بلغت الأزمة المالية والاقتصادية التي تعصف بلبنان مستويات لم تكن معهودة من قبل، في ظلّ انسداد أفق الحلول السياسية والاقتصادية، وفي ظلّ تصاعُد التوتُّر على المستوى الإقليمي، واتخاذ لبنان بين القوى المتصارعة والمتنافسة ساحةً لتصفية الحسابات وصندوق بريد لتبادُل الرسائل، فيما يدفع أهله ومواطنوه الضريبة والثمن جرّاء الاصطفافات وتأثير المحاور على الداخل اللبناني، وجرّاء الانقسام القائم في البلد بين المكوّنات الطائفية والمذهبية والسياسية.
وقد أرخى كل ذلك بثقله على كاهل اللبنانيين، وخلّفَ أزمات أخرى على المستوى الحياتي والصحّي والاجتماعي لم تكن معهودة من قبل، ومن ذلك تغيُّر العديد من العادات والتقاليد التي كانت سائدة ومعمول بها على مدى الفترات السابقة، ودفع الناس في ظلّ غياب الحلول إلى اللجوء إلى بدائل بدأت تشكّل عادات وأعرافًا جديدة، وقد أسهمت الأزمة الصحية التي تولّدت بسبب انتشار وباء كورونا من ناحية، وبسبب الوضع الاقتصادي من ناحية أخرى، في انتشار هذه التقاليد والأعراف.
العودة إلى السكن مع العائلة
أوجدت الأزمة الاقتصادية الخانقة، وفقدان الليرة اللبنانية لأكثر من 90% من قيمتها الشرائية، وانهيار مستوى وقيمة دخل الفرد في لبنان، مشكلات إضافية لم تكن قائمة أو حاضرة من قبل، من أبرز هذه المشكلات مشكلة السكن، فقد أدّى انهيار قيمة العملة إلى ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، ومن بين الأسعار التي ارتفعت أسعار المساكن، سواء لناحية الشراء أم لناحية الاستئجار.
ففي العاصمة بيروت على سبيل المثال، بات أقل مسكن يبلغ ثمنه مليارات الليرات اللبنانية، في وقت ما زال الحد الأدنى للأجور على ما هو عليه (570 ألف ليرة)، ولم يطرأ أي تعديل على مستوى وقيمة رواتب الموظفين في القطاعَين العام أو الخاص، سوى ما قامت به بعض الشركات التي ما زالت مستمرة وصامدة.
كما أن أجرة أقل مسكن في بيروت داخل الأحياء الشعبية التي تُعدّ من أرخص الأماكن، كما في مناطق الطريق الجديدة أو عائشة بكار أو المصيطبة أو غيرها، يبلغ حوالي 3 ملايين ليرة ونصف شهريًّا، في وقت يُعتبر هذا المبلغ نصف راتب نائب في المجلس النيابي اللبناني، أو ثلاثة أرباع راتب قاضٍ من القضاة.
بمعنى آخر، لم يعد بمقدور الشباب الذين تتراوح رواتبهم بين مليون ونصف ومليوني ليرة الاستئجار في هذه المساكن الشعبية، هذا فضلًا عن أن الموظفين الآخرين من أصحاب العائلات والأسر لم يعد بمقدورهم مواصلة السكن في شقق سكنية من هذا القبيل.
وقد دفع كل ذلك أولئك إلى البحث عن البدائل، وهنا وجد الكثير من اللبنانيين ضالتهم في العودة إلى مسكن الأهل، سواء كان في العاصمة بيروت، أو في أية مدينة أخرى، أو العودة إلى مسكن العائلة في الأرياف والسكن في مسكن واحد مع الأهل، على خلاف العادة التي كان فيها كل فرد من أفراد الأسرة يلجأ إلى مسكن خاص عندما يتزوّج ويؤسِّس أسرة خاصة به.
التخلي عن إقامة المناسبات واللقاءات
تتمثل إحدى العادات التي بدأت تختفي وتتراجع باللقاءات الصباحية، التي كانت تجمع الأهل والأقرباء والجيران في القرى والأرياف وفي المباني السكنية المجاورة، حيث كان الجيران يلتقون في أيام نهاية الأسبوع، كما كانت النساء على وجه الدقة والتحديد يجتمعن في الصباحات فيما يُطلق عليه هنا في لبنان بـ”الصبحيات”.
بدأت هذه الظاهرة بالانحسار والتراجع، بعد أن كانت هذه الصباحات تجمع الجيران والأقارب على شرب القهوة والشاي والأحاديث الجانبية التي تأخذ أبعادًا كثيرة، حيث اليوم بعد أن بات سعر كيلو البُنّ (القهوة) أكثر من 200 ألف ليرة، وسعر كيلو الشاي أكثر من 150 ألف ليرة، فضلًا عن السكّر والمستلزمات الأخرى؛ بدأت هذه العادة تختفي لصالح الانكفاء والاكتفاء بجلسة عائلية محدودة.
إضافة إلى ذلك، هناك تراجع عادة القيام بالواجب تجاه أهل الميت، فقد كانت هناك عادات وتقاليد موروثة وقديمة يحترمها الكبير والصغير، تجعل الجميع من الأهل والأقارب والأصدقاء والجيران يتركون أعمالهم ويقفون إلى جانب أهل الميت، بل يشاركون في واجب العزاء ومراسم الدفن حتى لو كان ذلك يجري على بُعد مئات الكيلومترات عن أماكن سكنهم، لكن اليوم اختفت هذه العادة بسبب الوضع الاقتصادي من ناحية وانتشار وباء كورونا من ناحية ثانية، وبات الجميع يكتفون بتقديم واجب العزاء عبر الاتصال الهاتفي وأحيانًا كثيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
بينما الأعراس والحفلات في البيوت أو في المطاعم والقاعات باتت قليلة جدًّا، أولًا بسبب تراجع نسبة الشباب الذين يقدمون على الزواج، وثانيًا بسبب الكلفة الباهظة والمرتفعة لإقامة مثل هذه الأعراس، وبالتالي باتت العائلات تلجأ إلى حفلات متواضعة تجمع الأقارب من العصب العائلي القريب جدًّا في مثل هذه المناسبات.
تجنب زيارة المرضى
وبسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة، فقد سُجِّل أيضًا تراجع كبير في نسبة زيارة المرضى، سواء في المستشفيات أو في المنازل، حيث كان هناك عادات بزيارة يقوم بها الأهل والأصدقاء والأقارب إلى أي مريض في المستشفى حيث يرقد، أو في منزله بعد تماثله للشفاء، وفي العادة كان الأقارب يحملون معهم الهدايا في مثل هذه المناسبات، غير أن هذه العادة تراجعت بشكل كبير في ظلّ الأزمة الاقتصادية الخانقة، بحيث بات يقتصر “القيام بالواجب” عبر الاتصال الهاتفي فقط.
وهذا ينسحب أيضًا على الشباب الذين يقدمون على الزواج، إذ غالبًا ما كان الأهل والأقارب والأصدقاء يشاركون معهم في تجهيز الأثاث المنزلي، غير أن هذه العادة أيضًا تراجعت بشكل كبير جدًّا.
أما التخلي عن الكثير من العادات الأخرى التي كانت قائمة، من مثيل إقامة المآدب في المناسبات الاجتماعية أو الدينية، فحدّث ولا حرج، حيث اختفى الكثير منها بعد أن كانت موائد رمضان عامرة على الدوام في أغلب المنازل بدعوة الأهل والأقرباء والأصدقاء لتناول طعام الإفطار، في حين تكتفي الأسر اليوم بإقامة الإفطار في المنزل للأسرة فقط.
أزمة اقتصادية معيشية صعبة لا يدري اللبنانيون متى يخرجون منها، ولكن خطورتها أنها مع تمركزها وتوطُّنها تؤسِّس لعادات وتقاليد سلبية لم تكن قائمة أو معروفة من قبل، وتترك أثرًا كبيرًا على بنية مجتمع عربي شرقي لطالما كانت علاقاته الاجتماعية، القائمة على التواصل والتكافل والتعاون وحسن الضيافة والكرم والتآخي، من أبرز عوامل القوة.