مجزرة جبلة.. جريمة تحت أنظار القانون

جاءت عملية تصديق مجلس القضاء الأعلى على أقوال 13 متهمًا في قضية “مجزرة جبلة” بمحافظة بابل، التي راح ضحيتها 20 شخصًا من عائلة واحدة بينهم أطفال ونساء، بعد هجوم شنته قوة أمنية قادمة من خارج المحافظة، لتسلط الضوء على طبيعة الجرائم التي ترتكبها القوات الأمنية تحت ذريعة إنفاذ القانون.
فالجريمة الأخيرة بكل حيثياتها جاءت بعد وشاية قدمها “المخبر السري” للسلطات الأمنية نتيجة خلافات عائلية بينية، ليتبين فيما بعد أن المعلومات جاءت بمجملها مضللة للحقيقة، وأن الضحايا لم يكن لهم علاقة بأي جماعة أو تنظيم إرهابي.
هذه الجريمة أعادت الحديث بدورها عن طبيعة الدور السيئ الذي قام/يقوم به “المخبر السري” في العديد من المدن العراقية، عبر تقديمه العديد من المعلومات المضللة للسلطات الأمنية، التي راح ضحيتها المئات من الأبرياء بين قتيل ومغيب، كما يظهر طبيعة التعسف في استعمال سلطة القانون، عبر استخدام القوة المفرطة والأسلحة الثقيلة، وهو ما أثبتته مجزرة جبلة الأخيرة، فقد ردت القوات الأمنية على مصدر النار من المجني عليه، باستخدام أسلحة ثقيلة، بعضها يستخدم في الميدان الحربي، وأبرزها القاذفات والرشاش المضاد للدروع، كما أنها تظهر طبيعة الخلل الحاصل في الأجهزة الأمنية، من خلال تحريك عدد كبير من القطاعات الأمنية دون الرجوع للمراتب العليا.
لجان تحقيقية لم تصل للحقيقة حتى اللحظة!
كما هو حال العديد من الجرائم التي ارتكبت في العراق، لم تصل أغلب اللجان التحقيقية التي شكلتها حكومة مصطفى الكاظمي إلى نتائج واضحة، فرغم أنها تحدد الإطار العام للجريمة، فإنها عادةً ما تتجنب تشخيص الفاعل أو من يقف ورائها بصورة دقيقة، وهو إن دل فإنما يدل على طبيعة الحالة التي تدار بها عملية إنفاذ القانون بالعراق، كما أنها توضح الضغوط الكبيرة التي تتعرض لها الأجهزة القضائية والتنفيذية، من الجهات والأطراف التي تقف خلف الجناة، وهو ما عرقل بدوره حسم العديد من الملفات والقضايا التي شكلت من أجلها هذه اللجان.
التحدي والوجه الأخطر الذي أفرزته المجزرة الأخيرة، هو طبيعة التلاعب (الأمني/الإعلامي) بالظروف المحيطة بها
ورغم أن الكاظمي أشار بوضوح في بيان له إلى طبيعة الخلل في المنظومة الأمنية الذي سمح بنقل معلومات استخبارية غير دقيقة لأغراض شخصية وتسبب بسقوط أبرياء، أو السماح بتضليل المراجع الأمنية والرأي العام بشأن حقيقة الحادث وملابساته، فإنه من جهة أخرى ارتفعت الأصوات والمطالبات العراقية المشددة، بضرورة إعادة النظر بهيكلية قوات وزارة الداخلية وما تضمه من منتسبين وضباط بعد تصاعد الجرائم والفضائح التي يرتكبها منتسبون وضباط في الوزارة، وذلك بعد المجزرة الأخيرة التي أثارت الرأي العام، وهو ما تحقق بصورة جزئية من خلال إقالة بعض القيادات الأمنية وإحالة البعض الآخر للتحقيق.
تلاعب وتعاطي انتقائي
إن التحدي والوجه الأخطر الذي أفرزته المجزرة الأخيرة، هو طبيعة التلاعب (الأمني/الإعلامي) بالظروف المحيطة بها، وهو ما بدا واضحًا في كم المعلومات المضللة التي أثيرت عنها، وشاركت فيها قنوات فضائية معروفة، هذا التحدي يفرض على حكومة الكاظمي إعادة النظر بطبيعة السياسة الأمنية والإعلامية التي تمارس في العراق، فإلى جانب جهود بعض القيادات الأمنية لتغيير مسرح الجريمة وتصدير المشهد على أنه عملية أمنية وفق المادة 4 من قانون مكافحة الإرهاب، وهو ذات الخطأ الذي وقعت به القنوات الفضائية، فإن التحقيقات التي أجراها جهاز الأمن الوطني وشهادة الشهود، قدمت رواية أخرى للحقيقة، وعلى أساسها جاءت الإجراءات الأخيرة لحكومة الكاظمي.
وفي سياق ما تقدم، بدا واضحًا أيضًا حجم الاستغلال السياسي للمجزرة الأخيرة، وهو حال مجمل الجرائم التي حصلت في العراق، فالمجزرة الأخيرة حملت بيانات شديدة اللهجة صدرت عن زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، عبر توصيفه للمجزرة الأخيرة بالـ”رهيبة”، وتحميل الأجهزة الأمنية مسؤوليتها.
بيان المالكي الأخير جاء بعد أن ثبت أن أغلب المتهمين الذين يقفون خلفها من العناصر الأمنية التابعة للتيار الصدري، وهو ما يؤشر إلى طبيعة التعاطي الانتقائي مع الجرائم التي ترتكب في العراق، خصوصًا أن هناك جرائم أكبر من مجزرة جبلة الأخيرة، ومنها عمليات القتل والتغييب القسري التي تعرض لها ناشطو تظاهرات تشرين أو عمليات التغييب القسري للمواطنيين في المدن المحررة من سيطرة داعش، وتحديدًا في نينوى وصلاح الدين والأنبار، أو حتى المجزرة الأخيرة التي حصلت في المقدادية بمحافظة ديالى.
إن جرائم القتل العمد والاغتصاب والترهيب التي ارتكبتها عناصر تنتمي للأجهزة الأمنية بعد عام 2003، تشير بوضوح إلى طبيعة الخرق الكبير الذي تعاني منه هذه الأجهزة، فضلًا عن سيطرة طبيعة السلوك المليشياوي على ممارسات هذه العناصر، التي على أساسها تعرضت حقوق الإنسان في العراق إلى انتهاكات جسيمة، كما أنها جعلت العراق أحد أكثر الدول انتهاكًا لهذه الحقوق على مستوى العالم.
فقد نشرت مفوضية حقوق الإنسان العراقية، خلاصة مؤشراتها للعام 2021، وتضمنت مقتل 596 عراقيًا ومصرع 2152 جراء حوادث سير، فضلًا عن تلقي 900 شكوى تعذيب وسوء معاملة داخل السجون، وهو ما يعطي أكثر من سبب لتدخل حكومي من أجل إعادة هيكلتها وضبطها، وجعلها أكثر حرفية ومراعاة لحقوق وكرامة المواطن العراقي.