تستقبل كازاخستان العام الجديد بموجة احتجاجات عنيفة، انطلقت شرارتها الأولى من منطقة مانغيستاو غربًا لكن سرعان ما انتقلت بشكل لافت للنظر إلى مناطق أخرى حتى وصلت إلى العاصمة الحاليّة نور سلطان، مرورًا بست مدن أخرى من بينها العاصمة القديمة “ألماتي” في تطور أثار الكثير من التساؤلات.
الشعار الأبرز للانتفاضة الشعبية كان الغضب من زيادة أسعار الغاز المسال الذي يعتمد عليه الشعب في تسيير أموره اليومية، لكنه تطور بعد ذلك ليشمل الهجوم على الرئيس السابق نور سلطان نزارباييف، الذي ما زال يتمتع بصلاحيات واسعة ونفوذ كبير رغم استقالته عام 2019 بعدما حكم البلاد ما يقرب من ثلاثة عقود.
سرعة تدحرج كرة النار الاحتجاجية من منطقة لأخرى، وتصاعد أعمال العنف من حرق لمقار الحزب الحاكم والادعاء العام، والسيطرة على مطارين في مدينتي ألماتي وأكتاو، بجانب التغطية الإعلامية المباشرة لها لحظة بلحظة، دفع محللين إلى الميل لوجود قوى خارجية وراء اندلاع تلك الانتفاضة، سواء كانت قوى أجنبية أم المعارضة المقيمة في الخارج.
وبينما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مشغولًا بالأوضاع في أوكرانيا وتصاعد التوتر مع واشنطن وأوروبا بشأن السجال بخصوص التحضير لحرب ضد كييف، إذ بالضربة تأتيه من حديقة بلاده الخلفية، الأمر الذي يتوقع منه التحرك العاجل للحيلولة دون إنجاح أي حراك جماهيري في إسقاط الأنظمة الحليفة لموسكو، هذا بخلاف التوجس الدائم من سيناريو “الثورات الملونة”.
القشة التي قصمت ظهر البعير
انطلقت تلك الاحتجاجات في أعقاب رفع أسعار الغاز المسال، في 2 يناير/كانون الثاني 2022، بنسبة تقترب من 100%، فقد وصل سعر اللتر 120 تنغًا (30 سنتًا) مقارنة بـ60 تنغًا (15 سنتًا) العام الماضي، علمًا بأن كازاخستان تحتل المرتبة 22 عالميًا من حيث احتياطات الغاز الطبيعي البالغة 45.7 تريليون قدم مكعبة، والـ12 من حيث احتياطي النفط المؤكد.
الكازاخستانيون يعتبرون أن هذا الارتفاع في أسعار الطاقة حلقة صغرى في سلسلة أكبر من الفساد المتفشي في أرجاء البلاد خلال العقد الأخير تحديدًا، الذي أرجعه المراقبون إلى أسرة الرئيس السابق نزارباييف التي هيمنت على ثروات البلاد الطبيعية وهو ما كشفته وثائق “بنما” و”باراديس” الأخيرة.
الزيادة في أسعار الغاز وإن كانت المحرك المباشر للاحتجاجات لكنها ليست السبب الوحيد، إذ تشهد البلاد زيادة جنونية في أسعار الخدمات والسلع، حيث قفزت أسعار البنزين والديزل مرتين خلال العام الماضي، الوضع ذاته مع السلع الغذائية الضرورية، فيما كانت السلطات تناقش مسألة زيادة أسعار الكهرباء قبل أيام معدودة من اندلاع الاحتجاجات.
نزار باييف
ورغم ما تمثله الأسعار من تأثير واضح في تحريك الشارع ضد نظام قاسم جومرات توكاييف، فإن استمرار منح الرئيس السابق كل الصلاحيات والنفوذ، وإخضاع ثروات البلاد في قبضة أسرته، أثار احتقان الكازاخ الذين يرون أن الرئيس الحاليّ ليس إلا “خيال مآتة” لنزار باييف.
ومن المفارقة الغريبة أن اسم عائلة الرئيس الجديد (توكاييف) يتوافق مع الكلمة الكازاخية “توكال” التي تعني “الزوجة الصغرى”، ومن ثم تتمحور مطالب المتظاهرين بتقليم أظافر نزار باييف السياسية وتحجيم نفوذه، أكثر من مطالبتهم بإقالة الرئيس الحاليّ، إيمانًا منهم أنه السبب الرئيسي في الفساد الذي نخر في عظم الدولة فهوى بها رغم أنها كانت واحدة من النمور الاقتصادية المشهود بها في جمهوريات آسيا الوسطى، التي استطاعت تحقيق نموًا اقتصاديًا غير مسبوق بعد تحررها من قيود الاتحاد السوفيتي عام 1991.
في تقرير سابق لـ”نون بوست” استعرض تفصيلًا منظومة الفساد التي دشنها نزار باييف التي من خلالها هيمن على ثروات البلاد الطبيعية والسياسية، ففي عام 2015 عين ابنته “داريجا” نائبة لرئيس الوزراء، تمهيدًا لتقليدها منصب رئيس الحكومة مستقبلًا، هذا بخلاف تورط زوجها في قضايا غسيل أموال.
هذا بخلاف ابنته الثانية دينارا وزوجها تيمور كوليباييف الذي يهيمن وحده على قرابة 90% من اقتصاد البلاد، فيما احتل المرتبة 1107 في قائمة أغنياء العالم عام 2013، بثروة مقدارها 1.3 مليار دولار، وتليه دينارا برأس مال تقدر قيمته بـ1.3 مليار دولار، بحسب تصنيف مجلة “فوربس”.
هدية على طبق من ذهب
لا شك أن الاحتجاجات العارمة التي تعم شوارع كازاخستان تصب في صالح المعارضة المقيمة في الخارج بطبيعة الحال لاستحالة بقائها داخل البلاد نظرًا للقبضة الأمنية المحكمة من السلطات الحاكمة التي لا تسمح بأي تغريد خارج السرب الذي يتحكم فيه نزار باييف حتى اليوم.
تصاعد الغضب الأيام الماضية ضد توكاييف أسال لعاب المعارضة الخارجية لاستغلال الوضع، وعلى الفور دعا زعيم حركة “الخيار الديمقراطي” المحظورة، مختار أبليازوف، أنصاره للخروج إلى الشوارع لمؤازرة المتظاهرين في التصدي لقوات الأمن التي استخدمت القنابل المسيلة للدموع لتفرقة الغاضبين، فيما تشير التقارير إلى سقوط عدد من القتلى بين صفوفها جراء تلك المواجهات.
المعارض المقيم في فرنسا طالب باستمرار الاحتجاجات حتى إسقاط نظام نازارباييف وتوكاييف وكل السلطة الحاليّة في البلاد، مناشدًا – في مقطع له على تويتر – المحتجين بالسيطرة على كل مؤسسات الدولة، محذرًا من إتلاف المراكز الحكومية والبعد عن الاعتداء المسبق على مواقع الجيش والشرطة.
تأجيج الوضع والتغطية الإعلامية المكثفة له، أثار مخاوف رجال الأعمال الذين بدأوا في مغادرة البلاد باتجاه أوروبا، حسبما نقلت “الجزيرة” عن موقع “كازتاغ تليغرام” الكازاخي، هذا بخلاف البيانات الواردة من موقع “فلاي رادار” التي أظهرت أن طائرات رجال أعمال حكومية متجهة من ألماتي نحو روسيا.
Not even #CNN is covering the situation in this #CentralAsia countryhttps://t.co/RpdUVcyjwe #Kazakhstan #kazakhstangovernment #kazakhstanprotest pic.twitter.com/RHkDEwOvdy
— WTX NEWS EU (@wtxnewseu) January 5, 2022
العصا والجزرة
وفي محاولة لتهدئة الشارع الثائر أقال الرئيس توكاييف سلفه نزار باييف من منصب رئيس مجلس الأمن القومي الذي كان يرأسه بعد خروجه من السلطة قبل عامين، ليضطلع هو بمسؤولياته، بجانب تعيينه لرئيس جديد للجنة أمن الدولة، إضافة إلى إقالته عدد من أفراد أسرة الرئيس السابق من بعض المناصب السيادية.
وفي سياق امتصاص الغضب اتخذت الحكومة قرارًا بتخفيض سعر الغاز من 120 إلى 85 تنغًا للتر، بجانب فتح تحقيق ضد أصحاب محطات الوقود، التي وصفتهم بـ”المتأمرين” كما اعتقلت بعضهم، لكنها الخطوة التي لم ترض المحتجين، ما دفعها لتقديم استقالتها للرئيس الذي بدوره كلف نائب رئيس الوزراء، علي خان إسماعيلوف، بتصريف الأعمال ريثما يتم تشكيل حكومة جديدة.
وبالتوازي مع إجراءات الاحتواء تلك، كثفت السلطات من وجود عناصرها الأمنية في المناطق التي تشهد احتجاجات، فيما نشبت مواجهات دامية بين الطرفين، أسفرت عن سقوط عشرات الإصابات فيما قُتل قرابة 8 أفراد من الشرطة، هذا في الوقت الذي تحاول فيه وزارة الداخلية التزام أكبر قدر من ضبط النفس خشية انفلات العقد ودحرجة كرة النار إلى حيث لا يمكن إيقافها.
لكن من الواضح أن الأمواج الغفيرة للغاضبين فاقت قدرة قوات الأمن الموجودة، خاصة في ظل الانتشار السريع للحراك في العديد من المناطق، ما تسبب في إرهاق منظومة الأمن وتشتيت قواها، ما دفع الرئيس إلى استجداء الدعم الخارجي عبر طلب مساعدات من بعض الدول وعلى رأسها روسيا للتدخل من أجل إنقاذ الوضع.
تدخل خارجي
في الساعات الأولى من صباح اليوم، وفي خطاب متلفز له، كشف توكاييف عن طلبه مساعدة منظمة معاهدة الأمن الجماعي (تحالف عسكري يضم روسيا وروسيا البيضاء وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان) لإعادة فرض الاستقرار الذي بات مهددًا على أيدي المحتجين.
الرئيس الكازاخي أشار إلى أن ما أسماهم “عصابات إرهابية” استولت على مبان ومرافق بنية تحتية وأسلحة، ووضعت يدها على خمس طائرات، بينها طائرات أجنبية، في مطار ألما آتا، لافتًا إلى أنهم تلقوا تدريبًا في الخارج، في إشارة إلى وجود أصابع أجنبية في الأزمة، قائلًا: “هذا تقويض لسلامة البلد والأهم أنه هجوم على مواطنينا الذين يطلبون مني مساعدتهم بسرعة”.
من جانبه قال رئيس وكالة الفضاء الروسية ديمتري روجوزين، إنه تم تعزيز الإجراءات الأمنية بشأن قاعدة بايكونور الفضائية في كازاخستان التي تستخدمها بلاده في عمليات الانطلاق إلى الفضاء، حسبما نقلت وكالات أنباء روسية، فيما أعلنت موسكو على لسان وزارة خارجيتها أنها تراقب الأوضاع في كازاخستان عن كثب، داعية إلى الحوار من أجل تطبيع الأوضاع، مؤكدة أنها تدعم إجراءات توكاييف.
المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، أعرب في تصريحات صحفية له عن ثقته في أن “الأصدقاء الكازاخيين قادرون على حل مشاكلهم الداخلية وحدهم”، فيما حذر في الوقت ذاته من التدخل الخارجي، لافتًا إلى أن بلاده لن تسمح بذلك، في إشارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية لا سيما مع وجود تسريبات بشأن ضلوعها في إشعال الوضع داخل كازاخستان.
في السياق ذاته كتب رئيس وزراء أرمينيا، نيكول باشينيان، على حسابه على تويتر، صباح اليوم الخميس، قائلًا إن تحالفًا أمنيًا مؤلفًا من دول سوفييتية سابقة، وتقوده روسيا، سيرسل قوات لحفظ السلام – لم يحدد عددها – إلى كازاخستان، وذلك استجابة لمناشدات الرئيس الكازاخي وطلبه مساعدات خارجية.
حديقة بوتين الخلفية تحترق
يأتي أهمية التحرك الروسي لدعم نظام توكاييف من قيمة كازاخستان، تلك الدولة الحليفة لموسكو، في خريطة الصراع الجيوسياسي بين روسيا والغرب، إذ تمثل رمانة الميزان التي تبقي على النفوذ الروسي في آسيا الوسطى لا سيما بعد الضربات التي تلقتها في أرمينيا والتوتر في أوكرانيا.
تؤمن موسكو أن سقوط النظام الكازاخي الراهن على أيدي المحتجين، الذي يعتقد الروس أنهم مدعومون من قوى غربية، من الممكن أن يضع البلاد مستقبلًا في أيدي قوى ليبرالية ذات توجه غربي، وهو ما يهدد مصالحها ويقوض نفوذها هناك، فضلًا عن تحول تلك الدولة التي كانت بالأمس حليفة لروسيا إلى خنجر في خاصرتها.
ومما يعزز القلق الروسي بشأن تكرار النموذج الأوكراني، تلقي النخبة الحاليّة في كازاخستان تعليمها في الجامعات الأوروبية والأمريكية وهو ما يثير الشكوك بصفة مستمرة بشأن تنامي وكلاء الغرب في البلاد، هذا في مقابل اتساع رقعة ظاهرة “الروس فوبيا” التي بدأت في أعقاب الانهيار السوفيتي مباشرة، رغم الإجراءات التي اتخذتها الحكومات السابقة – الموالية لموسكو بالطبع – لإبقاء الشعب الكازاخي أسير الثقافة السوفيتية، وهي المحاولات التي يبدو أنها لم تحقق الهدف المنشود منها.
العلاقات التاريخية والمجتمعية والثقافية القوية التي تجمع بين الكازاخ وتركيا تمثل هي الأخرى مصدر قلق كبير لبوتين، خاصة في ظل الحرب الباردة بين البلدين في منطقة آسيا الوسطى، ولعل السيناريو الأوكراني والأذربيجاني أكبر دليل على صراع النفوذ بين الطرفين في تلك البقعة الإستراتيجية، وهو ما يخشى الروس تكراره لدى النموذج الكازاخستاني.
وفي الأخير.. ثمة دوافع وتقاربات، تجبر موسكو على الانخراط بصورة مباشرة وسريعة في الملف الكازاخي، لدعم نظام توكاييف والحيلولة دون سقوطه، ليجد بوتين نفسه أمام باب جديد للنزاع يضاف إلى قائمة الملفات الملتهبة التي تورط فيها الرئيس الحالم باستعادة نفوذ إمبراطورية بلاده المنهارة.