يبدو أن الطريق ما زال طويلًا أمام بدء تدفق الغاز الروسي عبر خط أنابيب “السيل الشمالي2″، رغم اكتمال بنائه ومده في مطلع خريف 2021، ذلك أن برلين لا تستعجل تشغيل الخط الذي من شأنه حل أزمة الطاقة بالقارة العجوز، لعل “السيل الشمالي2” يتحول إلى ورقة سياسية ضاغطة بين يد الغرب، فإذا كانت موسكو ترغب في ضخ الغاز عبر هذا الخط، يجب عليها أن تتخلى نهائيًا عن خيار غزو أوكرانيا.
بعد أن دعمت المشروع على مدى سنوات في مواجهة معارضة الحلفاء الرئيسيين مثل الولايات المتحدة، وقفت حارسة البوابة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، ممتنعة عن منح “السيل الشمالي2 ” دعمًا سياسيًا، فوفقًا لوكالة الأنباء رويترز، فإن المستشارة الألمانية السابقة، أخبرت صراحةً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الأساس السياسي لتشغيل “السيل الشمالي2” هو التزام روسيا بمواصلة استخدام أوكرانيا كطريق لنقل الغاز في المستقبل أيضًا.
واشنطن تدمن العقوبات
يشمل “السيل الشمالي2” أنبوبي غاز يمتدان على طول 1230 كيلومترًا، بطاقة استيعابية تبلغ 110 مليارات متر مكعب سنويًا، ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر قاع بحر البلطيق دون المرور بالأراضي الأوكرانية، وهو الأمر الذي جعل المشروع يتخذ بعدًا إستراتيجيًا أكثر منه اقتصاديًا، في ظل تفاقم التوتر العسكري على تخوم روسيا، خاصة على حدودها الغربية مع أوكرانيا.
يتهم الغرب روسيا بأنها تتأهب لاجتياح الأراضي الأوكرانية، في سيناريو يذكر بالعام 2014 حين ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، لكن موسكو تقول إنها لا تخطط أبدًا لغزو كييف، بل هي قلقة من التحركات العسكرية لأوكرانيا وحلفائها على الحدود، التي تعتبرها روسيا “مستفزة وتتجاوز الخطوط الحمراء إلى درجة تهديد أمنها”.
بعد أيام من انعقاد قمة افتراضية جمعت فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي جو بايدن، في 7 ديسمبر/كانون الأول 2021، زادت وتيرة المخاطر من حدوث مواجهة مسلحة بين موسكو والغرب، بعد تحذير شديد اللهجة أطلقه نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، بأن موسكو سترد “عسكريًا” وتنشر أسلحة نووية تكتيكية محظورة، إذا لم يتعهد حلف شمال الأطلسي بإنهاء توسعه شرقًا.
فشلت واشنطن في محاولات إجهاض “السيل الشمالي2″، بعدما فرضت عقوبات على الشركات والسفن المشاركة في هذا المشروع
ولم تعقد هذه القمة إلا لتحذير روسيا من أنها ستتعرض لـ”عقوبات شديدة اقتصادية وغيرها” في حال حصول تصعيد عسكري في أوكرانيا، لكن روسيا لا تبدي أي اهتمام بمثل هذه التحذيرات، إذ قال المتحدث الرسمي باسم الكريملين ساخرًا: “ندرك جيدًا أن الجانب الأمريكي يدمن العقوبات”.
غاز رخيص لألمانيا
فشلت واشنطن في محاولات إجهاض “السيل الشمالي2″، بعدما فرضت عقوبات على الشركات والسفن المشاركة في هذا المشروع الذي تتوجس منه الولايات المتحدة الأمريكية وترى فيه تهديدًا حقيقيًا للأمن الطاقي في أوروبا، إذ يزيد من اعتماد دول الاتحاد على الغاز الروسي، وبينما لقيت أمريكا تأييدًا من بعض دول أوروبا الشرقية، فإن ألمانيا، المعني الأول، دعمت تشييد خط الأنابيب واعتبرته مشروعًا تجاريًا بحتًا، ما دامت ستحصل على الغاز بأفضل طريقة وأنسب الأسعار.
تستورد أوروبا الغاز المسال من الولايات المتحدة عبر ناقلات، ما يجعل تكلفته أغلى مقارنة بالغاز الروسي، ومن شأن “السيل الشمالي2” أن يضيق الخناق على إمدادات الغاز الأمريكي ويحد من إمكانيات توسيع إمداداته، بينما الخاسر الأكبر هي أوكرانيا، التي تعد محطة عبور الغاز من روسيا نحو أوروبا، لهذا تشترط ألمانيا الإبقاء على استخدام هذا الخط.
سنويًا، تجني أوكرانيا على الأقل 1.5 مليار دولار مقابل مرور الغاز الروسي عبر أراضيها، وهذا وحده سبب كاف ليثير مخاوف كييف من احتمال خسارة هذه العائدات، إلى جانب فقدان دورها كدولة “ترانزيت”، لهذا تأمل في تمديد عقد عبور الغاز الروسي لمدة 10 سنوات أخرى على الأقل من موعد انتهاء العقد الراهن في 2025.
ألمانيا في وضع حرج للغاية، بين خيار تقديم مصالحها الاقتصادية أو الاستجابة لمطالب الولايات المتحدة باستغلال خط الغاز كوسيلة لكبح الدب الروسي عن استهداف أوكرانيا
قد تستمر روسيا في توريد الغاز عبر أوكرانيا، إذا كانت أوروبا في حاجة إلى كميات أكبر، وهو بالضبط ما تطمح إليه موسكو، بجعل القارة العجوز غير قادرة على الانعتاق من التبعية للغاز الروسي، خاصة أن نهاية أزمة الطاقة الأوروبية لا تبدو وشيكة، في ظل نقص الإمدادات واضطراب الطاقة النووية في فرنسا الذي يجهد شبكات الكهرباء في أبرد شهور العام، وفق تقرير لوكالة “بلومبيرغ” ربط هذه الأزمة بأوضاع سوق الغاز الطبيعي في أوروبا، الذي يتوقع أن ترتفع أسعاره إلى أعلى مستوى خلال الصيف القادم.
وسيلة لكبح الدب
توقعت روسيا أن يتم التصديق من الجانب الألماني على تشغيل خط “السيل الشمالي2″، في النصف الأول من سنة 2022، لكن وكالة الشبكة الفيدرالية لتنظيم قطاع الطاقة في ألمانيا علقت بصورة مؤقتة آلية الترخيص لخط أنابيب الغاز، مبررة هذا القرار بـ”أن الشركة الروسية المُشغلة لهذا المشروع “نورد ستريم 2 أي جي” ليست مُسلجة بصورة قانونية بموجب القانون الألماني”، ما يجعل آلية التصديق غير ممكنة في هذه الحالة، إذ من المتوقع أن تصدر الموافقة النهائية إيذانًا بتشغيل الخط خلال النصف الثاني من العام 2022.
المستشار الألماني الجديد أولاف شولتس، يرفض بشدة اعتبار الأزمة الأوكرانية وخط أنابيب الغاز على قدم المساواة، بالنسبة لهذا المستشار الاشتراكي، يتعلق المشروع المثير للجدل بقضية اقتصادية محضة، مؤكدًا أن ألمانيا ستقرر في بدء تشغليه بعيدًا عن السياسة تمامًا، على نقيض حزب الخضر، وهو طرف رئيسي في الحكومة الائتلافية الجديدة، الذي يعلن معارضة شديدة لهذا المشروع.
والوقع أن تعليق موعد بدء تدفق الغاز عبر “السيل الشمالي2” لم يقلل من مخاوف دول الغرب، خاصة الولايات المتحدة وأوكرانيا وبولندا، من مغبة استخدام موسكو للغاز كورقة قوية لابتزاز أوروبا مستقبلًا وتحقيق مكاسب سياسية خاصة، بينما ألمانيا في وضع حرج للغاية، بين خيار تقديم مصالحها الاقتصادية أو الاستجابة لمطالب الولايات المتحدة باستغلال خط الغاز كوسيلة لكبح الدب الروسي عن استهداف أوكرانيا.