية، نجد أنفسنا متأخرين جدًا وفي تسلسلات متدنية، لدرجة تشعرنا بالخجل، وبذات الوقت تولد لدينا غضبًا ونقمةً على من أوصلنا لهذا الحال!
لكن يمكن الصبر على كل تلك المشكلات الكبيرة أمام المصيبة الأعظم وهي المخدرات، لأنها السلاح الأخطر الذي سيجعلنا نفقد كل شيء، وستجعل المجتمع في حالة من الشلل تمنع إمكانية أي تغيير أو نهضة ممكنة، وهي الوباء القاتل الذي سينتشر كمرض عضال، وستصعب السيطرة عليه مستقبلًا، إذا لم تتمكن الدولة والحكومة الآن وبشكل عاجل من القضاء عليها وإيقاف انتشارها، وتجارب الدول الأخرى التي انتشرت فيها المخدرات بشكل واسع تثبت ذلك، لكن للأسف بدلًا من أن نجد مساعٍ للحل، يصل إلى مسامعنا كمراقبين أن هناك كيانات مسلحة فاعلة ومؤثرة في العراق تحمي تجار المخدرات وتوفر لهم كل الدعم لإنعاش تجارتهم، مقابل مبالغ وعمولات كبيرة، ضاربين بذلك مستقبل أبناء العراق بعرض الحائط!
ويلاحظ العراقيون جهود حكومية معينة باتجاه مكافحة المخدرات، إذ كشفت وزارة الداخلية في يناير/كانون الأول 2021، عن إجراءاتها ضد تجار ومروجي المخدرات، وأكدت القبض على 10 آلاف متهم.
قال مدير العلاقات والإعلام بوزارة الداخلية ورئيس خلية الإعلام الأمني اللواء سعد معن في تصريح له : “مكافحة المخدرات جهد حكومي كبير، ووزارة الداخلية المتصدر الأول في الموضوع لوجود مديرية عامة تخصصية وهي المديرية العامة لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية”، مبينًا أن “المديرية لها نشاطات عديدة، وهناك مئات النشاطات خلال هذه السنة”.
تبقى هذه الجهود ليست بمستوى الطموح أمام هذا التحدي الكبير، وكذلك كثير من تلك الجهود لا تصل إلى مبتغاها بسبب معضلة الفساد الكبيرة في كثير من مؤسسات الحكومة
وأشار الى أن “الوزارة تمكنت خلال الـ10 أشهر الماضية من هذا العام من إلقاء القبض على ما يقارب 10 آلاف متهم في جميع أنحاء العراق على مستوى المتعاطين والمروجين والمتاجرين”، لكن تبقى هذه الجهود ليست بمستوى الطموح أمام هذا التحدي الكبير، وكذلك كثير من تلك الجهود لا تصل إلى مبتغاها بسبب معضلة الفساد الكبيرة في كثير من مؤسسات الحكومة، التي تحول دون تطبيق القانون بشكل كامل، ودون تطبيق القصاص العادل على المجرمين.
والحل للسيطرة على مشكلة المخدرات من حيث من يتجار بها أو يتعاطها، هو أن تفرض الدولة قوانين صارمة وتعدل قانون مكافحة المخدرات الصادر عام 2017، واستبداله بقانون أكثر صرامةً ولا ضير أن يصل الحكم على من يتجار بالمخدرات إلى الإعدام لتكون عقوبة رادعة لأولئك الذين يقتلون أبناءنا وشبابنا يوميًا وبشكل مستمر.
وأيضًا يستوجب أن تتصدى لهذا الأمر جهات رسمية غير فاسدة، لا تساوم ولا تخضع لإرادة المهربين والمجرمين، وأن يكون هناك تعاون دولي للعراق مع دول الجوار للحد من اتساع هذه الكارثة، وأيضًا على مؤسسات الدولة الرسمية المختصة وكذلك منظمات المجتمع المدني وكل المنصات الدينية والمجتمعية المؤثرة، أن تؤدي دورها في مجال التوعية بخطورة المخدرات وتوفير برامج تأهيل صحية ونفسية للمتعاطين وعدم الاكتفاء بالتعامل مع الأمر من جانب أمني فقط.