ترجمة وتحرير: نون بوست
وصلت محادثات فيينا إلى مرحلة حرجة، وهي المحادثات التي تستهدف إعادة النظر في صفقة النووي مع إيران، والتي كان قد انسحب منها الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب في عام 2018.
ها هم الآن في الجولة الثامنة لهم، ولا زالت الخلافات بين الأطراف المتفاوضة قائمة ولا تلوح في الأفق مؤشرات على أن الفجوات بينهم تضيق. بينما يتواجد وفد الولايات المتحدة في فندق على الجهة المقابلة من الشارع، يسعى المفاوضون الأوروبيون إلى التوصل إلى اتفاق سريع يقوم على رفع جزئي للعقوبات، وتجميد لعمليات التخصيب، والعودة الكاملة إلى الرقابة من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
بينما يريد الإيرانيون العودة الكاملة إلى الصفقة التي أبرمت في عام 2015، ورفع جميع العقوبات المفروضة، وضمانة بأن الولايات المتحدة لن تعود في المستقبل وتنسحب تارة أخرى من الاتفاق، ونظام للتحقق.
من بين كل هذه الشروط، يعتبر نظام التحقق هو الأصعب على الإطلاق. فقد كان انعدام وجود نظام للتحقق، من وجهة نظر الحكومة الإيرانية الحالية، هو الإخفاق الرئيسي في الصفقة الأصلية، لأن ذلك هو الذي سمح للإدارة الأمريكية في عهد الرئيس باراك أوباما بالاستمرار في فرض العقوبات.
ثم ما لبث دونالد ترامب، تحت وطأة الضغوط التي مارسها عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو، أن انسحب من الصفقة مع إيران وبدأ بتنفيذ سياسة “الحد الأقصى من الضغط”. خلال أيامه الأولى بعد توليه منصب الرئاسة، تراجع بايدن عن كثير مما فعله ترامب، إلا أنه لم يتراجع عن جل تلك السياسة، التي ما زالت مستمرة حتى هذا اليوم.
هراوتان كبيرتان
يلوح الأوروبيون – بريطانيا وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي – بما يظنون أنهما هراوتان كبيرتان فيما لو انهارت المحادثات. أما الهراوة الأولى فهي العودة إلى العقوبات التي تفرضها الأمم المتحدة، لأن الأمر لن يقتصر على انهيار المحادثات وإنما ستذهب أدراج الرياح أيضاً خطة العمل الشاملة المشتركة.
وأما الهراوة الثانية فهي الخطة باء – أو التهديد بشن ضربات جوية تنفذها “إسرائيل” بمساندة من الولايات المتحدة.
تعتبر العقوبات التي تنص عليها وصفة الأمم المتحدة أضعف وأضيق نطاقاً، وهي الآن قيد التنفيذ ضمن إطار العقوبات التي فرضها ترامب.
ولذلك لا تمثل الأمم المتحدة نقطة ضغط بالنسبة لإيران. في المقابل، سوف يتمخض انهيار خطة العمل الشاملة المشتركة عن طرد فرق التفتيش النووية التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية من إيران.
بحسب الوضع الحالي، فقد جمدت إيران حق الوكالة الدولية للطاقة الذرية بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة في القيام بعمليات تفتيش تدخلية على المرافق النووية ونزعت أربعاً من آلات التصوير التابعة لها في كاراج، حيث تم بناء أجهزة الطرد المركزي لليورانيوم، وذلك بعد أن ألحقت “إسرائيل” أضراراً بالموقع في شهر يونيو / حزيران من العام الماضي. تم الآن إعادة تركيب آلات التصوير ولكنها لا تبث للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ولكن من أجل إنجاح المحادثات في فيينا، لابد أن يتم تسليم هذه المواد المصورة، والتي تحتفظ بها إيران حالياً. أما فيما لو انهارت خطة العمل الشاملة المشتركة فإن أي دليل حيوي حول التخصيب سوف يتم إتلافه، ولسوف يفقد المفتشون الدوليون تارة أخرى القدرة على رؤية ما يجري داخل برنامج التخصيب النووي الإيراني.
فما هي الفائدة التي يرتجى جنيها من ذلك؟
لا مفر من أن ضربة جوية إسرائيلية على المرافق النووية الإيرانية، وبالضرورة أيضاً على مراكز القيادة والتحكم وأنظمة الدفاع الجوي التابعة لها، سوف تشعل أكبر حرب إقليمية منذ غزو العراق في عام 2003. ولسوف يتسبب ذلك في سقوط أعداد كبيرة جداً من المدنيين، ويشل إنتاج النفط في الخليج، ويطلق العنان لضربات جوية استباقية في جنوب لبنان وربما أيضاً في قطاع غزة.
ولسوف تطلق إيران ووكلاؤها مئات الصواريخ باتجاه مرافق النفط في الخليج وكذلك باتجاه أهداف عسكرية داخل “إسرائيل”. لا ينبغي بتاتاً الاستخفاف بخطر اندلاع حرب أخرى في الشرق الأوسط لأن الكثير جداً في المنطقة على زناد مشدود. ولا أظن شخصياً أن الإدارة الجديدة في إيران بقيادة إبراهيم رئيسي تخادع حينما تقول إنها على استعداد لشن مثل تلك الضربات.
يحتاج صقور “إسرائيل” إلى قراءة متأنية وواعية لتحليل التكلفة والفائدة لأي ضربة عسكرية قد تخطر ببالهم. لن تسمح أذربيجان للمقاتلات الإسرائيلية باستخدام مدارجها لتنفيذ مثل تلك الضربة، على الرغم من أن الطائرات الإسرائيلية المسيرة استخدمت تلك المدارج للقيام بمهام تجسسية داخل إيران. وبذلك لا يبقى أمامهم سوى القيام بضربة مباشرة من داخل إسرائيل نفسها.
يقول يوسي ميلمان، الذي يكتب عادة لموقع ميدل إيست آي، في مقال نشرته له صحيفة هآريتز، إنه حتى فيما لو تمكنت الطائرات الإسرائيلية المقاتلة من طراز إف 35 – المحملة تماماً والتي تحتاج إلى التزود بالوقود أثناء الطيران – من التحليق عبر الأجواء الأردنية والعراقية دون أن تُكتشف، وهنا تكمن “لو” كبيرة، فإنها لن تتاح لها سوى فرصة واحدة لتوجيه ضربة تشل المرافق النووية ومراكز القيادة وأنظمة الدفاعات الجوية.
حتى لو كانت تلك المهمة ناجحة بنسبة مائة في المائة، فمن غير المحتمل أن تتمكن من التسبب في عطل مؤقت في برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني. لسوف تتمكن إيران من إعادة البناء بشكل أفضل، كما كان ديدنهم بعد كل عملية تخريب أو اغتيال يتعرضون لها. وتلك هذ الحجة التي واجهت بها إدارة بايدن “إسرائيل” عندما استؤنفت المحادثات.
وقعت الإمارات العربية المتحدة صفقة مع إيران تسمح للإماراتيين بفتح خط تجاري بري نحو أوروبا عبر تركيا يختصر الفترة الزمنية من عشرين يوماً إلى سبعة أيام، كما أن المزاج في الرياض طرأ عليه تحول أيضاً.
حينذاك، قالت الولايات المتحدة إن ضرب إيران يمثل انفراجاً تكتيكياً بالنسبة لإسرائيل، ولكنه ليس انفراجاً استراتيجياً. وما قالوه حينها ما زال قائماً الآن، ناهيك عن أن رد إيران سوف ينظر إليه باعتباره انتقاماً مشروعاً رداً على عدوان حربي تعرضت له.
على الرغم من أن إيران لم تدع مسؤوليتها عن أي من الهجمات التي شنت باستخدام الطائرات المسيرة والصواريخ الموجهة على معملين تابعين لشركة أرامكو ولا عن الهجمات بالألغام المغناطيسية على ناقلات النفط التي كانت ترسو في الموانئ الإماراتية عام 2019، إلا أن ذلك يثبت قدرتها على إلحاق قدر كبير من الأذى بأي بلد عربي قد تسول له نفسه المساعدة في الهجوم عليها.
يكفي العلم بأن إنتاج النفط السعودي تراجع إلى النصف لعدة أسابيع جراء ذلك الهجوم على أرامكو. ولا يدخل في هذه الحسبة ما الذي يمكن أن تفعله صواريخ إيران الاستراتيجية وترسانة الأسلحة الصاروخية لدى حزب الله فيما لو تم استهداف إسرائيل.
لا يوجد من هم أكثر إدراكاً لمدى ضعفهم أمام جارهم الخليجي من الإماراتيين والسعوديين أنفسهم.
فمنذ هجمات الإيرانيين على الخليج لم تدخر أبوظبي ولا الرياض جهداً بذلك كل ما في وسعها للتعامل بلطف مع إيران، ومن الجدير بالملاحظة أن الإمارات لم يصدر عنها بتاتاً اتهام رسمي لإيران بالمسؤولية عن الهجمات التي شنت على ناقلات النفط التي كانت راسية في موانئها.
منذ ذلك الحين، وقعت الإمارات العربية المتحدة صفقة مع إيران تسمح للإماراتيين بفتح خط تجاري بري نحو أوروبا عبر تركيا يختصر الفترة الزمنية من عشرين يوماً إلى سبعة أيام، كما أن المزاج في الرياض طرأ عليه تحول أيضاً.
البراغماتية الخليجية
في تصريح له هذا الأسبوع حول إيران، قال وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان: “أيادي العرب ممدودة للإخوة في إيران في حال تجاوبوا معهم لمعالجة الهموم العربية فيما يتعلق بأمن واستقرار المنطقة، مثل دعمها للمليسشيات الإرهابية وسعيها لإنتاج الأسلحة النووية.”
أثارت دهشة المراقبين استخدام الوزير لكلمة “الإخوة”.
هذه البراغماتية التي تمارسها أبوظبي، وبدرجة أقل الرياض، من رغبة في تطبيع العلاقات مع محور الأقطار التي قضيا جل العقدين الماضيين في السعي لسحقها – قطر وتركيا وإيران – بددت إلى حد كبير من الآمال التي كانت معلقة على التطبيع العربي مع “إسرائيل” رجاء أن ينجم عنه تشكل محور نشط معاد لإيران، أو ما يمكن أن يطلق عليه “الناتو العربي”.
ومن البوادر على ذلك المقاربة الإماراتية التي لسان حالها “خذ أو اترك” إزاء صفقة مع “إسرائيل” حول خط الأنابيب الذي من المفترض أن ينقل النفط من إيلات إلى عسقلان. هناك العديد من الأسباب لذلك – ليس أقلها الأثر الذي ستتركه مثل هذه الصفقة على حركة المرور عبر قناة السويس، ولكن منها أيضاً العلاقات المتنامية بين أبوظبي وإيران.
هل يمكن أن تتوفر الرغبة لدى أي زعيم دولة هزتها حتى النخاع جائحة كوفيد-19، وما زالت إلى حد بعيد تعيش في خضم الأزمة، في أن يبدأ حرباً في الشرق الأوسط ينجم عنها تساقط الصواريخ فوق منطقة الخليج وبلاد الشام؟ هل يمكن أن يكون لدى أي رئيس في الولايات المتحدة، عيناه مركزتان على التعافي الاقتصادي الهش، الاستعداد للسماح بارتفاع أسعار النفط ضعفين أو ثلاثة أضعاف نتيجة لذلك؟ الإجابة الواضحة في الحالتين هي لا. بمعنى آخر، يتم تهديد إيران بأوراق تعلم إيران علم اليقين أنه من غير المحتمل أن تجازف واشنطن باللعب بها.
لا توجد أوراق للعب
الحقيقة الواضحة في هذا الأمر هي أن الدبلوماسيين الأوروبيين والأمريكيين في فيينا خسروا أدوات الضغط على إيران. لقد عرضوا البلد إلى أسوأ ما بإمكانهم فرضه عليه، ومع ذلك نجت إيران وظلت على قيد الحياة، بل وخرجت من المحنة أقوى وأشد عوداً. والأكثر من ذلك مما ينبغي أن يفيق له صقور الغرب من غفوتهم هو رد الفعل الروسي والصيني المحتمل فيما لو انهارت محادثات فيينا. وهذا هو العامل الذي يشكل فرقاً هائلاً بين ما جرى في 2015 وما يجري الآن.
لدى الرئيسين فلاديمير بوتين وزي جينبينغ كم من الأسباب الأخرى التي تمنعهم من اللعب وفقاً للشروط الأوروبية والأمريكية. فقد تدهورت علاقتهم مع واشنطن حتى وصلت إلى النقطة التي يصعب عندها التعاون معها حول أي قضية.
يطالب بوتين بانسحاب الناتو من الحدود التي له مع شرق أوروبا وما زال ينشر تسعين ألف جندي يتأهبون في وسط الشتاء لغزو أوكرانيا. أما زي فهو عازم على استعادة تايوان وضمها إلى بلاده. وكما تجلى بوضوح من محادثات فيينا، يحظى الوفد الإيراني بدعم القوتين العظميين. وبذلك تصبح النزاعات الثلاثة مترابطة بشكل علني.
سوف يتوجه الرئيس رئيسي إلى موسكو الشهر المقبل بينما سيسافر وزير خارجيته إلى الصين. من شأن ذلك على الأقل أن يفتح الباب أمام إمكانية أن أي هجوم على إيران قد يتم الرد عليه – بطريقة ما – من قبل روسيا والصين معاً. وهنا أيضاً، يوجه بايدن تهديدات لبوتين، مثل حرمان روسيا من نظام التحويل المصرفي السريع فيما لو تعرضت أوكرانيا للغزو، الأمر الذي ستكون له تداعيات وآثار عكسية في أوروبا. فكيف ستدفع ألمانيا ثمن الغاز الروسي، على فرض أنهم سيستمرون في تلقيه؟ هل من خلال نقل الحقائب المملوءة بالأوراق النقدية عبر الحدود مع بولندا؟
تكمن الأوراق الحقيقية في يد الزعيم الروسي. فهو والرئيس الصيني لديهما القدرة على تعسير الحياة على صقور الغرب. بدلاً من ترويض روسيا والصين، كل ما تفعله الولايات المتحدة هو الدفع بهما لاحتضان بعضهما البعض، والتاريخ يعلمنا أنهما لم يكونا يوماً حليفين طبيعيين. في عام 2015 كانت الولايات المتحدة هي الزعيم المعترف به للمعسكر الذي فرض التنازلات على إيران، ولكنها لم تعد الآن كذلك.
في تصريح لموقع ميدل إيست آي، قال مصدر إيراني في فيينا: “تكمن المشكلة في أن الأوروبيين والأمريكان يمارسون لعبة الدجاج، ولكن لم تعد بأيديهم أدوات ضغط. لو كانت لديهم عقوبات تفوق “الحد الأقصى من الضغط” لكان ترامب قد لجأ إليها من قبل. لقد باتوا بلا أوراق.”
ثمة حاجة إلى رئيس أمريكي يتمتع بالحكمة والثقة بالنفس حتى يتمكن من تغيير المسار ويتصرف بذكاء مع إيران وروسيا والصين. وبايدن ليس ذلك الرجل. ناهيك عن أن الإدارة الحالية تواجه سلسلة من التحديات المحلية التي لا قبل لها بالتغلب عليها، ليس أقلها احتمال عودة خصمها ترامب في 2024.
وحتى لو قدم الفريق الأمريكي المفاوض في فيينا تنازلات بشأن العقوبات، فثمة شك في أن يوافق الكونغرس على ذلك.
وذلك أن إصرار الإيرانيين على الضمانات وعلى التحقق أمر حقيقي ليس مجرد كلام. ما لم تحدث معجزة في فيينا، فلن تتمكن الولايات المتحدة من قبول الحد الأدنى من المتطلبات الإيرانية، وسوف تقرر إيران ما إذا كانت ستتعايش مع العواقب. ونتيجة لذلك، سوف تتعرض خطة العمل الشاملة المشتركة، التي استغرق التوصل إليها خمسة أعوام من المفاوضات، للموت البطيء.
في المحصلة النهائية، كل ما يطالب به فريق رئيسي هو نفسه أصلاً الذي وافقت عليه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. إذا ما فشلت فيينا وماتت خطة العمل الشاملة المشتركة، فلن يكون لا روحاني ولا رئيسي هو من قتل الصفقة، وإنما يتحمل المسؤولية عن ذلك أوباما وترامب وبايدن، فقد لعب كل منهم دوراً.
المصدر: ميدل إيست آي