تشتهر فلسطين ببعض الأكلات الشعبية الشتوية التي ما زالت تحافظ على مكانتها رغم مرور عقود على انتشارها في صفوف الفلسطينيين، فتُعتبر المائدة الفلسطينيين عامرة بهذه الأكلات التي هي مختلفة من ناحية المسميات أو الطريقة عن باقي الدول العربية.
وترتبط بعض هذه الأكلات بموسم الشتاء حصرًا، إما لأسباب زراعية بحتة وإما بسبب ما تمدُّ به هذه الأكلات من طاقة ودفء خلال فصل الشتاء، لاعتبارات الحرارة المنخفضة والمطر في الفترات ما بين ديسمبر/ كانون الأول ويناير/ كانون الثاني.
اللافت أن بعض الوجبات ترتبط حصرًا بالفلسطينيين العاملين في مجال الزراعة، أو الذين تعود جذورهم إلى الفلاحة قبل النكبة عام 1948، فيما تنتشر أكلات أخرى بينهم جميعًا بنفس طريقة طهوها وتقديمها المعتادة.
دعونا نلقي نظرة.
المفتول
تُعتبر وجبة المفتول من أبرز الوجبات الحاضرة في فلسطين خلال موسم الشتاء، كونها وجبة غذائية متكاملة يغلب عليها طابع “الدسم”، ويعتاد طهوها خلال هذا الموسم، فيما تنتشر هذه الوجبة في دول عربية أخرى بأسماء مختلفة.
يُعتبر القمح مكوّن المفتول الأساسي، فتجرش النسوة القمح حتى يتحول إلى سميد/ برغل ويوضع في وعاءٍ نحاسي، ويُرَش عليه الطحين وقليل من الماء، ويُفتل باليد ويُحرَّك حتى يتشكّل ككرات صغيرة، ويُطبخ المفتول في أوعية خاصة على البخار المتصاعد من مرق اللحمة وخليطٍ من الخُضروات والبهارات.
يسود اعتقاد أن طبخ المفتول مستحبّ يوم الجمعة، وأن أول طبخة مفتول قُدِّمت للنبي سليمان وأذهبت عنه الأرق، إضافة إلى أن هناك اعتقادات شعبية كثيرة مرتبطة بالمفتول، منها أنه يستحبّ طبخه في شهر رمضان.
قبل سنوات كان المفتول يُقدَّم خلال بيوت العزاء في فلسطين كوجبة طعام أساسية، قبل أن تختفي هذه الظاهرة تدريجيًّا لصالح وجبات طعام أخرى، إلا أن هذه الأكلة بقيت تحافظ على شعبيتها في فلسطين بمرور الوقت.
المسخن الفلسطيني
تُعتبر أكلة المسخن الفلسطيني واحدةً من أعرق الأكلات في التراث الفلسطيني، إذ ترتبط هذه الوجبة بالتراث الفلاحي في فلسطين بشكل أكبر، ويغلب تقديمها في فصلَي الخريف والشتاء بعد موسم حصاد الزيتون.
تعتبر هذه الأكلة من الأكلات الغنية، إلى جانب كونها وجبة جذورها تعود للمزارعين والفلاحين، غير أنها امتدَّت لتشمل جميع المدن الفلسطينية، فيما لا يوجد بُعد زمني محدَّد يرصد أوائل ظهورها، إلا أنها تعود لحقبة ما قبل النكبة.
تشتهر وجبة المسخن بشكل أكبر حاليًّا في الضفة الغربية أكثر من غزة، إلى جانب بعض مناطق الداخل المحتل عام 1948.
تشير المصادر الشعبية إلى أن أصل هذه الأكلة يعود إلى استخدام الخبز البائت، فكان يتمّ استخدام زيت الزيتون في هذه الوجبة بهدف تليين الخبز إلى جانب المكونات الأخرى، مثل البصل والسماق والدجاج البلدي أو اللحم.
تشتهر وجبة المسخن بشكل أكبر حاليًّا في الضفة الغربية أكثر من غزة، إلى جانب بعض مناطق الداخل المحتل عام 1948، فيما شهدت تطورًا في السنوات الأخيرة في طريقة إعدادها بشكل أسرع وبطرق متنوِّعة تُنسَب إلى المسخن الفلسطيني.
الخبيزة
ترتبط هذه الأكلة بالفلسطينيين الذين تعود جذورهم إلى القرى أكثر من المدن، حيث تنتشر هذه النبتة البرّية في الحقول والأودية والجبال وتنمو في فصل الشتاء عادةً، ويكثر طهيها بفصلَي الشتاء والربيع اللذين هما فترة حصاد المحصول.
تختلف عملية طهو هذه الوجبة بين الفلسطينيين، حيث لا توجد طريقة معتمَدة، فبعض العائلات تطبخها عبر إعداد الخبيزة مع بعض العجين الخاص وتخلطه بالفلفل الأحمر، فيما تميل بعض العائلات إلى جعلها أقرب للحساء.
العكوب
تُعتبر وجبة العكوب واحدة من الوجبات التي كانت منتشرة في السابق بين جميع الفلسطينيين، إلا أن شعبيتها تراجعت في السنوات الأخيرة، وأصبحت ذات صيت أكبر في الضفة والداخل المحتل، فيما تغيب عن المائدة في قطاع غزة لعدم توافر النبتة.
عادة ما يتمّ قطف هذه النبتة في الثلث الأخير من فصل الشتاء، إلا أنها تُعتبر من الأكلات الشتوية وفقًا لتصنيف الفلسطينيين، وهي نبتة برّية شوكية تُقطف بشكل موسمي وسنوي، وتخزّنها بعض العائلات لتناولها في فترات غير فصل الشتاء.
يحاول الفلسطينيون التغلُّب على العقبات الإسرائيلية والقرارات الرامية لسلب ارتباطهم التراثي بنبتة الكعوب.
تمنعُ سلطة الطبيعة، التابعة للإدارة المدنية الإسرائيلية، الفلسطينيين من قطف نبات العكوب من أعلى قمم الجبال وتعتقلهم، وتصادر المعدّات التي يستخدمونها بعملية القطف والحيوانات التي تُستخدَم للنقل، إضافة إلى فرض غرامات مالية باهظة.
ويحاول الفلسطينيون التغلُّب على العقبات الإسرائيلية والقرارات الرامية لسلب ارتباطهم التراثي بهذه النبتة، بعدة أساليب وأدوات، والحفاظ على هذه الأكلة كجزء من المطبخ الفلسطيني في الضفة الغربية أو الداخل المحتل.
الرمانية
أكلة شعبية فلسطينية أخرى، ويستخدم فيها الرمان الحامض في عملية الطهو، فيما تنتشر بشكل أكبر في قطاع غزة وبعض مناطق الضفة المحتلة، وترتبط هذه الوجبة بالفلاحين الفلسطينيين.
يغلب على هذا الطبق استخدام مكوّنات شعبية مثل الرمان والعدس والباذنجان، فيما يشهد تراجعًا في الحضور على الموائد الفلسطينية بحكم وفاة كبار السن الذين عايشوا الأراضي المحتلة، وقلّة السيدات اللواتي يعرفن طريقة إعداده من الجيل المعاصر.
الكشك
تعدّ أكلة الكشْك من الأكلات الشعبية الفلسطينية المشهورة كذلك، حيث تحمل ارتباطًا خاصًّا بالموروث الشعبي الفلسطيني الأصيل، إضافة إلى الأجواء الخاصة خلال مراحل صناعة وطهو هذه الأكلة عند الكثير من العائلات الفلسطينية.
تعتمدُ هذه الوجبة بدرجة أساسية على مكونات مثل الدقيق وعين الجرادة والفلفل الأحمر والملح واللبن والثوم والبصل، وتُعتبر من الأكلات ذات الارتباط بالأُسر الفلسطينية محدودة الدخل، أو تلك ذات الطابع الريفي.
تنتشر الرمانية في الضفة والداخل المحتل وبعض مناطق قطاع غزة مثل خان يونس ورفح، فيما تراجعَ انتشارها في باقي المدن والمناطق خلال السنوات الأخيرة، وترتبطُ هذه الوجبة بفصل الشتاء.
المقلوبة
تُعتبر المقلوبة أشهر الأطباق الفلسطينية تقريبًا، تفضّلها نساء البيوت لسهولة تحضيرها وسرعة طبخها، اشتهرَ بها أهل الساحل على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، الذين كانوا يعتمدون في طعامهم على صيد السمك، حيث كانت تُسمّى “الصيادية” أي “مقلوبة السمك”.
انتشرت لاحقًا بين أهالي المناطق الفلسطينية الجبلية باستخدام الدجاج أو اللحم بدلًا من السمك، وسُمّيت مقلوبة لأنه يتم وضع اللحم أو السمك أو الدجاج مع الخضار المشكلة في قاع الوعاء الذي تُطبخ فيه، ثم تُقلَب عند تقديمها، بحيث يصبح الأرز أسفل الطعام، أما الخضار واللحم فيصبحان في الأعلى.
وكان الناس في الماضي يضيفون الباذنجان أو القرنبيط أو القرع العسلي، ثم أصبحوا يستخدمون البطاطا والجزر والفول الأخضر، والعديد من أنواع الخضار، وقد انتشرت أكلة المقلوبة بعد انتشار الفلسطينيين في أعقاب نكبة عام 1948.
ما زالت بعض الأكلات تشكّل جزءًا أصيلًا من التراث الفلسطيني، الذي يحاول الاحتلال أن يسلبه أو أن ينسبه إليه في إطار المعركة الثقافية والتراثية القائمة منذ سنوات، كما يحاول الترويج لها على أنها أطعمة إسرائيلية في المهرجانات والمناسبات الدولية، ورغم ذلك ما زال الفلسطيني حريصًا على نقل تراثه إلى الأجيال اللاحقة، ضمن معركة الحفاظ على الهوية والذاكرة الشعبية.