قبل نحو 25 عامًا من الآن، ولد آخر طفل في العالم، بعدها أصاب العقم كل الرجال الموجودين، توقع سكان الكوكب كل السيناريوهات التي يمكن أن تنهي وجودهم في الكوكب، النيازك، الأمراض، الفيضانات، أفول الشمس، لكنهم لم يتوقعوا أن تكون النهاية بهذه الطريقة، لا أطفال بعد اليوم، لا جيل جديد ينتظره المستقبل!
هكذا عبرت الكاتبة البريطانية فيليس دوروثي جيمس في روايتها “أولاد الرجل The children of men” عن أحد أهم الملفات المطروحة في العالم الغربي: الإنجاب!
لا نريد إنجاب الأطفال
يعيش لوري ودايشون باول في أركنساس، بالنسبة لهما، إنجاب الأطفال أمر يفسد العلاقات الزوجية.
“عندما قابلت زوجي، طرحت الموضوع في وقت مبكر جدًا، لم أكن أرغب في الاستمرار عاطفيًا إذا كان الأطفال يفسدون العلاقة بالنسبة له”، هكذا تقول لوري، مديرة اتصالات الشركة البالغة من العمر 41 عامًا. من ناحية أخرى، يقول زوجها دايشون، وهو خبير متخصص بالأسهم المالية، إن الاستقرار المالي أثر بشكل كبير على قراره، “عندما تزوجنا لم أكن مستعدًا لإنجاب الأطفال لأنني لم أكن في وضع مالي يسمح لي بالنجاح، كنت أحاول بناء مشروع تجاري وزواجنا، لقد قطعت وعدًا لنفسي في وقت سابق من حياتي بعد أن رأيت أصدقاء ينجبون أطفالًا وعانوا ماليًا، من أنني لن أفعل الشيء نفسه”.
الزيادة السكانية أحد الأسباب التي تجعلهم لا يرغبون في إنجاب الأطفال
تتأثر رؤية الكثيرين للعالم بتجربتهم الخاصة وطفولتهم، تقول الدكتورة لاريسا كوردا وهي طبيبة متخصصة في التوليد وأمراض النساء: “يختار العديد من الأشخاص عدم إنجاب الأطفال لأن حياتهم تنطوي على الكثير من العوامل المعقدة مثل السفر، أو حين لا يشعرون أنهم قادرون على توفير الاستقرار للطفل أو الموارد المالية اللازمة لتربيته وتزويده بالمؤن الملائمة للنمو”.
تشير الأبحاث أيضًا إلى أن السنوات الخالية من الأطفال تخلق مساحةً وفرصةً لاستكشاف الأدوار الاجتماعية غير العائلية، من خلال الأنشطة المهنية أو الترفيهية على سبيل المثال، ما يزيد من عدم الإنجاب المؤقت والدائم، تقول لوري إنه، في معظم المجتمعات، أصبح الناس أكثر حساسية للموضوع نظرًا للصعوبات التي يواجهها الأزواج مع الخصوبة والإجهاض، ومع ذلك، هناك دائمًا توقف محرج في المحادثة عندما يخبرون الأشخاص أنهم قرروا عدم الإنجاب.
تقول الدكتورة كوردا إن مرضاها يخبرونها علانية أن الزيادة السكانية أحد الأسباب التي تجعلهم لا يرغبون في إنجاب الأطفال: “هناك مخاوف بشأن الزيادة السكانية في العالم وكيف تؤدي آثارنا الكربونية الفردية إلى تدمير كوكبنا، علينا أن نفهم أننا جميعًا مختلفون ولدينا أشياء مختلفة تحفزنا في الحياة وأنه لا يوجد شيء واحد يحدد ما الذي يجعل الحياة الطبيعية بالنسبة لنا، والذي قد لا يكون هو نفسه بالنسبة لشخص آخر”، تضيف الدكتورة كوردا: “بينما أصبحت المحادثات عن عدم الإنجاب سائدة، لا تزال هناك وصمة العار والصور النمطية المرتبطة بها، بكل بساطة نحن بحاجة إلى التحدث عنها أكثر”.
تدعم الإحصاءات الرسمية هذا التوجه الموجود في الدول الصناعية، وفقًا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة، من المتوقع أن يزداد عدد سكان العالم بمقدار ملياري شخص في الثلاثين عامًا القادمة، من 7.7 مليار حاليًّا إلى 9.7 مليار عام 2050 ويمكن أن يصل إلى الذروة عند 11 مليار تقريبًا في عام 2100 تقريبًا.
ليست كل هذه الأرقام تمتنع عن الإنجاب لهذا السبب بالطبع، فالدراسات أظهرت أن عدم وجود شريك مناسب هو السبب الشائع للعديد من عمليات تأجيل الإنجاب، ما قد يؤدي إلى عدم الإنجاب الدائم، فنساء عديدات من اللواتي لم ينجبن يرغبن بشدة في أن يصبحن أمهات، لقد انتظرن وقتًا طويلًا للمحاولة أو استغرق الأمر وقتًا طويلًا للعثور على شريك مناسب أو كان هناك سبب طبي.
“بشكل عام، فإن النساء اللواتي اخترن ألا يصبحن أمهات فعلن ذلك في سن مبكرة جدًا، ربما لأن أمهاتهن كن غير راضيات أو مسيئات، وشاركن بناتهن حقيقته، وربما لأنهن كن الأكبر بين كثيرين وشعرن أنهن “كبرن” بالفعل، لا يوجد سبب واحد على الإطلاق” تشرح رايت، الخبيرة الرائدة في القضايا المتعلقة بالنساء اللائي ليس لديهن أطفال، وجد تحليل للحالة الزواجية والتحصيل العلمي زيادة عامة في عدم الإنجاب لكل من النساء المتزوجات وغير المتزوجات عند ارتفاع مستويات التعليم، “في الوقت الذي تصل فيه المرأة إلى نقطة تشعر فيها بالأمان المالي، وأنها وصلت إلى مرحلة جيدة في حياتها المهنية ووجدت الرجل الذي تريد إنجاب الأطفال معه، حينها تنوي المرأة الانجاب، وهذا ما قد يحصل في وقت لاحق، وأحيانًا في وقت متأخر جدًا”.
تفاوت في النسب
لكن الحديث عن الزيادة السكانية في العالم تنقصه الدقة، فلا تحصل هذه الزيادة في كل البلدان بنسب متساوية، تشير استطلاعات الرأي إلى أن ثلث الأمريكيين الذين تقل أعمارهم عن 45 عامًا أو أكثر إما ليس لديهم أطفال وإما يتوقعون إنجاب عدد أقل مما قد ينجبونه بخلاف ذلك لأنهم قلقون بشأن تغير المناخ.
جيل الألفية وما بعده ليسوا الأجيال الأولى التي واجهت احتمالية التغيير الوشيك والكارثي الذي لا رجعة فيه في العالم الذي سيرثونه، لكن يبدو أنهم أول من يفكر بجدية فيما إذا كان ذلك يعني أنه يجب عليهم التوقف عن إنجاب الأطفال، ويمكن أيضًا النظر إلى القرارات المتعلقة بالإنجاب من منظور أوسع، ففي جميع أنحاء العالم المتقدم، تنخفض معدلات المواليد والخصوبة (يُعرَّف معدل المواليد في بلد ما على أنه عدد المواليد الأحياء لكل ألف شخص من السكان خلال سنة معينة، ومعدل الخصوبة هو، تقريبًا، متوسط عدد الأطفال المتوقع أن يولدوا لأمهات في البلد طوال سنوات الإنجاب)، سجلت اليابان، التي بلغ معدل الخصوبة فيها 1.43، أكبر انخفاض سكاني مسجل لها في عام 2018، ووفقًا للتوقعات الحاليّة، من المتوقع أن ينخفض عدد سكانها بمقدار 36 مليون شخص – ما يقرب من 30% – بحلول عام 2065.
لكن معدلات الخصوبة منخفضة تمامًا أو أقل في العديد من البلدان الآسيوية والأوروبية الأخرى، بما في ذلك سنغافورة وهونج كونج وكوريا الجنوبية وإسبانيا وإيطاليا واليونان وبولندا والبرتغال.
في البلدان المتقدمة الأخرى، بما في ذلك فرنسا وألمانيا وهولندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وأستراليا، تعد معدلات الخصوبة أعلى قليلًا، لكنها تظل أقل من المستوى الذي يحل فيه السكان محل أنفسهم من جيل إلى آخر، فقد بلغت 2.1، وبحسب إحصاءات البنك الدولي، حسب ما أوردته صحيفة الإيكونومست، كان 57 من أصل 63 دولة ذات دخل مرتفع أقل من هذا المستوى في عام 2016، إذا كان إجمالي عدد السكان لا يزال ينمو في بعض هذه البلدان، فإن أحد الأسباب المهمة أن الهجرة ساعدت في تعويض الفارق، وليس الولادات!
تغيير ديموغرافي وهجرات
يتزايد العداء للهجرة والمهاجرين في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية، لقد ساهمت في الموجات الأخيرة المشاعر الشعبوية والقومية التي غيرت السياسة في تلك الأماكن وخارجها، وساعدت في جلب جيل جديد من الحكام المستبدين إلى السلطة، ومع ذلك، إذا ظلت معدلات الخصوبة في البلدان الغنية دون مستوى الإحلال، يجب أن تعتمد تلك البلدان على الهجرة لتجنب انخفاض عدد السكان.
غالبًا ما يُلاحظ أن المجتمعات الغنية مثل الولايات المتحدة تعتمد على المهاجرين، سواء الموثقين أم غير الموثقين، للقيام بالوظائف الصعبة والخطيرة وذات الأجور المنخفضة التي لا يرغب أي شخص آخر في القيام بها، في الواقع، تستعين الولايات المتحدة بمصادر خارجية لهذه الوظائف غير المرغوب فيها للأشخاص الذين توجه لهم التيارات الشعبوية غضبها واستيائها!
إذا حققت البلدان الأفقر مستويات من التعليم والثراء تضاهي مستويات الدول الصناعية، وإذا أدركت قيم الحرية والمساواة بنفس القدر الذي تمتلكه، فإن الناس الذين يعيشون في تلك البلدان سيكون لديهم أسباب أقل للهجرة
على المستوى الفردي، قد تكون أسباب قيام البعض بذلك لا جدال فيها، فقد يكون لدى الأفراد أسباب وجيهة لاتخاذ قرار بعدم رغبتهم في إنجاب أي – أو العديد – من الأطفال، ومع ذلك، تظل الحقيقة أنه إذا قرر عدد كاف من السكان، حتى لأفضل الأسباب، أنهم لا يريدون إنجاب أطفال، وإذا كانوا، في نفس الوقت، يريدون أن يكون المجتمع مستدامًا وأن يزدهر من جيل إلى جيل، يجب حث شعوب في أماكن أخرى من العالم على إنجاب الأطفال الذين لا يريد سكان الدول المتقدمة إنجابهم.
يجب على هؤلاء الناس القيام بالعمل الإنجابي المطلوب للحفاظ على أسلوب حياة الدول المتقدمة، بالنسبة للقوميين البيض أصحاب فكرة تفوق العرق الأبيض، فإن الدرس الذي يجب تعلمه من هذا هو أن النساء الأمريكيات، لا سيما النساء الأمريكيات البيض، بحاجة إلى البدء في إنجاب المزيد من الأطفال.
تحدث عضو الكونغرس عن ولاية أيوا ستيف كينج نيابة عن هؤلاء الأشخاص عندما كتب تغريدة قائلًا: “لا يمكننا استعادة حضارتنا مع أطفال شخص آخر”، لكن بالنسبة للأعداد الهائلة من الأشخاص الذين يجدون القومية البيضاء وتفوق البيض بغيضين تمامًا، فإن الدرس مختلف: “إذا أرادت بلادنا العيش والازدهار، وإذا كانت البلاد تعتمد على المهاجرين لضمان الازدهار والنمو من جيل إلى جيل، فإن ما يدين به المجتمع للمهاجرين الذين يأتون إلى هنا ليس العداء بل الامتنان. بدلًا من أن يتم تهديدهم من المهاجرين الجدد، أو التفكير فيهم على أنهم متسولون يبحثون عن سخاء سكان البلدان الصناعية”!
مع ذلك، فإن النقطة الأساسية هي أن أولئك الذين يعيشون في مجتمعات ديمقراطية غنية يبدو أنهم يواجهون ثلاثة اختيارات: إما أن يتم التخلي عن قيم الحرية والمساواة وإما يجب القبول بأن تلك المجتمعات ستصبح تدريجيًا خالية من السكان في مدى 200-300 سنة، وإما يجب الترحيب بالمزيد من الهجرة.
قد يكون القوميون البيض والمتفوقون البيض سعداءً بقبول الخيار الأول، لكن بالنسبة لمعظم السكان، فإن هذا الخيار غير مقبول، لم يبق إذن إلا الخيار الثالث، لكن السؤال الأهم: من أين سيأتي المهاجرون؟ وبقدر ما جاءوا من بلدان أفقر، حيث لا تتحقق قيم الحرية والمساواة ، فإن الاعتماد على الخيار الثالث يعني أنه من مصلحة الدول المتقدمة أن لا تتحسن الظروف في بلدانهم الأصلية.
فبعد كل شيء، إذا حققت البلدان الأفقر مستويات من التعليم والثراء تضاهي مستويات الدول الصناعية، وإذا أدركت قيم الحرية والمساواة بنفس القدر الذي تمتلكه، فإن الناس الذين يعيشون في تلك البلدان سيكون لديهم أسباب أقل للهجرة، لذا فالاعتماد على الخيار الثالث كحل، يعني في الواقع الاعتماد على استمرار الفقر والقمع في البلدان الأخرى.
يمكن لتلك المجتمعات أن تزدهر وتحقق قيمها الأساسية فقط إذا لم تزدهر المجتمعات الأخرى ولا تدرك نفس القيم، إذا تم القبول بهذا، فإنه يدعو إلى التساؤل عن حقيقة التزام تلك المجتمعات بالقيم التي تدعي أنها ثمينة وغير قابلة للتنازل مثل الحرية والمساواة!
إلى أي مدى يمكن أن يكون الالتزام بهذه القيم عميقًا إذا اختير حل مشكلة الحفاظ على القيم والتطور بطريقة تتطلب انتهاكها؟
نفس المشلكة تتكرر إذا تحسنت الظروف السياسية والاقتصادية بشكل كافٍ في بلدان العالم النامي، فقد تبدأ هذه البلدان أيضًا في تجربة انخفاض معدلات المواليد والخصوبة، وقد نصل إلى نقطة لا تواجه فيها المجتمعات الغنية فقط احتمالية انخفاض حجم السكان، فتبدأ الإنسانية ككل في الانكماش.
في الواقع، في تحليل حديث لبيانات الأمم المتحدة، توقع مركز بيو للأبحاث أن معدل الخصوبة العالمي سينخفض إلى 1.9، وهو أقل من مستوى الإحلال، بحلول عام 2070.
إنه لمن سخرية الوصول لحقيقة أن التفاوت بين سكان العالم، هو العامل الذي يحافظ على استمرار الحياة بصورتها الحاليّة خاصة إذا عرفنا أن البلدان الفقيرة تعتمد بنسبة كبيرة على البلدان الغنية في توفير احتياجاتها، وبين هذا وذاك، لا يبدو أن سكان العالم يواجهون خطر الانقراض بهذه الطريقة، على الأقل في القرن الحاليّ.