ترجمة وتحرير: نون بوست
في المرة الأولى التي اعتقل فيها يوسف* في لبنان، كان قد تم تهريبه للتو عبر الحدود السورية. شارك يوسف، وهو ناشط مناهض للنظام من ريف دمشق السوري، في إدارة صفحة معارضة على فيسبوك خلال انتفاضة 2011 ضد الرئيس السوري بشار الأسد. عندما دخل لبنان بمساعدة أحد المُهربين بعد ثلاث سنوات، كان يوسف في قرارة نفسه يعلم أنه ربما لن يرى وطنه مرة أخرى. ولكن الآن بالنظر إلى تطبيع الدول العلاقات مع الأسد، بات يوسف يخشى أن يُجبر على العودة إلى سوريا قبل الأوان.
بعد وقت قصير من اجتيازه الحدود اللبنانية، تم إيقاف يوسف في بلدة عرسال الحدودية عند نقطة تفتيش تديرها جماعة حزب الله المسلحة المدعومة من إيران، أقوى لاعب سياسي في لبنان وحليف رئيسي للأسد. ثم نُقل إلى المخابرات العسكرية اللبنانية، حيث احتُجز لمدة 33 يومًا وتعرّض للضرب بشكل متكرر. إن يوسف واحد من بين مئات السوريين الذين تقول الجماعات الحقوقية إن السلطات اللبنانية اعتقلتهم تعسفيا وتعرضوا للتعذيب، إذ حُرم بعضهم من النوم وصُعقوا بالكهرباء وواجهوا عمليات الإعدام الوهمية. اُفرِج عن يوسف شريطة أن يجد في ظرف الأسبوع صاحب عمل لكفالة إقامته في لبنان. لكن مرت سبع سنوات، ولم يتمكن من تحقيق ذلك.
يبلغ يوسف من العمر الآن 30 عامًا، ويعيش بشكل غير قانوني في لبنان. يوسف ليس حالة شاذة ذلك أن 16 في المئة فقط من السوريين فوق سن الـ 14 المقيمين حاليًا في لبنان تمكنوا من الحصول على الإقامة، وذلك وفقًا للأمم المتحدة (أقل من 20 في المئة المسجلة في سنة 2020). هذه ليست صدفة، فقد أقرّت السلطات اللبنانية سلسلة من القوانين منذ 2015 تثني اللاجئين عن البقاء في البلاد. كما أن التصاريح بعيدة المنال بالنسبة لمعظم السوريين الذين لا يستطيعون تحمل رسوم التجديد السنوية البالغة 200 دولار. وحسب يوسف، الذي ستبلغ غرامته المالية اليوم 1600 دولار: “الأمر كله متعلق بالمال”.
يفتقر معظم السوريين إلى تصاريح العمل أيضًا. وحتى لو كان يوسف يملك تصريحًا، سيظل ممنوعًا من العمل في معظم الوظائف وبالتأكيد لن تشفع له دراساته لإدارة الأعمال. يسمح لبنان للسوريين بالعمل فقط في مجال البناء والزراعة والنظافة. عمل يوسف في العديد من الوظائف في القطاع غير الرسمي على مر السنوات (حلاق، نادل في مقهى، بائع في محل هواتف) لكنه عاطل عن العمل حاليًا. في حديثه عن الأجور التي تقاضاها قال يوسف إنها “لم تكن تغطي حتى تكاليف سيارة الأجرة للذهاب إلى العمل”. مقابل دولارين إلى ستة دولارات في اليوم فقط، بالتأكيد لن يتمكن السوريون من توفير مبلغ 800 دولار للكفيل المحتمل الذي لابد من إيجاده بموجب نظام الكفالة، الذي يربط العمال الأجانب بالكفلاء المحليين.
بسبب عدم حصوله على الإقامة، اعتُقل يوسف مرة ثانية. وفي ظل بقائه في بيروت من دون كفيل، توجّه إلى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أملا في الحصول على الأقل على إعانة، لكنه لم يحصل عليها لكونه أعزبا ونظرا لأن معظم الأموال تذهب إلى العائلات. سجلت المفوضية اسمه فقط للحصول على المساعدات، لأن لبنان توقف عن السماح للوكالة بتسجيل اللاجئين في 2015، في محاولة أخرى لتقييد طلبات الإقامة.
لكن بعد فترة وجيزة من تسجيله، انتقل من بيروت إلى طرابلس حيث تكلفة المعيشة أرخص في ثاني أكبر مدينة في لبنان والتمييز أقل في الشمال ذي الأغلبية السنية. (تجدر الإشارة إلى أن أغلبية المعارضة السورية سنية في حين أن حكومة الأسد تمثل الأقلية العلوية). عندما اضطر للعودة إلى بيروت في 2018 لتجديد شهادة المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تم توقيفه عند نقطة تفتيش واحتجازه أيضا. ولكن هذه المرة دام حجزه ثلاثة أيام فقط، وأُعطي إشعارًا لمدة أسبوع للعثور على كفيل، لكن مرة أخرى لم يكن قادرًا الدفع له.
بالنظر إلى وضعه كلاجئ، كان التحذير الذي تلقاه يوسف شكليًا في الغالب لأن ترحيله مخالف للقانون الدولي، لكن ذلك لم يمنع السلطات اللبنانية من محاولة طرد السوريين. تهدف السياسات إلى جعل حياة اللاجئين صعبة قدر الإمكان لتشجيعهم على العودة الطوعية إلى وطنهم سوريا في رحلات بالحافلات وفرتها الدولة اللبنانية.
على مدى السنوات القليلة الماضية، عملت عشرات البلديات على إجلاء السوريين وفرضت عليهم حظر تجوّل ووضعت حدًا أقصى للأجور. كما هدمت السلطات الخيام الخرسانية في مخيمات اللاجئين وأغلقت المحلات غير المرخصة. تعليقًا على هذا الموضوع قالت سارة كيالي، باحثة سوريا في منظمة “هيومن رايتس ووتش”: “لم نشهد مثل هذا التمييز الصارخ في الخطاب والممارسة ضد اللاجئين السوريين بقدر ما نراه في لبنان”.
تدعي السلطات اللبنانية أن السياسات التي تستهدف السوريين الهدف منها حماية أمن العمال اللبنانيين ورفاههم الاقتصادي. وحسب ما أفاد به الناطق باسم بلدية “رأس بعلبك” – إحدى البلديات التي فرضت على السوريين حظر تجول من السابعة مساءً إلى السادسة صباحًا – في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 لصحيفة “لوريون توداي” فإن القرار تم اتخاذه كتدبير للتقليل من معدل السرقات التي تحدث في المنطقة. حددت بلدية “رأس بعلبك” أيضا حدًا أقصى للأجور اليومية للرجال السوريين يقل عن دولارين يوميًا بسعر الصرف في السوق السوداء في لبنان، وقد عزا المتحدث ذلك إلى أن “العمال السوريين يتلقون بالفعل مساعدات دولية ويتقاضو رواتبهم بالدولار يوميًا من الصناديق الأجنبية”.
وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن: “ما لم نفعله ولا ننوي فعله هو التعبير عن أي دعم لجهود تطبيع العلاقات أو إعادة تأهيل نظام الأسد أو رفع عقوبة واحدة عن سوريا أو تغيير موقفنا المعارض لإعادة إعمار سوريا ما لم يكن هناك تقدم لا رجعة فيه نحو الحل السياسي”.
أدت بعض السياسات إلى طرد السوريين أيضًا، بترحيل أكثر من 6000 لاجئ وصلوا إلى البلاد منذ نيسان/ أبريل 2019 بموجب قرار صادر عن المجلس الأعلى للدفاع. أوقفت جائحة كوفيد-19 معظم عمليات العبور والترحيل القانونية بين سنتي 2020 و2021، لكن يوسف راقب التطورات الإقليمية الأخيرة بتوجس. إنه يشعر بقلق متزايد من أن قرار العودة إلى سوريا لن يكون عائدا له، ويخشى من أن احتجازه لمدة 33 يومًا في المرة الأخيرة التي عبر فيها الحدود لا يضاهي ما ينتظره في المستقبل في حال أجبِر على العودة إلى سوريا.
يصعب على يوسف تخيّل وضع أسوأ مما يعيشه في لبنان – باستثناء الوضع على الجانب الآخر من الحدود. ووفقًا لتقارير حديثة صادرة عن منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، يواجه اللاجئون الذين يعودون إلى سوريا الاعتقال التعسفي والتعذيب والاغتصاب والاختفاء والقتل خارج نطاق القضاء. وقال يوسف إنه لا يستطيع العودة في ظل نظام الأسد، فهو مطلوب من قبل السلطات السورية بتهمة الإرهاب وسيتعين عليه إكمال الخدمة العسكرية الإلزامية للرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و42 عامًا.
مع سيطرة الأسد حاليًا على حوالي 70 في المئة من الأراضي وتراجع وتيرة القتال، بدأت بعض الدول الأوروبية تتجه ببطء نحو تطبيق نفس السياسات المعمول بها في لبنان”. وتنبه كيالي من أنهم “يريدون طي الصفحة والتظاهر بأن العقد الماضي ليس له وجود”.
جرّدت الدنمارك، على وجه الخصوص، اللاجئين القادمين من دمشق أو ريف دمشق – مسقط رأس يوسف – من “الإقامة المؤقتة” رغم توثيق العشرات من حالات انتهاك حقوق الإنسان بالقرب من العاصمة السورية. تؤكد كيالي أنه “لم تحذو أي دولة أخرى حذو الدنمارك حتى الآن، ولكنها تنظر إلى نموذج الدنمارك وتتساءل عما إذا كان بإمكانها فعل الشيء نفسه”.
تشهد الديناميكيات الإقليمية في الشرق الأوسط تغييرات، ففي تشرين الثاني/ نوفمبر، زار وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان دمشق، ليصبح بذلك أكبر مسؤول إماراتي يسافر إلى سوريا منذ اندلاع الحرب. وتأتي هذه الزيارة عقب مكالمة هاتفية أجريت قبل شهر بين العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني والأسد، وهي الأولى منذ عقد. كما عيّنت البحرين أول سفير لها في سوريا منذ بداية الحرب.
في مقابلة له، أفاد الدبلوماسي السوري السابق بسام بربندي بأنه لا يتوقع أن يغير المجتمع الدولي موقفه من اللاجئين في الوقت الحالي، لكنه يرجح أن تكون العودة إلى الوطن نقطة محورية في أي اتفاق دولي مستقبلي لإنهاء الحرب الأهلية في سوريا. وأضاف أن “الوقت ليس مناسبًا بعد” لتعيد معظم الدول اللاجئين إلى سوريا، لكنهم سيكونون ثمن تسوية الأزمة السورية.
يرى بربندي أن علاقة الأسد الوثيقة بإيران تُعقّد عودة اللاجئين، ذلك أنه إذا عاد معظم اللاجئين السّنة فإن التركيبة السكانية في سوريا سوف تُعقد طموحات إيران الإقليمية ويضعف قبضة القوة الشيعية. وذكر بربندي أن “إيران تريد أن يكون لها تأثير كبير على مستقبل سوريا، ووجود عدد كبير من العرب السنة يجعل ذلك شبه مستحيل، لهذا السبب لا تتحدث إيران أبدًا عن قضية اللاجئين”.
وأضاف المصدر ذاته أن الدول العربية ترحّب بعودة الأسد إلى الحظيرة العربية، وذلك يفسر جزئيًا برغبتها في التصدي للنفوذ الإيراني، لكنه أكد أيضًا أن لكل دولة مصالحها المميزة الخاصة بها، مثل التأثير الدبلوماسي لدولة الإمارات العربية المتحدة التي قدمت أيضًا إشارات تجاه إيران، والفوائد الاقتصادية للأردن. كما يضغط العديد من أعضاء جامعة الدول العربية الآن لإعادة الترحيب بسوريا، التي تم تعليق عضويتها في سنة 2011.
شجبت الولايات المتحدة علانية مبادرات حلفائها تجاه الأسد ولم ترفع عقوباتها الخاصة على سوريا. وصرح وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن في تشرين الأول/ أكتوبر 2021: “ما لم نفعله ولا ننوي فعله هو التعبير عن أي دعم لجهود تطبيع العلاقات أو إعادة تأهيل نظام الأسد أو رفع عقوبة واحدة عن سوريا أو تغيير موقفنا المعارض لإعادة إعمار سوريا ما لم يكن هناك تقدم لا رجعة فيه نحو الحل السياسي”.
يُصوّر السياسيون اللاجئين على أنهم ينافسون اللبنانيين على فرص العمل، ويتلقون مساعدات كثيرة، ويستهلكون موارد الدولة المحدودة.
لكن يعتقد البعض أن حلفاء الولايات المتحدة لن يتصرفوا دون موافقة ضمنية من واشنطن. وقال بربندي: “عندما شرحت الإمارات والأردن أسبابهما الخاصة إلى الأمريكيين، لم يكن لدى الولايات المتحدة أي سبب لرفض” ما تنوي فعله. وأضاف: “الأمريكيون لا يريدون أن ينهار النظام في سوريا – هذا أحد الدروس التي تعلموها من العراق”.
قد يبقى الأسد في السلطة لكنه يحكم بلدًا في حالة فوضى. شهد الاقتصاد السوري، الذي دمره الفساد وعقد من الحرب، مزيدًا من التدهور منذ سنة 2020 مع انتشار الوباء وفرض العقوبات الجديدة والأزمة الموازية في لبنان المجاور (أموال الكثير من الأثرياء السوريين عالقة في البنوك اللبنانية). إن قيمة العملة السورية في سقوط حرّ وأكثر من 12 مليون سوري – من بين 18 مليون الذين بقوا في البلاد – يواجهون الجوع حاليًا. ارتفعت أسعار المواد الأساسية بنسبة 236 في المئة وأسعار النفط بنسبة 500 بالمئة خلال سنة 2020.
حسب كل من بربندي وكيالي، فإنه على الرغم من أن الأسد قد لا يرغب في عودة اللاجئين الذين يعارضون حكمه، إلا أنه يريد حتمًا أموال المساعدات والاستثمارات التي ستأتي معهم. ومن جهتها، أوضحت كيالي: “تبنت الحكومة السورية إطارًا قانونيًا وسياسيًا مصممًا لتوجيه المساعدات لمصلحتها. وهذا يعني أن أيّ مساعدة تعود بالفائدة على الحكومة السورية ومشاريعها وخططها، ستكون على حساب المحتاجين حقا لها وعلى حساب الالتزامات الحقوقية”.
في الوقت الحالي، تذهب هذه المساعدة إلى البلدان المضيفة للاجئين مثل لبنان والأردن. لكن بعد سنوات عديدة من نزوح السوريين، يقول كيالي إن “أموال المانحين تُستنزف”. انخفض التمويل الدولي السنوي للبلدان المضيفة للاجئين السوريين بـ1.39 مليار دولار بين سنتي 2017 و2021.
بالنسبة للبنان، فإن الأوضاع تزداد سوءا بسبب الانهيار الاقتصادي الذي دفع ثلاثة أرباع السكان البالغ عددهم 6.7 مليون نسمة (4.5 مليون منهم فقط مواطنون لبنانيون) إلى الفقر المدقع.
وقد فاقمت هذه الأزمات حدة التمييز المتفشي ضد السوريين في لبنان، والذين يشكلون ثاني أكبر تجمع للاجئين بالنسبة لعدد السكان في بلد واحد (بعد الفنزويليين في جزيرة أروبا جنوب البحر الكاريبي).
تفيد السجلات الرسمية بوجود أكثر من 815 ألف سوري في لبنان، في حين تقدر الحكومة اللبنانية بأن عددهم يبلغ نحو 1.5 مليون نسمة، وقد استغل بعض السياسيين اللبنانيين قضية اللاجئين السوريين وحمّلهم مسؤولية مشاكل البلاد.
بعبارة أخرى، يُصوّر السياسيون اللاجئين على أنهم ينافسون اللبنانيين على فرص العمل، ويتلقون مساعدات كثيرة، ويستهلكون موارد الدولة المحدودة. وقال جبران باسيل، رئيس أكبر حزب مسيحي في لبنان وصهر الرئيس اللبناني، ميشال عون، في تغريدة نشرها على تويتر سنة 2019: “لن يحل محلنا أحد على هذه الأرض التي ولد فيها أنبياء وقديسون. لا لاجئ ولا نازح ولا فاسد”.
لكن الأرقام تُظهر واقعا مغايرا، إذ تعيش حاليا تسعة من كل 10 عائلات سورية لاجئة في لبنان تحت وطأة الفقر المدقع، فيما يعاني حوالي نصف تلك العائلات تقريبا من انعدام الأمن الغذائي، وفقًا للأمم المتحدة. بلغ معدل الوفيات بكوفيد-19 في صفوف اللاجئين السوريين أربعة أضعاف المعدل العام في لبنان، حيث يكافح اللاجئون للحصول على الرعاية الصحية. كما وقع اللاجئون ضحايا لجرائم الكراهية وأصبحت مخيماتهم تُحرق عمدا.
لم يُسهل لبنان ارتياد المدارس اللبنانية للاجئين السوريين، وقد تبنت الحكومة سياسات تمنع آلاف الأطفال اللاجئين غير الحاصلين على إقامة أو سجلات تعليمية من الالتحاق بالفصول الدراسية.
يتحمل اللاجئون تبعات التحولات الجيوسياسية في المنطقة، وبعد تفاقم الوضع في لبنان قرر كثيرون المخاطرة بالعودة إلى سوريا، وهو ما يدل على ما يعيشونه من صعوبات في بلد اللجوء.
في أحد أحياء مخيم شاتيلا الذي تنتشر فيه القمامة ومياه الصرف الصحي، تعيش ندى مع زوجها وأطفالها الستة وشقيق زوجها وزوجته في شقة متداعية تتكون من غرفتي نوم. في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، اشتعلت النار في أسطوانة غاز داخل المطبخ مما أدى إلى حرق مؤونة العائلة.
تحمل جميع العائلات التي تعيش في هذا المبنى المكتظ والمكون من ثلاثة طوابق وسط أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في جنوب بيروت، الجنسية السورية. وفقًا للأمم المتحدة، تعيش 57 بالمئة من العائلات السورية اللاجئة في لبنان ظروفا “خطرة أو دون المستوى الأدنى أو في أماكن شديدة الازدحام”.
كان خالد زوج ندى يغادر كل صباح للانتظار تحت جسر بالقرب من المخيم على أمل أن يجد عملا. كان ينقل الأثاث ويخلط الإسمنت ويحمل الطوب ويعمل في الحقول، وكان يقبل بأي أجر مقابل عمله. لم يسبق له دخول المدرسة، ولا يعرف القراءة والكتابة، لذلك فإن خياراته محدودة.
بسبب ضعف بصره وتدهور صحته، لم يكن خالد قادرا على القيام بالأعمال الشاقة، وفي ظل المنافسة الشديدة، كان يعمل 10 أو 15 يوما فقط في الشهر. وبما أنه المُعيل الوحيد للعائلة، لا يمكن للأجور التي تتراوح بين دولارين و4 دولارات أن تكفي لتغطية نفقات المعيشة اليومية. تقول ندى: “إذا حالفنا الحظ للغاية، فسوف يكفينا المبلغ ليوم واحد”. قد يكفي المبلغ لشراء الخبز والماء وبعض البطاطس أو الطماطم، لكنهم غير قادرين على توفير أشياء أخرى مثل الحفاضات لطفلها حديث الولادة.
لا يرتاد أي من أطفال ندى المدرسة، لذلك فإنهم لا يُجيدون القراءة، تماما مثل والديهم. في الحقيقة، لم يُسهل لبنان ارتياد المدارس اللبنانية للاجئين السوريين، وقد تبنت الحكومة سياسات تمنع آلاف الأطفال اللاجئين غير الحاصلين على إقامة أو سجلات تعليمية من الالتحاق بالفصول الدراسية.
لتوفير احتياجاتها، تعيش ندى على الديون، وتوضح أن وجودها في المخيم بين الفلسطينيين يهوّن عليها قساوة الظروف لأنها لا تعاني على الأقل من العنصرية التي يتعرض لها اللاجئون السوريين من بعض اللبنانيين. في المحل المجاور لمنزلها، يُسمح لها بالحصول الحفاضات ودفع ثمنها لاحقًا.
سنة 2018، مرت العائلة بأزمة مالية ولم يستطع خالد دفع الإيجار، لهذا قطع صاحب البيت الكهرباء والماء. كان الأطفال يتضورون جوعا، واشتاقوا للخروج إلى المساحات المفتوحة. تقول ندى: “بالنسبة للأطفال، كان مخيم شاتيلا أشبه بالسجن. لم تكن هناك أماكن يلعبون فيها”.
حسب الأمم المتحدة، عاد أكثر من 280 ألف لاجئ إلى سوريا منذ سنة 2016، لكن من المرجح أن العدد الحقيقي أكبر بكثير، نظرا لأن العديد من اللاجئين، مثل ندى، لا يبلّغون السلطات بقدومهم ومغادرتهم
لا يزال خالد يخشى الاعتقال أو أن يُجبر على الخدمة العسكرية إذا عاد إلى سوريا، على عكس زوجته التي بلغت منتصف الثلاثينيات من عمرها ولم تعد مطالبة بالخدمة العسكرية، كما لم توجه لها أي تهم بمعارضة النظام، لذلك أخذت أطفالها وعادت إلى سوريا.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تعيش فيها ندى وأطفالها في سوريا بعيدا عن زوجها خالد. سنة 2015، سافر الزوج إلى لبنان لأول مرة بمفرده، وكانوا يأملون أن تتحسن أوضاعهم المعيشية في سوريا وأن يعود خالد، لكن الأوضاع ازدادت سوءا. كانت بلدتهم في ريف حلب خاضعة لسيطرة تنظيم الدولة وعرضة لغارات الحكومة السورية.
بعد مرور سنة، قررت ندى اللحاق بزوجها. أخذها المهربون هي وأطفالها (كانوا أربعة في ذلك الوقت) على متن قاربين عبر بحيرة الأسد إلى ريف منبج الذي كان خاضعا لسيطرة القوات الكردية في ذلك الوقت، مقابل 300 دولار. كانت ندى وابنتها في قارب، وكان أبناؤها الثلاثة الآخرون على متن قارب آخر. أثناء تلك الرحلة، انهمرت القنابل، وبقيت ندى على مدار أربعة أيام تعتقد أن أبناءها قد قُتلوا أثناء الغارات.
في نهاية المطاف، عثرت عليهم لدى أقارب العائلة في منبج، وبعد ستة أشهر، دفعت 300 دولار أخرى وتوجهت العائلة إلى الحدود السورية اللبنانية. غادروا سوريا بشكل قانوني مثل خالد، بعد أن طلبت شرطة الحدود السورية رشوة إضافية، لكن العائلة دخلت إلى لبنان بشكل غير قانوني.
بقيت ندى أقل من سنتين في لبنان، ورغم صدمات الرحلة واكتشاف حملها، لم تعد تطيق صبرا من أجل العودة. تقول ندى: “طلبت مني عائلتي البقاء في لبنان”، لكنها لم تستمع إليهم. في طريقها لمغادرة لبنان، أصدرت دوريات الحدود اللبنانية بحقها حظرا دائما يحرمها من العودة إلى لبنان مجددا، وهو إجراء يصدر بحق السوريين الذين يخرجون بشكل قانوني دون دفع غرامة.
حسب الأمم المتحدة، عاد أكثر من 280 ألف لاجئ إلى سوريا منذ سنة 2016، لكن من المرجح أن العدد الحقيقي أكبر بكثير، نظرا لأن العديد من اللاجئين، مثل ندى، لا يبلّغون السلطات بقدومهم ومغادرتهم. (لهذا يمثل هذا العدد نسبة ضئيلة من العدد الإجمالي الذي قدره البعض بنحو 6.8 ملايين لاجئ سوري في مختلف أنحاء العالم).
بعد دخولها سوريا، مرت ندى بالعديد من حواجز التفتيش، لكنها وصلت في نهاية المطاف إلى قريتها. هناك، وجدت منزلها مدمرا بالكامل، حيث تعرض للقصف والنهب وسُرق منه الأثاث. لم يكن المنزل صالحا للسكن، لكن ندى وأطفالها كانوا يعيشون هناك على أي حال. ساعدها الجيران على خلط الإسمنت وصنع الطوب من القش والطين لإعادة بناء المنزل جزئيًا.
بقي المنزل دون كهرباء ولا غاز ولا خطوط هاتف، فقد دُمّرت البنية التحتية للقرية. وجدت ندى عملا في جني المحاصيل، لكنها لم تكن تكسب ما يكفي لتأمين قوت عائلتها. كان هناك نقص في المواد الغذائية، وكانت ندى غارقة في الديون، وأصبح أطفالها جياعا أكثر مما كانوا عليه في لبنان. كانت أقرب عيادات الأطباء والصيدليات تبعد حوالي 60 ميلاً، مما يعرضهم لخطر المرور عبر العديد من نقاط التفتيش.
في بيان صدر في شهر تموز/ يوليو 2021، قالت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إنه “في ظل استمرار المناقشات بشأن عودة النازحين السوريين إلى وطنهم، من المهم مراعاة القوانين الدولية في أي جهود تدعم عودة النازحين”.
لم تشعر ندى أيضا بأمان أكبر بعد عودتها إلى سوريا، فقد راودها نفس الشعور بالخوف وانعدام الأمن. لم يتم احتجازها أو تعذيبها، لكن ابن عمها اختفى ولم تكتشف إلى الآن ما حدث له.
قبل أن تغادر لبنان، لم تكن ندى تتخيل أنها ستشتاق للحياة هناك. رغم قساوة الظروف في لبنان، كانت الأوضاع أكثر سوءا في وطنها. لذلك في أواخر سنة 2020، توجهت ندى مرة أخرى إلى الحدود، وهذه المرة برفقة أطفالها الخمسة. بسبب قرار الحظر الصادر ضدها، لم تستطع العبور بشكل قانوني. اصطحب أحد المهربين ندى وأطفالها من منزلها في ريف حلب إلى بيروت، عبر جبال حمص، مقابل 250 دولارا.
في دراسة استقصائية أجرتها الأمم المتحدة حول السوريين، أعرب 70 بالمئة عن رغبتهم في العودة إلى ديارهم في يوم من الأيام. لكن 9 من كل 10 أشخاص شملتهم الدراسة قالوا إنهم لا يخططون للعودة في غضون السنة المقبلة، رغم أنهم لا يستطيعون تلبية احتياجاتهم الأساسية في البلدان المضيفة. وبغض النظر عن مدى صعوبة أوضاعهم، قال معظم اللاجئين إن الظروف في الوطن ستحدد رأيهم في قرار العودة. كان قرار ندى بالفرار من لبنان بسبب السياسات التمييزية مجرد حالة استثنائية.
في بيان صدر في شهر تموز/ يوليو 2021، قالت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إنه “في ظل استمرار المناقشات بشأن عودة النازحين السوريين إلى وطنهم، من المهم مراعاة القوانين الدولية في أي جهود تدعم عودة النازحين”.
وأضاف البيان أن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين “ترحب بكل الجهود المبذولة لخلق بيئة تمكّن اللاجئين والنازحين داخليا من ممارسة حقهم في العودة. يجب على جميع أصحاب المصلحة العمل بشكل جماعي على معالجة العوائق التي تحول دون عودة اللاجئين، إذا أردنا تعزيز الفرص ليصبح ذلك حلا واقعيا وآمنا ومستداما لعدد أكبر من الأشخاص”.
لكن كيالي ترى أن خلق بيئة آمنة للعودة أمر غير وارد في ظل بقاء الأسد في السلطة، وتقول إنه “دون إجراء إصلاحات جذرية في تركيبة الحكومة السورية وأجهزتها، من غير المرجح أن تكون الظروف ملائمة للاجئين للعودة بشكل آمن وبصورة طوعية”.
عموما، منذ عودة ندى إلى لبنان، أصبحت الحياة أكثر صعوبة مما كانت عليه قبل مغادرتها. لكن الآن بعد أن رأت الظروف في سوريا، لا تخطط ندى للعودة إلى بلدها مرة أخرى.، وتقول إنها ستبقى هناك مهما حدث. ويأمل يوسف من جانبه أن يظل خيار البقاء في لبنان متاحا في كل الأحوال.
المصدر: فورين بوليسي