في مجتمع مثل المجتمع السوري، يستطيع المتابع أن يلمح الحضور القوي للعامل الديني بأشكاله المختلفة دون أدنى عناء، ويشمل ذلك التدين الفردي، والعمل الجماعي “الدعوي أو التربوي”، والإسهام العلمي، والنشاط السياسي، وحتى العمل العسكري. ولكل شكل من هذه الأشكال تجليات مختلفة، كان لها أثرها في رسم تاريخ سوريا الحديث، لكن العامل المشترك الشاغل دائمًا كان علاقة التدين أو العمل الديني بالسياسة أو الدولة.
ما بات يُعرف بـ”جماعة زيد”، أحد هؤلاء الفواعل، كان لها أثر كبير على بنية المجتمع السوري وتوجهاته الدينية، وبدرجة أدنى على سير العملية السياسية، وهذا الأثر مستمر إلى اليوم، لكن الاهتمام بالحدث السياسي، جعل الأولوية في مراجعات أحداث القرن الماضي تنصب على جماعة الإخوان المسلمين التي انتهجت العمل السياسي بالدرجة الأولى.
لذلك، سنحاول في هذا المقال الحديث عن جماعة زيد في سوريا من حيث النشأة والأثر الاجتماعي والعلاقة مع الدولة والموقف من الثورة السورية واستمرار النشاط في الخارج.
الشيخ المؤسّس ومبادئ الجماعة
يعزو أفراد الجماعة النشأة إلى الشيخ عبد الكريم الرفاعي، الذي كان أول من استقر في جامع زيد بن ثابت وشرع في تأسيس المدرسة التي ستُعرف باسم الجامع نفسه.
ولد الشيخ عبد الكريم الرفاعي الحسيني في دمشق سنة 1901 لعائلة فقيرة، وعندما بلغ سن التحصيل التحق بدروس الشيخ علي الدقر – تلميذ علّامة الشام والمحدث الأكبر بدر الدين الحسني، لذلك يعزو أفراد الجماعة نسبهم العلمي للشيخ بدر الدين -، وبعد بلوغه من العلم الشرعي مبلغًا يؤهله لحضور مجالس كبار المشايخ أذن له شيخه بحضور دروس الشيخ بدر الدين، وبعد 17 عامًا قضاها الشيخ في الدراسة على يد الشيخ بدر الدين، عمل مدرسًا في عدد من المعاهد ليستقر أخيرًا في جامع زيد، الذي سيؤسس فيه مركزه الخاص.
ولنشاط الشيخ الدؤوب وتأسيسه لحلقات العلم الشرعي المختلفة التفّ حوله عدد من الطلاب، سرعان ما أصبحوا شيوخًا مؤثرين في المشهد الديني السوري كالشيخ محي الدين الكردي وولدَي الشيخ عبد الكريم الشيخين أسامة وسارية، والأخير كان يتمتع بعلاقة طيبة مع تجار دمشق.
بالإضافة إلى هذا استطاع الشيخ الخروج من دائرة طلبة العلم والوصول إلى عوام دمشق من خلال تأسيسه أو مساهمته في تأسيس العديد من الجمعيات الخيرية كـ”جمعية البر والإحسان” في حي قبر عاتكة و”جمعية إغاثة الفقير” في حي باب السريجة و”جمعية النهضة الإسلامية”، وثالث الامتيازات هي قدرة الشيخ على تجاوز القطيعة بين طلاب “العلوم الشرعية والعلوم الكونية” فقد استطاع الشيخ الوصول لأصحاب الاختصاصات المختلفة، لا سيما المهندسين والأطباء، لذلك يحلو للبعض تلخيص عمله بعبارة “المهندس والجامع”.
أهم المبادئ كان “تحويل الجامع إلى جامعة” أي إخراج دور المسجد في المجتمع من مكان للصلاة وبعض الحلقات فقط إلى مكان يعيش به الطالب ويحضر فيه عددًا كبيرًا من الحلقات بالاختصاصات المختلفة
في ستينيات القرن العشرين رأى عمل الجماعة توسعًا في الامتداد والنشاط، وبُنيت ثلاثة جوامع، بالإضافة إلى الجامع الرئيسي “الأم الحنون”، وعدد من الجمعيات الخيرية، ووصلت الأعمال إلى حد إنشاء فرع للجماعة في مدينة حلب “جماعة أبي ذر” التي ستنهي علاقتها سريعًا مع الجماعة إلا أنها ستسير على نهج مشابه لنهجها، وقد وضع الموت نقطة النهاية لعمل الشيخ في الجماعة عام 1973، ليتابع كبار طلابه من بعده ما أسسه الشيخ عبد الكريم.
أما عن المبادئ التي أسس الشيخ عمله في الجماعة عليها، فيمكن القول إن أهمها كان “تحويل الجامع إلى جامعة” أي إخراج دور المسجد في المجتمع من مكان للصلاة وبعض الحلقات فقط إلى مكان يعيش به الطالب ويحضر فيه عددًا كبيرًا من الحلقات بالاختصاصات المختلفة.
صاحب ذلك نظام الحلقات الصارم الذي يتوكل فيه “أستاذ الحلقة” متابعة الطلاب عن قرب وتطور تحصيلهم العلمي، لدرجة منعهم من الالتحاق بدروس أي شيخ أو جماعة أخرى، ورغم ذلك كانت هذه الحلقات مكانًا يُعبّر فيه الطلاب عن آرائهم المختلفة ويناقشون فيها المواضيع الفكرية المتعلقة بحال المسلمين، ضمن حدود ما تسمح به الرقابة الحكومية.
هذا من الناحية العملية، أما من الناحية النظرية، فإن المشايخ في الجماعة يرون أنها تأسست على مبادئ: “العلم – العمل – الدعوة”، ويصف الشيخ محمد غياث الصباغ – تلميذ الشيخ عبد الكريم وأحد الذين تعلموا وعلّموا في المسجد – في مذكراته، تلك المبادئ بأنها كانت “كأيقونة لعملنا وكشعار لرؤيتنا تتردد أصداؤه على مسامعنا كثيرًا وربما في كل درس”، ويقول الشيخ عن تلك المبادئ: “لم يكن لعمل جامع زيد بن ثابت منهجًا مكتوبًا، ولا نظامًا إداريًا مدونًا، ولا شيئًا من هذا القبيل، لا في زمن الشيخ المؤسس وصاحب النهضة، ولا بعد موته وانتقاله إلى رحمة الله تعالى، إنّما تشرّب العاملون والطلبة هذا المنهج تشربًا.. تلقيًا من الأفواه من خلال الدروس والمواعظ”، وعلى هذه المبادئ سيستمر عمل الجماعة إلى حين حصول الصدام الأول مع السلطة.
أحداث الثمانينيات والتهجير الأول
يصف الشيخ الصباغ علاقة الجماعة بالسياسة بالأسطر التالية: “لقد أدار عمل الشيخ عبد الكريم في مسجد زيد ظهره تمامًا للعمل السياسي وتوابعه، وألغاه من أدبياته تمامًا، ولم يكن التطرق للسياسة مسموحًا به على الإطلاق في أي مجلس من مجالس حلقات التوجيه والدرس، وذلك لتجنيب الطلاب سلبيات السياسة ومخاطرها، لكن بالطبع لم يكن ذلك يعني ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القضايا الكبرى التي تخالف العقيدة ومنهج الإسلام”، ويضرب بذلك مثلًا قضية إبراهيم خلاص، الذي كتب مقالات مخالفة للتوحيد والإسلام في مجلة البعث، وهبوب العلماء في وجهه ومنهم الشيخ عبد الكريم.
على ضوء هذه المعطيات إذا حاولنا قراءة المشهد السياسي للجماعة مع الحكومة فسنجد التالي: بعد قيام الطليعة المقاتلة – فرقة انشقت عن الإخوان المسلمين وانتهجت العمل المسلح – بأعمال عنف وقتلها 83 طالبًا عسكريًا علويًا في مدرسة المدفعية ومحاولتها اغتيال حافظ الأسد، ردًا على قتله لمروان حديد، شن النظام حملة إعدام وتصفية لكل من يُتّهم بالصلة بالإخوان المسلمين، بدءًا من مجزرة تدمر وليس انتهاءً بمجازر حلب وتدمير حماة.
في عام 1994 انقشعت سحابة الأزمة عن العمل الديني بعض الشيء، وسُمح للشيخين أسامة وسارية بالعودة، لاستقطاب الجماعة وتخفيف صف المعارضين والمشاكل التي واجهها النظام لأسباب سياسية خارجية
وجد النظام الأسدي الفرصة المناسبة لتصفية النفوذ الممتد للجماعات الدينية المختلفة في سوريا من خلال توجيه التهم لكل من لا يثق بولائه المطلق، ورغم رفض الجماعة تأييد ما قامت به “الطليعة” انسجامًا مع مبادئها، فإن ذلك لم يعفها من هجوم النظام، لذلك اضطر عدد غير قليل من أعضاء الجماعة للخروج من سوريا هربًا من الاعتقال.
وَصَفَ الشيخ الصباغ تلك الأحداث قائلًا: “لقد عصفت هذه الأحداث بعمل جماعة زيد وغيرها من الجماعات الإسلامية واعتقل الكثير من أفرادها واضطر الكثير من الشباب والشيوخ للتواري عن الأنظار أو الهجرة خارج البلاد وتسبب ذلك بوقف الأنشطة في جامع زيد ردحًا من الزمن قارب العشر سنوات”، وكان الشيخ الصباغ نفسه إثباتًا لزيف ادّعاءات النظام، إذ اتُّهم هو أيضًا بالمشاركة بتلك الأحداث، التي فنّدها قائلًا: “ولا أدري كيف أشارك بها وأنا أصلًا غادرت القطر بهدف العمل قبل اندلاعها”.
حافظت الجماعة على وجودها في سوريا في تلك الحقبة، من خلال بعض المشايخ الذين سُمح لهم بالبقاء كالشيخ أبي الحسن الكردي والشيخ شوكت الجبالي، وفي عام 1994 انقشعت سحابة الأزمة عن العمل الديني بعض الشيء، وسُمح للشيخين أسامة وسارية بالعودة، لاستقطاب الجماعة وتخفيف صف المعارضين والمشاكل التي واجهها النظام لأسباب سياسية خارجية.
في بدايات القرن الواحد العشرين كانت الجماعة قد عادت للانتشار في عشرات المساجد، على رأسها مسجد زيد يؤمّه الشيخ سارية، ومسجد الشيخ عبد الكريم في كفرسوسة يؤمه الشيخ أسامة، إلى جانب مسجد الإيمان ومسجد الحمزة والعباس، وفي عام 2002 زار بشار الأسد، إثر توليه السلطة، الشيخ أسامة في مسجد عند صلاة الجمعة وجالسه لنصف ساعة، كانت هذه الزيارة تحمل في طياتها معاني مختلفة منها الدلالة على المكانة التي وصلها الشيخ أسامة في سوريا، ومنها إعلان النظام تقرّبه من الجماعة لاستقطابها، ومنها حاجة النظام للجماعة لسد الضائقة المادية التي باتت آثارها ظاهرة على الشعب.
استغلت الجماعة تلك الفُرجة الممنوحة للقيام بمشاريع جديدة كمشروع “حفظ النعمة” – الذي كان الهدف منه جمع كل ما يزيد على الحاجة من طعام ودواء وملابس ومفروشات وكتب، يوميًا لتوزيعها على الفقراء -، ومركز زيد لخدمة القرآن، ووصلت إلى درجة افتتاحهم لقناة “الدعوة” التليفزيونية التي لم تستمر طويلًا، ورغم هذا لم تستطع الجماعة الانتشار خارج دمشق بسبب سياسة التضييق التي اتبعها النظام، واستمرت العلاقات على هذه الوتيرة لحين انتكاس العلاقة مع النظام للمرة الأخيرة.
الثورة السورية والتهجير الثاني
كان هذا الانفتاح الداخلي من طرف النظام بسبب أزمة دولية عاشها بعد أحداث لبنان واتهامه بقتل رفيق الحريري، لكن في عام 2008 وبعد زيارة الأسد لباريس والتقائه بالرئيس الفرنسي ساركوزي، عادت العراقيل تواجه العمل الدعوي، وبدأت المضايقات والحد من نشاطات الجماعة والعمل على تأميم العمل الديني داخل إطار الحكومة من خلال وزارة الأوقاف، وتجلّت الأزمة بمشاكل عدة مثل إغلاق المصليات في المراكز التجارية ومنع النقاب في المدارس.
اشتعل فتيل الثورة السورية عام 2011 ليحرق معه جميع الخيوط التي كانت تصل بين النظام والجماعة نهائيًا، فمع أن الجماعة في البداية تبنت موقف المنتظر ولم تشجع على المظاهرات، إلا أنها لم تستطع الصمت على ممارسات النظام وقمعه الوحشي للمطالب الشعبية المحقّة، ما جعل النظام يشدد عليهم الخناق حتى عين خطيبًا مؤيدًا له لإمامة مسجد الرفاعي، كما غير اسمه.
كانت ليلة الـ27 من رمضان ذلك العام، القشة التي قسمت ظهر البعير بالنسبة للعلاقة بين النظام والجماعة، فعندما اجتمع المصلّون للصلاة، كانوا كأنهم قنبلة تحتاج لمن يشعل فتيلها لتنفجر في كل ما حولها، وكان ذلك الفتيل يكمن في الدعاء بعد الصلاة الذي أتى على ذكر المعتقلين، ما جعل المصلين يخرجون أفواجًا هاتفين بسقوط النظام وإعدام الرئيس، وكانت قوات النظام لهم بالمرصاد لاقتحام المسجد وإغراقه بوابل من الرصاص وقنابل الغاز المسيل للدموع.
وناب الشيخ أسامة نفسه شيئًا من هذا القمع عندما هاجمه الشبيحة وانهالوا عليه ضربًا، فأعلن كبار الجماعة تأييدهم للمظاهرات، وخرج عدد من أفراد الجماعة إلى داريا للغرض نفسه، وما هو إلا قليل حتى بدأ خروج أفراد الجماعة زرافاتٍ ووحدانًا إلى مصر ثم إلى إسطنبول.
كان للجماعة تجربة في دعم العمل العسكري، لفترة من فترات الثورة، من خلال كتائب الصحابة بقيادة أبي تيسير والاتحاد الإسلامي لأجناد الشام بقيادة أبو محمد الفاتح في غوطة دمشق، ردًا على انتشار الفصائل السلفية متمثلةً بجيش الإسلام آنذاك.
على صعيد العمل التربوي والاجتماعي امتد عمل الجماعة في كل من: مصر وإسطنبول ومناطق سيطرة المعارضة في الداخل السوري، ففي إسطنبول، وفي حي الفاتح المحافظ نسبيًا، وبين شوارعه العتيقة، حاول أفراد الجماعة لمّ البيت الزيدي من جديد من خلال تأسيس “مؤسسة زيد بن ثابت الأهلية” عام 2016 المهتمة بالتعليم والإغاثة والتربية، وقبل ذلك، استمر عمل المشايخ في “رابطة علماء الشام” – تأسست عام 2012 – و”المجلس الإسلامي السوري” عام 2014 برئاسة الشيخ أسامة، الذي أصبح المتحدث الأهم باسم التدين الشامي.
تستمر منذ ذلك الحين أعمال المجلس – الذي يُعد اليوم الأكثر تمثيلًا لعلماء سوريا – من خلال الدورات العلمية والمحاضرات والزيارات إلى مناطق المعارضة في الداخل السوري والأعمال الخيرية والبيانات السياسية بين الحين والآخر.
يبدو أن اختلاط الأوراق بين المؤسسات الدينية، وأخيرًا انتخاب الشيخ أسامة مفتيًا لـ”الجمهورية العربية السورية”، جعل كبار الجماعة يخرجون من منطق الجماعة إلى منطق أكثر اتساعًا واحتضانًا، لا سيما أن هوية الجماعة باتت هلامية غير واضحة إلا في استمرار العلاقات القديمة، والواضح أن المؤسسة التي بُنيت لهذا الهدف، اختارت عدم الوضوح في هذا الشأن، ومما يلفت النظر تعريفها نفسها بأنها: “مؤسسة خيرية تسعى لنشر الخير” فقط !
وهذا ما يدعنا نقف عند سؤال: هل تستمر الجماعة وتستطيع العودة لعهدها السابق أم أنها انتهجت منهجًا آخر، وأرغمتها الظروف على الخروج عن مبادئ الشيخ عبد الكريم المؤسس؟