ليس من المبالغة القول أن تركيا شهدت خلال العقد الماضي عملية انتقال كبرى، أقرب إلى الثورة السلمية منها إلى التطور السياسي التقليدي في دولة ديمقراطية. وقد جذبت المتغيرات السياسية التركية، وما واكبها من نهوض اقتصادي كبير وسريع، اهتمام قطاعات سياسية وشعبية كبيرة في الجوار العربي والإسلامي. هذه دولة إسلامية مشرقية عاشت حقبة طويلة من الاستبداد والتردد بين الديمقراطية المشروطة والانقلابات العسكرية، دولة لصيقة بالمجال الأوروبي، مثقلة بعواقب متراكمة التقدم الغربي والتراجع المشرقي، تقوم على قدميها خلال أقل من عقد واحد من الزمان وتصبح واحدة من أكبر عشرين اقتصاداً في العالم. ليس هناك تجربة لدولة وشعب ما يمكن استنساخها حرفياً في دولة أخرى؛ ولكن دوائر عربية متعددة، وليس فقط دوائر الإسلام السياسي، ظنت طوال سنوات أن شيئاً شبيهاً بتركيا يمكن أن يتكرر في الدول العربية، وفي الدول الرئيسية منها على وجه الخصوص.
ثمة تشابه كبير بين سياق تركيا التاريخي الحديث، ودول مثل مصر وسوريا والجزائر والعراق، وليس هناك ما يمنع استلهام ما بات يعرف بالتجربة التركية، بهذه الدرجة أو تلك. إن استطاعت تركيا أن تنتقل سلمياً من حكم الأقلية وهيمنة الجيش وبيروقراطية الدولة، فلماذا لا تستطيع دول عربية مجاورة، تشترك مع تركيا في تاريخ وتقاليد عميقة الجذور، تحقيق إنجاز مشابه؟
لابد من مرور زمن، بالطبع، قبل أن يستطيع دارسو شؤون المشرق الحكم على تجربة تركيا الجديدة، وأن تصبح المتغيرات التي شهدتها تركيا على صعيد العلاقة بين الدولة وشعبها غير قابلة للنكوص. ولكن هذا لا يمنع من ملاحظة عدد من المتغيرات التي أثارت اهتمام الشعوب والقوى السياسية العربية.
أول هذه كان استقرار العملية الديمقراطية باعتبارها المسار الوحيد للانتقال والتعبير السياسيين. لم يكن هذا إنجازاً سهلاً، بالتأكيد؛ فقد ذهبت البلاد إلى أزمة كبيرة عند ترشح عبد الله غول للرئاسة في 2007، ولم تجد الأزمة طريقها نحو الحل إلا بانتخابات برلمانية مبكرة. كما تعرضت البلاد لمحاولة انقلاب واحدة على الأقل؛ وعندما لم تنجح المحاولة، لجأت القوى الكمالية والطبقة الحاكمة القديمة إلى المحكمة الدستورية لحل حزب العدالة والتنمية الحاكم. وحتى الآن، وبالرغم من تقدم عملية السلام الكردية، لم تزل هناك أجنحة في حزب العمال الكردستاني ترى أن العمل المسلح هو الوسيلة الأنجع لتحقيق الأهداف القومية لكرد تركيا. إضافة إلى ذلك، لم تستطع تركيا العدالة والتنمية، بالرغم من الجهود الحثيثة، وضع دستور توافقي جديد، ليحل محل دستور 1982، الذي كتب تحت إشراف الجنرالات الانقلابيين، وتعرض لعشرات التعديلات في السنوات العشر الماضية.
كان ثاني هذه المتغيرات هو وضع نهاية لسيطرة الأقلية الكمالية على مقدرات الحكم والثروة، وفتح أبواب الدولة والساحة الاقتصادية لكافة شرائح الشعب التركي، بما في ذلك ما يعرف بالمحافظين الإسلاميين. وهذه كانت عملية بطيئة وتدريجية، نظراً لأن نظاماً يستند إلى حكم القانون ونهج التغيير السلمي لا يستطيع إطاحة الأجهزة البيروقراطية والقضائية والأمنية بين يوم وليلة، ولا يستطيع أن يحدث انقلاباً جذرياً في منظومة القيم التي تحكم عمل مؤسسة الدولة وعلاقة الدولة بشعبها. تضمن هذا التوجه الإصلاحي تغيير عقيدة الجيش، الذي لعب منذ انقلاب 1960، دوراً مهيمناً في مؤسسة الدولة وتأبيد سيطرة الأقلية؛ كما تضمن وضع حد للطبيعة النخبوية لأجهزة الدولة، سيما القضائية والأمنية والدبلوماسية منها؛ وتضمن إلى جانب ذلك إجراء مصالحة جوهرية بين الدولة وشعبها، وتوكيد حرية المواطن واختياراته، بما ذلك الشرائح الإسلامية المحافظة في المجتمع. لتحقيق هذه الأهداف، سنت خلال العقد الماضي قوانين، وأجريت تعديلات دستورية، وأعيد النظر في عشرات اللوائح التي تنظم عمل أجهزة الدولة والمؤسسات العامة، بما في ذلك التعليم والتعليم العالي، المجلس الأعلى للقضاء، والإعلام المملوك من الدولة. ويكفي لإدراك بطء هذه العملية، أن الفتيات المحجبات لم يسمح لهن دخول الفصول الجامعية والمدرسية العليا، أو دوائر الدولة والبرلمان، إلا قبل عام واحد فقط.
أما المتغير الثالث فيتصل بعلاقة تركيا بجوارها، أو ما عرف بسياسة تصفير المشاكل. وبالرغم من أن سياسة انفتاح تركيا على جوارها نظر إليها أحياناً باعتبارها سياسة اقتصادية بحتة، ونظر إليها في أحيان أخرى باعتبارها سياسة عثمانية – إسلامية، فالحقيقة أنها سياسة لم تشمل الجوار العربي والبلقاني المسلم وحسب، بل وأرمينيا، وجورجيا وروسيا، وصربيا، وحتى اليونان، وأنها لم تعد على تركيا بأي عائد اقتصادي في كثير من الأحيان. بنيت الجمهورية على عقيدة التوجه غرباً والقطيعة مع الماضي والجوار، ولكن الدولة الجمهورية عملت أيضاً على بث الخوف من مؤامرات وهمية ومتواصلة، وأن حرب الاستقلال لم تنته تماماً بعد. وقد استخدم هذا الخوف من الخارج لتعزيز سيطرة الأقلية الحاكمة وتأبيد هذه السيطرة. ما شهدته تركيا في الأعوام العشرة الماضية لم يكن انفتاحاً واسعاً على الجوار وحسب، بل ومحاولة غير مسبوقة للنظر إلى الشعب التركي على حقيقته، واحترام تكوينه التعددي، ومواريثه الثقافية المختلفة.
عمل التقدم الذي أحرز في هذه المجالات الثلاثة، إضافة إلى سياسة مكافحة الفساد المستشري في دوائر الدولة وصفوف النخبة الحاكمة التقليدية، على بث روح نهضوية في البلاد، واحتضان طاقات عمل وابتكار وتجارة، همشت طوال عقود. وهذا ما ساعد على تحقيق ازدهار اقتصادي لم تعرفه تركيا منذ القرن التاسع عشر.
بيد أن من الواضح أن استلهام النموذج التركي لم يعد ممكناً في أغلب البلدان العربية. أولاً، لأن المسيرة التركية نحو الديقراطية لم تبدأ في 2002، عندما فاز العدالة والتنمية للمرة الأولى في الانتخابات البرلمانية، بل في نهاية الحرب العالمية الثانية. نجم عن التحول الديمقراطي في 1950، ثم في دورتين متتاليتين بعد ذلك، فوز الحزب الديمقراطي في الانتخابات وتطبيقه لبرنامج حريات واسعة ومصالحة وطنية. وقد عمل تعثر المسار الديمقراطي، واستمرار النخبة الكمالية في الحكم بصورة أو أخرى، واستمرار النضال من أجل قيام دولة ديمقراطية، حرة، على عقلنة الحياة السياسية إلى حد كبير، وانحسار الصراع الصفري بين القوى السياسية.
فوز العدالة والتنمية لم يمر بلا معارضة شرسة، ولا بدون محاولات لتعطيل المسار الديمقراطي، ولكن الأطراف كافة كانت تدرك أن الشعب التركي لم يعد بإمكانه القبول بانقلاب عسكري جديد، وأن خطوة فجة للإطاحة بالإرادة الشعبية كانت ستدفع البلاد إلى الهاوية. ثانياً، أن العلاقة الملتبسة بين تركيا والاتحاد الأوروبي، التي تعود إلى نهاية الخمسينات، عملت لصالح استمرار المسار الديمقراطي وتوفير المسوغ للبرنامج الإصلاحي. أما السبب الثالث، فيعود إلى أن توازن القوى السياسي في تركيا ظل تركياً وحسب؛ وبعد انقلاب ما بعد الحداثة في 1997 والكارثة التي جرتها حكومات السنوات الخمس التالية على اقتصاد البلاد وماليتها العامة، كان توازن القوى في البلاد قد مال بصورة كبيرة لصالح الديمقراطية والدولة المدنية، بالرغم من أن نصيب الحرية والعدالة من الأصوات لم يقترب من 50 بالمائة سوى في الانتخابات البرلمانية الثالثة التي خاضها في 2012.
ليس ثمة ما يوحي بوجود ولو شيء من العقلانية في تصرف القوى السياسية العربية، ولم يزل الصراع على الدولة والحكم صراعاً على الوجود نفسه. وبالرغم من أن القوى الكبرى، الغربية وغير الغربية، رحبت بحركة الثورة العربية، إلا أنها نظرت، ولم تزل، إلى المسار الديمقراطي في الدول العربية باعتباره عملية محفوفة بالشرور.
وإلى جانب ذلك كله، فإن الشعور المتأصل بتأثير كل دولة عربية على الأخريات، جعل توازن القوى في كل دولة على حدة وثيق الصلة بتوازن القوى الإقليمي، وترك مسيرة الإصلاح والتغيير عرضة لتدخلات الدول العربية التي تخشى وصول رياح الإصلاح والتغيير إلى عقر دارها.
ربما باستثناء عدد قليل من الدول، يبدو واضحاً الآن أن دولة الحرية والديمقراطية في المجال العربي لا يمكن الوصول إليها بعملية انتقال سلمي، تدريجي، وأن نضالاً شاقاً ومكلفاً بات ضرورياً قبل كسر إرادة الدولة القديمة ودحر الأقليات التقليدية الحاكمة.