بعد أكثر من عشرة أيام من التسريبات بشأن استقالة رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، تنديدًا بالفشل في التوصل إلى اتفاق بين القوى السياسية للخروج من المأزق الحاليّ، تحولت التسريبات إلى واقع فعلي إثر إعلان حمدوك ليلة 2 يناير/كانون الثاني 2022 استقالته بشكل رسمي، لتضع البلاد أمام مفترق طرق، وتربك المشهد السياسي برمته، كونها تأتي في وقت تعاني فيه الساحة من اضطرابات سياسية وأمنية إثر تصاعد الاحتجاجات اليومية الرافضة للانقلاب العسكري الذي قام به قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، في 25 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
خطوة أحدثت انقسامًا داخل الشارع السوداني، بين من يراها وقودًا للانزلاق إلى صراع من الصعب التكهن بنهايته ومآلاته، وآخرين يعتبرونها وضعًا للجرس في رقبة العسكر، بما يعيد توحيد صفوف القوى المدنية التي كانت منقسمة على قبول حمدوك العودة لمنصبه مرة أخرى بعد وضعه قيد الإقامة الجبرية عقب الانقلاب.
ردود الفعل الأولية تشير إلى حالة من الترقب لما يمكن أن يترتب على تلك الاستقالة من تبعات وتداعيات من شأنها أن تفرض تموضعًا جديدًا على المشهد السوداني المتأجج بطبيعة الحال، فيما باتت الساحة الآن مهيأة لكل السيناريوهات، حتى الدموية منها، لتبقى الساعات القادمة مرحلية في مستقبل البلد الذي كان يحلم أبناؤه بحياة مدنية ديمقراطية، مقدمين لأجله الأرواح والممتلكات، لكنه الحلم الذي يقاتل العسكر لتحويله إلى كابوس بشتى السبل.
اعتراف صريح بالفشل
بوجه شاحب، وصوت يكسوه الألم، وكلمات مختنقة، أعلن حمدوك استقالته في مشهد يعكس حجم الضغوط التي مر بها وقادته إلى هذه الخطوة رغم الجهود المبذولة من الداخل والخارج لإثنائه عنها، لكن من الواضح أنه استقر في يقينه أن لا شيء سيتغير وأن التسويف ليس إلا مضيعة للوقت.
الاستقالة بتلك الكيفية إعلان صريح ومباشر بالفشل في أداء المهمة الموكلة إليه، التي عزاها حمدوك إلى عدم قدرة القوى السياسية على التوصل لاتفاق مرضي فيما بينها للخروج من المأزق الذي تواجهه البلاد على وقع انقلاب البرهان ومن بعده الاتفاق الذي أبرمه مع الجنرالات وكلاهما قوبل بالرفض الشعبي.
حمدوك في استقالته وجه خطابه مباشرة إلى الشعب السوداني، الذي هو مصدر السلطات والشرعية الدستورية الوحيدة لأي حاكم أو مسؤول، قائلًا: “السودان يمر الآن بمنعطف خطير يهدد بقاءه كليًا، في ظل حالة من الشتات والصراعات السياسية بين مكونات المرحلة الانتقالية”، مشيرًا إلى أنه بذل جهودًا عديدةً لحدوث التوافق المنشود والضروري في الإيفاء بما وعدوا به المواطن من أمن وسلام وعدالة وحقن للدماء، لكن ذلك لم يحدث.
وأوضح رئيس الوزراء المستقيل أنه خلال الأيام الماضية التقى بكل مكونات الفترة الانتقالية، سياسية وعسكرية وشركاء السلام، للشرح والإحاطة ووضع المسؤولية أمامهم، لكنها اللقاءات التي لم تسفر عن شيء، مؤكدًا أن الأزمة سياسية في المقام الأول ” لكنها تتمحور وتتحور تدريجيًا لتشمل كل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وفي طريقها لتصبح أزمة شاملة”.
وحاول حمدوك تشخيص الأزمة ووضع روشتة عاجلة للحل، لافتًا إلى أن “الكلمة المفتاحية نحو حل الأزمة الحاليّة المستمرة منذ أكثر من 6 عقود هي الحوار والجلوس إلى مائدة مستديرة، تمثل فيها كل فعاليات المجتمع السوداني، للتوافق على ميثاق وطني ورسم خريطة طريق لإكمال التحول الديمقراطي المدني لخلاص الوطن على هدى الوثيقة الدستورية”.
ولأن الشعب هو “السلطة العليا بعد الله، ثم الضمير الحي، ولأن الشعب صاحب الأمانة الوطنية والثورية” قرر حمدوك “رد الأمانة له”، معلنًا استقالته من منصب رئيس الوزراء، مفسحًا المجال لـ”شخص آخر من بنات وأبناء الشعب لاستكمال قيادة البلاد والعبور به خلال ما تبقى من عمر الانتقال نحو الدولة الديمقراطية الناهضة”، معربًا عن أمله بأن “يوفق كل من يأتي بعدي للم شمل السودانيين”.
تقديم حمدوك لاستقالته للشعب وليس لمجلس السيادة تحمل الكثير من الدلالات عن الوجهة التي ينتوي الرجل الاصطفاف إليها خلال المرحلة المقبلة، كما تعكس حجم الفجوة الكبيرة مع العسكر، وأنهم كانوا ضلعًا أساسيًا في الوصول إلى حالة التأزم تلك، بعد تعنتهم وتضييق الخناق عليه في الصلاحيات الممنوحة له، ما دفعه إلى هذه الخطوة في هذا الوقت الحرج.
وكان رئيس الوزراء السوداني، قد تحدث قبل أيام، عن نيته الاستقالة من منصبه، تزامنًا مع تصاعد الاحتجاجات الرافضة لاتفاقه مع قائد الجيش في 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، الذي اعتبرته القوى السياسية المدنية شرعنة للانقلاب العسكري في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ثمة إيجابيات يراها البعض في استقالة حمدوك، على رأسها أنها أنهت فكرة التشاركية في الحكم، بعدما كشفت هذه الخطوة عن وجه العسكر ومساعيهم للهيمنة على المشهد وعرقلة المسار الديمقراطي، وهو ما يضيف زخمًا لحراك الشارع
التبرؤ من عار الانقلاب
يعاني حمدوك منذ قبوله العودة لمنصبه مرة أخرى بعد الانقلاب، من عزلة شعبية وسياسية كبيرة، فقد اتُهم بالتواطؤ مع العسكر وشرعنة انقلابهم، فيما قوبل اتفاقه مع البرهان بالرفض الشعبي التام، واعتبره البعض شريكًا أسياسيًا للجنرالات في مخطط الإجهاز على مكتسبات ثورة ديسمبر/كانون الأول.
ورغم محاولة تبرئة ساحته من تلك التهم من خلال تقديم العديد من المبررات للشارع الثائر، يوضح من خلالها دوافع إبرامه لهذا الاتفاق، وأن الهدف كان إكمال مسار الثورة والإبقاء على الانتقال الديمقراطي على قيد الحياة، مع تجنيب التصعيد الأمني ضد المتظاهرين وحمايتهم من بطش العسكر، لكنها المبررات التي لم تقنع السودانيين.
حاول حمدوك طيلة الشهر الماضي التوصل إلى توافق سياسي بين القوى المختلفة، في ظل مساعي الجنرالات تقزيم نفوذه وتقليص صلاحياته في تدشين حكومة تكنوقراط تدعم المسار الديمقراطي المدني، وهي المحاولة التي أراد بها مصالحة الشارع الغاضب، غير أنها باءت بالفشل.
لم يرغب رئيس الوزراء المستقيل القفز مبكرًا من المركب رغم الأجواء غير المبشرة، ومارس كل أنواع الضغط على البرهان ورفاقه لإثنائهم عن سياستهم السلطوية العنيدة، لكن دون جدوى، حتى المهلة التي منحها للقوى السياسية للتوصل إلى اتفاق وانتهت مساء الأمس، لم تسفر عن أي تقدم.
وهنا وجد حمدوك نفسه أمام وضعية قاتمة، تحتم عليه إما تنفيذ تهديداته بتقديم استقالته وإما فقدان ما تبقى له من رصيد سياسي لدى بعض القوى، وبعد أكثر من عشرة أيام من التسريبات، اختار الرجل رفع الراية البيضاء معلنًا فشله في التوافق مع العسكر في إدارة المرحلة، وعليه كانت الاستقالة الشر الذي لا بد منه، لكنه بلا شك سيكون له ارتداداته على المشهد، تلك الارتدادات التي يراها البعض إيجابية فيما يعتبرها البعض زيادة في سواد الصورة.
بهذه الخطوة غسل حمدوك يده من عار الانقلاب، مسدلًا الستار على حالة الانقسام التي أحدثها منذ عودته لمنصبه في 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ليلقي الكرة بكامل استدارتها في ملعب مجلس السيادة برئاسة البرهان، الأمر الذي فتح الباب على كل السيناريوهات والتكهنات بشأن طبيعة المرحلة القادمة.
إنهاء الانقسام الثوري
كانت فكرة شراكة العسكر مع المدنيين في السلطة مسألة خلافية بين القوى السياسية في السودان، ففريق يرى ضرورة أن تكون هناك تشاركية في تلك المرحلة الحرجة وآخرون يطالبون بإبعاد الجنرالات عن دائرة الحكم بشكل نهائي والعودة لثكناتهم، وساهم هذا الخلاف في تفتيت لحمة الثوار.
ثمة إيجابيات يراها البعض في استقالة حمدوك، على رأسها أنها أنهت فكرة التشاركية في الحكم، بعدما كشفت هذه الخطوة وجه العسكر ومساعيهم للهيمنة على المشهد وعرقلة المسار الديمقراطي، وهو ما يضيف زخمًا لحراك الشارع حتى إنهاء دور العسكر في الحكم وتنصيب حكم مدني خالص في البلاد كما ذهب “تجمع المهنيين السودانيين”.
الإيجابية الأخرى الأبرز تتمثل في توحيد الصف الثوري الذي كان بالأمس منقسمًا على حمدوك بين داعم ومنتقد، فاليوم تغيرت الصورة تمامًا، فلم يعد هناك هذا الانقسام بعدما أصبح الرجل خارج دائرة السلطة، وعلى النقيض من ذلك ربما تمنح تلك الاستقالة الاحتجاجات الثورية قوة إضافية كانت قد فقدتها طيلة الأيام الماضية بسبب الأصوات المطالبة بمنح رئيس الوزراء الفرصة لممارسة صلاحياته وتخفيف الضغط الممارس عليه من خلال التظاهرات اليومية.
ويتوقع أن تزيد تلك الخطوة التي اعتبرها البعض متأخرة من الخناق على المكون العسكري الذي بات الآن في مرمى الاستهداف كونه السبب الرئيسي فيما وصلت إليه الأوضاع رغم محاولات البعض اتهام القوى الثورية المدنية بتعقيد المشهد والوصول إلى حائط السد الذي تحياه البلاد الآن، وفق ما ذهب إليه القيادي بالحزب الشيوعي السوداني صديق يوسف.
طالما حاول البرهان وجنوده إحكام السيطرة على الساحة السياسية منذ الإطاحة بنظام البشير في 2019، غير أن المكون المدني كان العقبة الأبرز أمام هذا المخطط، بجانب القلق من رد فعل المجتمع الدولي، وعليه جاءت استقالة حمدوك على طبق من ذهب للجنرال لتحقيق هذا الحلم
انفراد العسكر بالسلطة
خروج حمدوك من المشهد رسميًا يمثل شهادة وفاة رسمية للاتفاق الذي أبرمه مع البرهان، وتجميد كل التعهدات التي تضمنها وكان من بينها دعم المسار الديمقراطي وتسليم السلطة للمدنيين في أقرب وقت والإشارة إلى إجراء انتخابات عامة في الفترة من يناير/كانون الثاني الحاليّ وحتى يوليو/تموز القادم.
وعليه تكون الساحة الآن مهيأة تمامًا لتفرد المكون العسكري بالسلطة وإزاحة ما تبقى من المدنيين، إذ كان حمدوك حلقة الوصل الوحيدة بين المكونين بعد القطيعة بينهما في أعقاب الانقلاب العسكري، وهو ما عزز مخاوف البعض من مزيد من الهيمنة الجنرالية على المشهد بالكامل.
إرهاصات تلك الهيمنة تفرض نفسها ساعة تلو الأخرى، حيث المزيد من الانتهاكات والاعتقالات والتنكيل بالمتظاهرين، وفرض قيود سياسية وأمنية على قادة الحراك وزعماء القوى الداعمة له، بجانب بعض الإجراءات التي اتخذها البرهان مؤخرًا وتخدم هذا الاتجاه من بينها إصدار أمر طوارئ سمح للقوات النظامية وبينها جهاز المخابرات، بالاعتقال والتفتيش والحجز والرقابة للأفراد والممتلكات.
وطالما حاول البرهان وجنوده إحكام السيطرة على الساحة السياسية منذ الإطاحة بنظام البشير في 2019، غير أن المكون المدني كان العقبة الأبرز أمام هذا المخطط، بجانب القلق من ردة فعل المجتمع الدولي، وعليه جاءت استقالة حمدوك على طبق من ذهب للجنرال لتحقيق هذا الحلم، رغم ما يمكن أن تنطوي عليه من مخاطر ربما تزلزل أركان العسكر مستقبلًا حال اصطفاف القوى الثورية وتوحيد كلمتها.
ما السيناريوهات؟
سواء تراجع حمدوك عن استقالته أمام الضغوط الخارجية أم كان هناك بديل جاهز، فإن حالة من الترقب تفرض نفسها حاليًّا في انتظار تبعات هذا القرار المربك لكل الحسابات، ما يفتح الباب أمام عدة سيناريوهات أبرزها وأقربها، تعزيز العسكر لحاضنتهم السياسية من خلال فتح قنوات اتصال مع القوى المدنية التي تقف على الجهة الأخرى من تحالف الحرية والتغيير، سواء كانت القوى المنشقة تحت مسمى “الميثاق الوطني” أم الجماعات المسلحة الداعمة للبرهان.
واستطاع الجنرالات عبر سياسة التسويف المتبعة طيلة الأشهر الماضية تكوين حاضنة سياسية لهم، مستغلين فشل تحالف الحرية والتغيير في إدارة المرحلة، مع السماح لبعض اللاعبين المستبعدين من المشهد للعودة مرة أخرى، كفلول الإنقاذ وبعض التيارات الأخرى التي تم إقصاؤها بعد سقوط البشير.
وعليه فإن استقالة حمدوك ربما لا تؤثر سياسيًا في المجلس السيادي الحاليّ الذي يسيطر عليه العسكر رغم قلة عددهم نظريًا (4 عسكر و8 مدنيين)، وهو ما يمكن أن يكون نواة لإدارة الفترة المتبقية من المرحلة الانتقالية وأن ينصب البرهان نفسه أو غيره من الجنرالات قائمًا بأعمال رئيس الحكومة بشكل مؤقت، مع استمرار التوجهات ذاتها التي تقود إلى هيمنة كاملة على الصورة دون شريك أو منازع.
تبقى الساعات القادمة حافلة بالمفاجآت التي ستحدد ملامح الطريق الذي ستسير عليه الدولة وما إذا كانت استقالة حمدوك انفراجة للأزمة وإنهاء لحالة الانقسام الثوري وبدء مرحلة جديدة من اللحمة في مواجهة العسكر أم أنها ستزيد من تعقيدها
أما السيناريو الثاني فيتعلق بلجوء الجنرال إلى تبريد الأجواء الساخنة ومحاولة امتصاص الصدمة الناجمة عن استقالة حمدوك الذي يتمتع بدعم إقليمي ودولي، وذلك من خلال إلقاء الكرة في ملعب القوى السياسية للاتفاق فيما بينها على وضع خريطة طريق جديدة، يختارون على أساسها رئيسًا للحكومة من الشخصيات المدنية المستقلة، محاولة للهروب من فخ الاتهام بالتفرد بالسلطة.
وأيا كانت السيناريوهات فإن المرحلة القادمة من المتوقع أن تشهد مزيدًا من الصدام بين التيار الداعم للمكون العسكري والمحتمل أن تتسع رقعة نفوذه، رأسيًا وأفقيًا، خلال الساعات المقبلة، والتيار المدني المطالب باسقاط الانقلاب بعدما تخلى عن انقسامه بشأن حمدوك ليزداد زخم حراكه المتصاعد.
وأمام هذا الصدام المحتمل الذي ربما ينذر بأتون من الحرب الأهلية من المرجح أن يبرز دول المجتمع الدولي والكيانات الإقليمية وأن يكون هناك دور للوساطات الدبلوماسية لمحاولة التهدئة، وهو الدور الذي وإن كان لا يعول عليه قديمًا في ظل حالة الضبابية السياسية التي كانت تفرض نفسها، فإنه سيكون له تأثيره الواضح بعدما بات اللعب على المكشوف.
التطورات المتلاحقة يفترض أن تكون محفزًا قويًا للقوى السياسية للقيام بمسؤولياتها في تلك الظرفية الحرجة التي تمر بها البلاد، وأن يكون هناك سباق مع الزمن للتوصل إلى اتفاق عام يجمد التصعيد مرحليًا قبل الوصول إلى النقطة الحمراء، وفي المقابل فإن كرة النار التي يلعب بها البرهان لا شك أن برودها اليوم لا يعني استمراره غدًا في ظل فتح الباب على السيناريوهات كافة.
وفي الأخير.. تبقى الساعات القادمة حافلة بالمفاجآت التي ستحدد ملامح الطريق الذي ستسير عليه الدولة وما إذا كانت استقالة حمدوك انفراجةً للأزمة وإنهاءً لحالة الانقسام الثوري وبداية مرحلة جديدة من اللحمة في مواجهة العسكر أم أنها ستزيد من تعقيدها لتضع السودان على حافة السقوط في مستنقع من الصعب الخروج منه.