ظلت الطائرات الحربية الروسية تحوم في إدلب لمدة 20 دقيقة قبل أن تلقي بحمولتها المتفجرة على مدينة إدلب وبعض المدن المحيطة بالمحافظة الواقعة شمالي سوريا، قالت المراصد السورية التي تلاحق عمل الطيران في أجواء الشمال السوري إن هذا الانتظار من الطيران ما كان إلا من أجل إلقاء حمولتها في تمام منتصف الليلة التي تبدأ بها سنة 2022، أي أن هذه الغارات كانت احتفالية الجيش الروسي بالعام الجديد، لكن على دماء الشعب السوري.
استمرت الغارات على مناطق الشمال السوري طيلة ليلة رأس السنة وطالت قرى وبلدات كثيرة، وأعلن الدفاع المدني السوري مقتل شخصين وجرح آخرين، تلك الغارات تعود عليها السوريون، لكنها في هذا الوقت كانت ترسم معالم التعامل الروسي مع الوضع، فالقصف سيستمر على الرغم من كل الاتفاقيات المعلنة من أجل هذه المنطقة التي لم تذق طعم الاستقرار إلى الآن، على الرغم من ثبات الحدود الجغرافية للأطراف المتقاتلة منذ شهور طويلة.
يتطلع السوريون القاطنون في هذه المنطقة إلى أن يجدوا في هذا العام حلًا لمشاكلهم المستمرة، فأكثر من مليون ما زالوا يعانون في خيامهم من حر الصيف وبرد الشتاء والغرق بمياه الفيضانات، إضافة إلى الوضع الاقتصادي المتردي الذي يطال مئات الألوف، فهذه المنطقة الواقعة تحت سيطرة المعارضة تضم أكثر من 4 ملايين مواطن من مختلف المحافظات والمدن السورية التي تم تهجيرها خلال السنوات الماضية واستقر بها الحال هنا في بقعة الثورة السورية الأخيرة التي ما زالت تجابه نظام الأسد حتى اليوم.
خريطة النفوذ ثابتة
وفقًا لمركز جسور للدراسات فإن خريطة التوزع العسكري للأطراف كافة لم تتغير منذ أن وقعت اتفاقية وقف إطلاق النار بين روسيا وتركيا في فبراير/شباط 2020، وبقيت الخريطة ثابتة موزعة بين سيطرة النظام السوري وفصائل المعارضة إضافة لمناطق سيطرة الوحدات الكردية المقاتلة في شمال شرق سوريا، وفي السياق “حافظت فصائل المعارضة على نسبة سيطرتها وهي 10.98% من الجغرافيا السورية، وتتوزع مناطق سيطرة المعارضة في إدلب وشمال حلب، وفي منطقة تل أبيض ورأس العين في الرقة والحسكة، وفي منطقة “الزكف” و”التنف” (المنطقة 55) في جنوب شرق سوريا”.
تشير خريطة المركز إلى “محافظة النظام السوري على نسبة سيطرته وهي 63.38% من سوريا، وهي سيطرة شبه تامة على محافظات الساحل والوسط وجنوب سوريا، وسيطرة على أجزاء من المحافظات الشرقية ومحافظة حلب، وتحوَّلت سيطرته على محافظة درعا إلى سيطرة شاملة بعد عملية تصعيد بدأها النظام على درعا في يوليو/تموز 2021 وانتهت باتفاق السيطرة الشاملة على المحافظة في 1 سبتمبر/أيلول 2021”.
بموازاة ذلك حافظت قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على نسبة سيطرتها وهي 25.64% من الجغرافيا السورية، وهي نفس النسبة المسجلة منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وتشمل أجزاءً واسعةً من محافظة دير الزور والرقة والحسكة، وأجزاءً من محافظة حلب.
بدوره توقع محمد سرميني مدير المركز، لعام 2022 أن “تحافظ القوى المحلية على نِسب سيطرتها الجغرافية، بسبب الضغط الدولي باتجاه تثبيت حالة الاستقرار، وعدم رغبة الأطراف الإقليمية، أو عدم توافقها على إجراء أي تعديل على خريطة السيطرة”.
الثبات الذي تعيشه الأطراف حاليًّا يبدو أنه مرضيًا لها، فالبدائل الأخرى ستكون عظيمة الخسائر فيما لو حصلت، ولعل أهم هذه البدائل هو هجوم روسي مع النظام السوري على مناطق سيطرة المعارضة وهو ما لا يراه الباحث تشارلز ليستر واردًا في عام 2022، ويقول ليستر مدير برامج سوريا في معهد الشرق الأوسط في السياق: “أي هجوم عسكري لدمشق من شأنه أن يسفر عن موجة لجوء لآلاف الناس إلى تركيا، وهذا يتجاوز الخط الأحمر العريض، فأنقرة ترغب ببقاء شمال غرب سوريا مستقرًا، بمعنى آخر عدم وجود تهديد لحدودها، الذي يتمثل بعبور اللاجئين”، ويرى ليستر أن انفتاح هيئة تحرير الشام على إمكانية “فتح معابر تجارية غير رسمية مع النظام يفسر اهتمام الهيئة بتعزيز الوضع الراهن لمنع أي تصعيد عسكري محتمل”.
إغاثة عاجلة
في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة يوجد ما يقرب من 4.3 مليون نسمة موزعين على المناطق كافة والمخيمات، وأصدر فريق منسقو استجابة سوريا إحصائية الأعداد في بداية العام الجديد، فقد أحصى مليونين ومئتي وسبعين ألفًا من المواطنين المقيمين في هذه المناطق، بالإضافة إلى ما يزيد على مليوني نازح، وتتضمن هذه الأرقام ما يقرب من 203 آلاف من الأيتام، ومثلهم من ذوي الاحتياجات الخاصة، كما أحصى الفريق وجود 47 ألف أرملة بلا معيل.
هذه الأرقام الكبيرة تحتاج إلى إغاثة عاجلة خصوصًا مع عدم توافر فرص العمل وانخفاض الأجور وغلاء الأسعار الذي ضرب المنطقة نتيجة لتقلبات الليرة التركية، فهذه المناطق تتعامل بالعملة التركية في الشهور الأخيرة.
ويبدو أن العام الجديد لن يحمل حلًا إلى سكان الخيام الذين باتوا يتجرعون الألم صيفًا وشتاءً، خاصة أن المأساة باتت تتكرر كل عام، فالخيمة لا تقي من حر الصيف ولا برد الشتاء وفوق ذلك كله لا تصمد أمام الرياح أو الأمطار الغزيرة التي تغرقها، كما حصل في الأيام الأخيرة من عام 2021 حين ضربت الفيضانات والأعاصير عشرات المخيمات وأدت إلى انهيار مئات الخيام على أصحابها.
يرجع ذلك إلى التناقص في الدعم الدولي لمنظمات الإغاثة الميدانية، وفي لقاء سابق أجراه “نون بوست” مع مدير منظمة سيريان ريليف في سوريا، قال عبد الرزاق عوض إن “طالما لا يوجد بالأفق أي حلول سياسية فإن الأزمة مستمرة”، وأضاف أن “تناقص الدعم وجفاف مصادر التمويل لأغلب المنظمات المحلية والدولية التي تدعم الشأن الإنساني السوري، يدفع باتجاه ضعف مواجهة الأزمات، ويدفع بأن تبقى هذه المنظمات لاستجابات الطوارئ فقط”.
إلى ذلك يزداد تخوف المنظمات والعاملين في المجال الإنساني أن تعمل موسكو على الدفع باتجاه إغلاق معبر باب الهوى إنسانيًا، إذ إنها تحاول إدخال شحنات المساعدات الإغاثية إلى مناطق الشمال السوري من المعابر التي تفتحها قوات النظام مع هذه المنطقة، وكان برنامج الغذاء العالمي (WFP) التابع للأمم المتحدة قد أدخل قافلتين من المساعدات الإنسانية إلى مناطق الشمال السوري من مستودعاته في مناطق سيطرة النظام.
تلاعب روسي
وكان مجلس الأمن الدولي قد اعتمد في شهر يوليو/تموز 2021 بالإجماع قرارًا يجدد آلية إدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا لمدة سنة عبر معبر باب الهوى على الحدود السورية التركية، وينص القرار على تجديد معبر باب الهوى لفترة أولية مدتها 6 أشهر، مع تمديد لـ6 أشهر إضافية بعد إصدار تقرير للأمين العام للأمم المتحدة يركز بشكل خاص على الشفافية في العمليات والتقدم في إيصال المساعدات عبر الخطوط الأمامية للقتال لتلبية الاحتياجات الإنسانية.
يمكن لروسيا أن تستثمر دخول قوافل الأمم المتحدة من معابر مناطق التماس بين المعارضة والنظام السوري لتبيان عدم وجود أهمية لدخولها من معبر الهوى، وذلك من أجل التحكم بمصير الشمال السوري إغاثيًا، ووفقًا لما جاء في تقرير لمركز جسور للدراسات فإن “القرار 2585 (2021) الذي تم تقديمه بشكل مشترك من الولايات المتّحدة وروسيا قد يكون آخِر تمديد لآلية المساعدات الإنسانية عَبْر الحدود، لا سيما أنه يتضمن أيضًا العمل بموجب آلية الوصول عبر خطوط التماس بإشراف النظام السوري”.
ويضيف التقرير “مع أنه لم تكن هناك إشارة واضحة لاستخدام آلية المساعدات عبر الخطوط إلى مناطق شمال غرب سوريا، إلا أن روسيا قد تستخدم هذا التأويل للضغط على الأمين العام للأمم المتحدة في التقرير المرتقب منه بعد 6 أشهر، ولن تتوانى عن إنهاء آلية المساعدات عَبْر الحدود بعد انتهاء تفويض القرار 2585”.
العامل العسكري والإغاثي هما ما يحدد كيفية إدارة الأمور في المنطقة شمالي سوريا، يلحق بها العامل الاقتصادي المرتبط ارتباطًا وثيقًا بتركيا، إذ إن العملة المتداولة هي الليرة التركية، ومع التقلبات التي تشهدها العملة التركية باتت أسواق الشمال مهددة أيضًا مع ضعف الشراء وغلاء الأسعار وارتفاع معدلات البطالة وانخفاض الأجور.
تشاؤم
يقول محمد أبو الروض: “الحياة المعيشية في هذه المنطقة لم تعد تطاق، فلا يوجد عمل والأسعار غالية، أصبحنا نعتمد على المعونات من المنظمات بالإضافة إلى شراء الأشياء الضرورية فقط”، ويضيف أبو الروض في حديثه لـ”نون بوست” إن 2022 سيكون كارثيًا أكثر مما سبقه من الأعوام بسبب قلة ذات اليد وسوء التنظيم في هذه المناطق، ويقول الشاب السوري الذي يسكن مع زوجته وأولاده بالإضافة إلى أبيه وأمه إنه يضطر للعمل أكثر من 14 ساعة في العتالة لتوفير الجزء الأدنى من بعض المستلزمات.
بدوره يقول الطالب غسان مستو إن 2022 لن تكون جيدة على السوريين في المناطق المحررة، وعلى الرغم من الاستقرار في الحالة العسكرية نسبيًا، فإن الاستقرار المعيشي غير موجود، ويشير مستو خلال حديثه لـ”نون بوست” إلى أن “المستقبل للشباب في هذه المنطقة معدوم”، ويرى غسان أن شيئًا وحيدًا يجعله متفائلًا بالعام الجديد وهو “تطلعه إلى التخرج من جامعته والبدء بإجراءات الخروج إلى تركيا ومن ثم محاولة الهجرة إلى أوروبا”.
من جهته يرى نضال العمر أن “الموارد موجودة للعمل في مناطق الشمال السوري، لكن سلطات الأمر الواقع لا تحسن التصرف”، ويشير خلال مداخلته لـ”نون بوست” إلى أنه “يوجد في المحرر حكومتان، لكنهما عاجزتان عن تحقيق أدنى متطلبات الحياة الكريمة للمواطن الموجود في هذه المناطق إن كان في العام السابق أو الجديد أو حتى اللاحق”.
ويتحسر العمر على “حالة الشعب الذي من المفترض أن يكون الآن يعدّ خطط العام الجديد للنجاح والآمال والتقدم، لكن المواطن محصور بالتفكير بلقمة العيش وكيفية تأمين بعض من حياة كريمة للأولاد”، ويختم قائلًا: “نُسينا في هذه المنطقة وبتنا ورقة تتلاعب بها الدول”، ويأمل أن “يأتي الخير من الله فجأة في هذا العام دون منية من أحد”.
إذًا تخيم حالة من التشاؤم على قاطني الشمال السوري بداية العام الجديد، عام لا يبدو أنه سيختلف عن سابقه عسكريًا وإغاثيًا لكنه سيزيد من الخناق الاقتصادي والمعيشي، لتكون الحالة المعيشية والاقتصادية المتردية عنوان هذا العام، وحل ذلك يبقى مرهونًا بإجراءات التنمية والعمل في المنطقة التي تقودها حكومتان وعشرات الفصائل.