مع نهايات كل عام وبدايات عام جديد، يبدأ سيل الكتابات التقييمية لما مضى والاستشرافية لما هو قادم بالتدفُّق، وبالنسبة إلى الخليج العربي، فإن الأنظار ما زالت إلى الآن مسلَّطة عليه، وذلك لأهميته الجيوسياسية، إلى جانب استمرار النفط المستخرَج خليجيًّا، كمحرِّك رئيسي للاقتصاد العالمي، رغم محاولات تجاوزه.
منذ عام 2014 تقريبًا ومنطقة الخليج عامةً تعاني من تحديات اقتصادية واضحة، بسبب تراجُع أسعار النفط العالمية، وهو ما يعني، تلقائيًّا، تراجُع المداخيل لهذه الدول، في ظلّ استمرار الاعتماد على العائدات النفطية كمورد رئيسي للإنفاق العام في الموازنات الوطنية.
زاد من حدّة ذلك المؤثر الخارجي على منطقة الخليج، التصدُّعات الداخلية في البيت الخليجي، بدايةً من شنّ الحرب على اليمن عام 2015، وهو ما يعني أيضًا، تلقائيًّا، زيادة في الإنفاق العسكري ومستويات التوتر وعدم الاستقرار وانخفاض الاستثمارات الأجنبية، مرورًا بالصراع الخليجي الخليجي، المعروف بحصار قطر يونيو/ حزيران 2017.
وفي عام 2020، تأثر الاقتصاد العالمي برمّته، بما في ذلك الخليجي، في استجابة دفاعية لمحاولات التوفيق بين الحفاظ على حياة البشر من تداعيات وباء فيروس كورونا المستجدّ، وضرورة تدبير حاجات المواطنين، في الوقت نفسه، من أمور المعاش الأساسية، في ظلّ الإغلاق الجزئي في أفضل الأحوال، ما أدّى إلى تعطُّل الأنشطة الاقتصادية الأساسية: الإنتاج والسفر والطلب على النفط.
ولكن يبدو، وفقًا للتحليلات المستقبلية على المدى القريب، أن الأوضاع العامة في منطقة الخليج، في العام الحالي 2022، ستكون أفضل نسبيًّا، فيما يخصُّ الخطوط العامة للسياسة والاقتصاد، وذلك بالمقارنة مع الفترة الماضية، وفي ضوء تغيُّر الأجندات الخليجية بشكل ملحوظ، كما سنستعرض ذلك.
السعودية: فائض متوقَّع لأول مرة منذ أعوام
تقول التقارير الرسمية الصادرة عن الدولة السعودية إن الميزانية العامة للبلاد لعام 2022 تنتظر تحقيق فائض لأول مرة منذ عام 2014، وذلك رغم التوقعات السلبية التي أصدرتها المؤسسات نفسها قبل عدة أشهر من الآن.
العامل المرجِّح فيما يبدو، إلى جانب ترقُّب استمرار تحسُّن أسعار النفط إلى ما فوق الـ 70 دولارًا للبرميل الواحد، هو اتجاه الرياض إلى تخفيض الإنفاق العسكري بشكل ملحوظ، بحيث يصل إلى 171 مليار ريال في ميزانية العام الحالي، مقارنة بـ 190 مليار ريال عام 2021، وأكثر من 200 مليار ريال عام 2020؛ في محاولة لاحتواء مغامرة اليمن غير المحسوبة.
تتضمّن تلك الموازنة إنفاقًا بقيمة تصل إلى 955 مليار ريال سعودي، وعائدات منتظَرة بنحو 1.045 تريليون ريال، ما يعني تحقيق فائض منتظَر يصلُ إلى 90 مليار ريال (24 مليار دولار) بقيمة 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي مقابل سلسلة من خطوات تخفيض الإنفاق الحكومي المتواصل خلال الأعوام الماضية، ورفع الإيرادات الضريبية؛ فإن الرياض تواصلُ أيضًا هذا العام الاستثمار في الأنشطة الكبرى ذات الصبغة الليبرالية، التي تتواءم مع تطلُّعات الحكّام الجدد، بما في ذلك الإنفاق على المهرجانات الثقافية والفعاليات الدولية.
فإلى جانب مهرجان “رالي داكار” الجاري الآن، ومسابقات “فورمولا وان” المنتظرة، فإن مسؤولي الدولة السعودية يرتّبون حدثًا مهمًّا في فبراير/ شباط القادم، وهو مؤتمر LEAP الرقمي، الذي يعدّ له لأن يكون حدثًا عالميًّا مضغوطًا ومكثّفًا من زاوية القدرة على استيعاب أكبر قدر من الشركات المرموقة في مجال الابتكار والحلول، في ظرف زمني قصير لا يتجاوز 72 ساعة، خلال أول قمة من هذا النوع.
تستعين السعودية في هذا المحفل برياضيين عالميين أيضًا، ضمن معادلة توظيف المالي والرياضي من أجل خدمة السياسي، مثل لويس فيغو وروبرتو كارلوس، ومن المتوقع أن تشارك 700 شركة رقمية كبرى في هذا الحدث، على رأسها كاسبر سكاي وهيونداي ومايكروسوفت وسيسكو.
ومن الواضح أن السعودية تسعى بطرق شتّى منذ صعود الملك سلمان ونجله محمد إلى الحكم عام 2015، بعد وفاة الملك عبد الله، إلى إعادة صياغة الصورة الذهنية عن البلاد، بما يتواءم مع المعايير الغربية، من خلال الاهتمام المكثّف بالمشاريع الطاقوية النظيفة (الهيدروجين الأخضر مثلًا)، وتأسيس مدن التقنية، والانفتاح الجيوسياسي على “إسرائيل”، وكذلك الاهتمام بالأجندة الثقافية كتعزيز وضع المرأة وتقييد المتديّنين.
الإمارات: تموضُع سياسي جديد
رغم تعرُّض قطاعاتها الاقتصادية المربوطة بتقلُّبات السوق العالمي، في النفط والسياحة والعقارات، إلى ضربات شديدة خلال العامَين الماضيَين، في ظلّ تداعيات الجائحة البيولوجية، إلا أن أبوظبي، في الوقت نفسه، كانت الأسرع في التعافي، أو محاولات التظاهر بالتعافي، في الفترة الأخيرة، وهو ما ظهر خلال “أكسبو دبي” قبل أشهر.
سياسيًّا، كيّفتِ الإمارات نفسها مع وضع جديد في المنطقة، تصبح خلاله أكثر “براغماتية” وأقل اشتباكًا مع جيرانها في الإقليم، وذلك في تحول ملحوظ عن سياسة التصعيد التي اتّبعتها في بقاع واسعة خلال الأعوام السابقة، من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر، ومن البيت الخليجي إلى الاحتكاك مع طهران على أكثر من مستوى.
بدا هذا التكيُّف منذ مطلع العام الماضي، حينما وافقت على طيّ صفحة الحصار الخليجي بقمة العلا يناير/ كانون الثاني 2021، مرورًا بمدّ جسور التقارب مع كلّ من دمشق وأنقرة وطهران بزيارات رفيعة متزامنة نهاية العام الماضي، وهو ما ينبئ بوضوح عن تموضع سياسي جديد من قبل أبوظبي.
إلى جانب التغييرات الثقافية لمنظومة التشريع والقانون في البلاد، بحيث تصبح أكثر انسجامًا مع المعايير الغربية مؤخرًا، على غرار تغيير الإجازات والتساهُل مع العلاقات خارج الزواج وتعزيز وضع المرأة، فإن مراكز الأبحاث المقرَّبة من أبوظبي تقول إن عام 2022 سيشهد جهودًا حثيثة لاستغلال الوجود الدبلوماسي في مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان والإنتربول من أجل تحسين الصورة الذهنية السلبية عن البلاد، وبالأخصّ في الملف الحقوقي والسياسي.
كما تحضّر السلطات الإماراتية، بالتزامن والتوازي مع نظيرتها في مصر، لاجتذاب الاهتمام العالمي، خلال قمّتَي غلاسكو للمناخ المقرر انعقادهما في شرم الشيخ وأبوظبي، في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الحالي والقادم على التوالي، في ظلّ اهتمام عالمي كبير بقضية المناخ وآثارها على مستقبل الحياة، وهو ما تفضّل الإمارات تسويق نفسها من خلاله إلى الخارج، كدولة تتبنّى القضايا العالمية والإنسانية.
قطر: في انتظار الحدث الأهم
بالنظر إلى كون كرة القدم هي الرياضة الأكثر شعبية على مستوى العالم، واستضافة قطر الحدث الأبرز عالميًّا في هذا المجال لأول مرة في العالم العربي والخليج والشرق الأوسط، كأس العالم 2022، فإن كل الأنظار، رسميًّا وشعبيًّا، ستذهب تلقائيًّا إلى الدوحة نهاية هذا العام لمتابعة تنظيمها لتلك البطولة.
قبل حصولها على هذا الشرف عام 2010، كانت التحديات والعقبات المطروحة أمام الدوحة فيما يخصّ منافستها على الاستضافة، تتعلق بالجغرافيا بشكل رئيسي؛ فجغرافيا الخليج لم تُختبر من قبل قط في تنظيم مثل هذه الأحداث، كما أن قطر دولة: صغيرة مساحةً، وحارّة مناخًا، ومحافِظة إلى حدّ ما ثقافةً، كصدى لتفاعل الجغرافيا مع الثقافة والتاريخ في تحديد هوية البلاد وصورتها الذهنية.
إلا أن السردية القطرية، والتي ضُمنت كأساس لملف المنافسة على الاستضافة، روّجت في هذا التوقيت إلى عزم الدوحة اتخاذ ذلك الحدث بوابة لتغيير تلك الصورة الذهنية عن الدولة وعن المنطقة، بما في ذلك النظر إلى العالم العربي كساحة للاقتتال الدائم عرقيًّا وثقافيًّا كما يظهر في وسائل الإعلام العالمية.
يقول جياني إنفانتينو، رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، إن قطر نجحت مقدمًا في تنظيم البطولة، وذلك بالنظر إلى الإخراج المبهر لكأس العرب الذي ضمَّ 16 منتخبًا وتجهيز الملاعب الثمانية التي ستستضيف البطولة قبل عام كامل من الانطلاق، وهو ما لم يحدث في أي نسخة سابقة.
ولكن مراكز الأبحاث تقول إن قطر ما زال أمامها عمل شاق خلال البطولة، وذلك لضمان التعامل الآمن مع عدد ضخم من العوامل غير المرتبطة بالضرورة بكرة القدم، كالقدرة على استضافة أكثر من نصف مليون زائر خلال شهر واحد، والتعامل مع الاكتظاظ المتوقع في الدوحة، وخروج التنظيم بأفضل صورة ممكنة أمنيًّا، إلى جانب تطويع تلك البنية التحتية الهائلة من طرق وملاعب لخدمة رؤية قطر 2030، أي أن العمل لن ينتهي مع إطلاق صافرة المباراة النهائية.
استقرار سياسي وتحسُّن اقتصادي
في المجمل، تقول التقديرات إنه بجانب الاستقرار المنشود للدول الثلاث الأبرز خليجيًّا (السعودية والإمارات وقطر) في عام 2022، سياسيًّا واقتصاديًّا، خاصة بعد تجاوز الأزمة السياسية، والتفاف العالم حول الأخيرة لإنجاح المونديال العربي الأول، فإن الثلاثي الخليجي الآخر على الأرجح سيشهد استقرارًا ملحوظًا أيضًا.
مرّت كل من الكويت وسلطنة عُمان بعملية انتقال سياسي سلس بشكل ملحوظ، بعد رحيل زعيمَين بارزَين في منطقة الخليج، هما الشيخ صباح الجابر الأحمد والسلطان قابوس، ليحلَّ محلهما الأمير نواف الجابر والسلطان هيثم بن طارق آل سعيد، وهما حاكما دولتَين محوريتَين في حفظ الاستقرار والتوازن السياسي في الخليج.
اقتصاديًّا، ورغم استمرار تلك الدول في تحقيق عجز في موازنات عام 2022، إلا أن ذلك العجز يشهد تقلُّصًا ملحوظًا بالمقارنة مع الأعوام الماضية، وذلك بفضل التوقعات الإيجابية لأسعار النفط وخطط الهيكلة المالية الجديدة في مسقط والكويت، والتي تقوم على خفض الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب العامة.
في هذا السياق، تقول مجلة “فوربس” إن ميزانيات منطقة الخليج مجتمعة ستشهد زيادة إجمالية في الإيرادات بقيمة 12% لتصل إلى 358.15 مليار دولار عام 2022، مقابل إيرادات مجمعة بقيمة 340.8 مليار دولار وفقًا لموازنات العام الماضي، كما يشهد العجز العام تراجعًا لكي يصل إلى 4 مليارات دولار فقط في حالة عُمان خلال موازنة هذا العام، وأقل من 3 مليارات دولار في حالة البحرين.