ترجمة وتحرير: نون بوست
في ظل الاحتجاجات التي هزت كازاخستان هذا الأسبوع – والتي أدت إلى مقتل عدد من المتظاهرين واضطرابات سياسية وسقوط هيبة الديكتاتور السابق نور سلطان نزارباييف – تمر البلاد بفترة انتقالية لم يسبق لها مثيل.
وفيما تستمر الاضطرابات في كازاخستان، تدخلت قوات من منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهو تحالف عسكري تقوده روسيا، من أجل تهدئة الأوضاع في البلاد.
وتكشف هذه الاضطرابات عن عدد من القضايا المهمة التي يتم التغافل عنها، منها حالة الانقسام التي تعاني منها كازاخستان. ومن المتوقع أن تستغل روسيا الوضع الراهن في البلاد كذريعة للاستيلاء على مناطق في شمال كازاخستان، والتي تثير أطماع القوميين الروس، وتطغى عليها النزعة الانفصالية من السكان المنتمين إلى الاثنية الروسية.
على مدى العقد الماضي، لم تخف روسيا هذه الأطماع. ورغم تركيز الكرملين على أوكرانيا -حيث ضمت موسكو شبه جزيرة القرم بشكل غير قانوني واستولت على مساحات شاسعة شرق أوكرانيا- لم يخف القوميون الروس أبدًا رغبتهم في ضم أجزاء واسعة من شمال كازاخستان، مؤكدين أن مسالة الحدود بين روسيا وكازاخستان ينبغي أن تفتح للنقاش مرة أخرى.
تعود أطماع روسيا إلى ما قبل عهد الرئيس الحالي فلاديمير بوتين. مع انهيار الاتحاد السوفياتي في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وبداية تشكل جمهوريات جديدة كدول مستقلة، أدرك الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين أن الحدود الجديدة لا تعكس مصالح روسيا. أصدر مكتبه بيانًا في أواخر سنة 1991 بشأن الحدود الإقليمية. ويوضح المؤرخ سيرجي بلوخي أن البيان سلط الضوء على “مشكلة الحدود التي لم تتم تسويتها”. ووفقًا لما أكده يلتسين آنذاك، فإن روسيا “تحتفظ بالحق في إثارة قضية مراجعة الحدود”.
لم يكن من الصعب التعرف على منظور يلتسين لقضية الحدود. في هذا السياق، يوضح بلوخي أنه مع اندفاع الجمهوريات السوفياتية نحو الاستقلال، “أُصيب يلتسين بالذعر، وهدد أوكرانيا وكازاخستان بمراجعة الحدود والمطالبة بأجزاء من أراضيها إذا أصرت على الاستقلال”. وقد أكد السكرتير الصحفي للرئيس يلتسين آنذاك أن هناك أربع مناطق تتطلع موسكو إلى مراجعتها. أولا، منطقة أبخازيا في جمهورية جورجيا، والتي قامت روسيا بغزوها سنة 2008، ثم منطقتا القرم ودونباس الأوكرانيتان، واللتين سيطرت عليهما سنة 2014. أما الرابعة -وهي الوحيدة التي لم تحتلها روسيا إلى الآن- فهي شمال كازاخستان.
لم يكن يلتسين يخوض تلك المعركة بمفرده. كان أغلبية سكان شمال كازاخستان من أصول روسية، لذلك انضم القوميون الروس إلى يلتسين في المطالبة بضم المنطقة، ناهيك عن شخصيات بارزة مثل الكاتب المنشق ألكسندر سولجينتسين، الذي ادعى أن شمال كازاخستان من حق روسيا. كما تبنى المؤلف والناشط السياسي اليميني المتطرف إدوارد ليمونوف، الذي تم اعتقاله لاحقًا بتهمة إثارة النزعة الانفصالية في المنطقة، الموقف ذاته.
دفعت تلك الأطماع الحكومة الكازاخستانية لإصدار قرار سنة 1997 يقضي بنقل عاصمة البلاد من مدينة ألماتي جنوبي البلاد، إلى أستانا (التي تم تغيير اسمها مؤخرًا إلى نور سلطان)، القريبة من شمال البلاد.
استطلاع للرأي أُجري قبل بضع في بلدة ريدر ذات الأغلبية الروسية، على بعد أميال قليلة من الحدود الروسية، أظهر أن نحو ثلاثة أرباع المشاركين يؤيدون “الانفصال والانضمام إلى روسيا”.
لفترة وجيزة، تراجعت مطالب القوميين الروس في ظل تطور العلاقات الاقتصادية بين القادة كازاخستان وروسيا. في 2014، شنت روسيا حملتها التوسعية على حساب أوكرانيا، واستعادت المناطق التي زعمت أنها تابعة لها تاريخيًا. أثارت تلك الحملة مخاوف لدى القيادة الكازاخستانية، وطلب نزارباييف من الرئيس الصيني شي جين بينغ الحصول على “ضمانات” لأمن كازاخستان، وأصبحت قضية شمال كازاخستان مطروحة مرة أخرى.
أفصح بوتين آنذاك عن رأيه في قضية الحدود مع كازاخستان. بعد وقت قصير من الاستيلاء على القرم سنة 2014، أجرى بوتين مقابلة في منتدى الشباب الروسي، وردا على سؤال إمكانية تكرار السيناريو الأوكراني في كازاخستان بعد رحيل نزارباييف، صرح بوتين قائلا: “الكازاخ لم يكن لديهم أبدا دولة خاصة بهم”.
في خضم التطورات في أوكرانيا، كان من الصعب على كازاخستان أن تتجاهل المخاطر التي تحدق بها. بعد فترة قصيرة، أعلنت الحكومة الكازاخستانية عن خططها للاحتفال بالذكرى السنوية الـ550 لـ”خانات الكازاخ”، معربة عن استيائها من ادعاء بوتين بأنه لم يكن لديهم دولة قبل انهيار الاتحاد السوفياتي.
بعد تصريحات بوتين والتوغل الروسي في أوكرانيا، أصبحت مسألة وحدة أراضي كازاخستان مفتوحة للنقاش. بدأ الروس الذين ولدوا ونشأوا في شمال كازاخستان يصفون بلادهم بأنها “بانتوستان”، ويرون أنها دولة “وهمية” شكّلها السوفيات وليست بلدًا بالمعنى الحقيقي للكلمة. وأكّد لي أحدهم أنه إذا تدهور الوضع، فإنه سيقف إلى جانب موسكو ضد الحكومة الكازاخستانية.
يرجع ذلك أساسا إلى نظرة راديكالية لم تكن ترى أن كازاخستان تستحق الاستقلال والسيادة والمساواة مع الدولة الروسية، وهو الأمر الذي حفّز النزعة التوسعية الجديدة لروسيا، وجعل الكرملين يتبع سياسات أدت إلى تفاقم الصراع العرقي في المنطقة. (ينطبق الأمر ذاته على الطريقة التي يصف بها بوتين أوكرانيا، حيث يدعي أن الدولة الأوكرانية الحديثة هي دولة مصطنعة).
مع قلة البيانات الرسمية والأبحاث بشأن النزعة الانفصالية في المنطقة، لا يزال يتعين علينا الاعتماد على الجهود الذاتية لرصد مدى انتشار هذه النزعة. ومن خلال المعطيات القليلة التي نملكها، لا يمكن أبدا استبعاد انفصال شمال البلاد، خاصة أن الكرملين قد يستغل هذه القضية للتغطية على المشاكل الداخلية في روسيا.
ذكرت جوانا ليليس في كتابها الصادر سنة 2018 عن كازاخستان أنه لا توجد مخاوف جدية من انفصال شمال البلاد ولا من وجود نزعة انفصالية في المنطقة. قال مواطن كازاخستاني في الكتاب: “عندما تحتاج روسيا إلى شن حرب على شمال كازاخستان مثلما فعلت في أوكرانيا، ستقوم بذلك”.
وتؤكد ليليس أن استطلاعًا للرأي أُجري قبل بضع في بلدة ريدر ذات الأغلبية الروسية، على بعد أميال قليلة من الحدود الروسية، أظهر أن نحو ثلاثة أرباع المشاركين يؤيدون “الانفصال والانضمام إلى روسيا”.
كان المشرعون في موسكو سعداء للغاية بهذه النتيجة. في السنوات الأخيرة، أصبح أعضاء مجلس الدوما يصرحون بشكل أكثر وضوحا أن شمال كازاخستان أرض روسية. ويوضح بروس بانييه من إذاعة أوروبا الحرة، أن رئيس لجنة التربية والعلوم في مجلس الدوما قال مؤخرًا إن شمال كازاخستان كان فعليًا منطقة “غير مأهولة” إلى أن استعمرها الروس، وزعم نائب آخر أن كازاخستان كانت ببساطة “تستأجر” الأراضي الروسية.
وكتب أحد القوميين الروسي قبل عام على لافتة فوق بوابة السفارة الكازاخستانية في موسكو: “شمال كازاخستان أرض روسية”.
يبقى السؤال المطروح: هل أصبحت كازاخستان قريبة من أن تشهد نفس السيناريو الأوكراني وتخضع للاحتلال الروسي على أساس المظالم العرقية والنزعة الانفصالية؟ هل تعتزم روسيا احتلال شمال كازاخستان، وهل يتجرأ العالم على فعل أي شيء حيال ذلك؟
من المؤكد أن الإجابة المختصرة على الأسئلة السابقة هي “لا”، على الأقل في المستقبل القريب، وهناك عدد لا يحصى من الأسباب التي تدعم هذه الإجابة. أولاً، هناك فروق واضحة بين اضطرابات كازاخستان سنة 2022 والتحركات الروسية السابقة، سواء في جورجيا سنة 2008 أو أوكرانيا سنة 2014.
في موسكو، أصدرت رئيسة قنوات “آر تي” قائمة مطالب إلى السلطات الكازاخستانية، بما في ذلك الاعتراف بحق روسيا في السيطرة على شبه جزيرة القرم، والإبقاء على اللغة السيريلية، وجعل اللغة الروسية اللغة الثانية في البلاد.
على عكس الحكومتين الجورجية والأوكرانية، أبدت السلطات الكازاخستانية والمتظاهرون على حد سواء القليل من الاهتمام بقطع العلاقات الاقتصادية أو العسكرية مع موسكو.
في الوقت الراهن، تشبه الاضطرابات في كازاخستان الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية في بيلاروسيا سنة 2020: مطالب محلية بحتة معارضة لنظام كليبتوقراطي قضى عقودًا في خنق أي مساع لتحقيق الديمقراطية أو الشفافية أو المعارضة السياسية.
ولا يبدو أن هناك توجها لانسحاب كازاخستان من هيئات مثل منظمة معاهدة الأمن الجماعي أو الاتحاد الاقتصادي الأوروبي الآسيوي. وعلى عكس جورجيا وأوكرانيا، لا تتجه كازاخستان نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو الناتو في أي وقت قريب.
ثانياً، امتنعت الحكومة الكازاخستانية بقيادة الرئيس قاسم جومارت توكاييف، إلى حد كبير عن استخدام القومية الكازاخستانية لدعم نفوذها. كان التركيز واضحا على استمالة كل الأعراق في البلاد، وهو التوجه الذي اعتمده الرئيس السابق نزارباييف (الذي تخلى رسميا عن السلطة في 2019 وبقي يمارس نفوذه بشكل واسع على الحكومة)، واستمر عليه الرئيس الحالي.
اعتمدت الحكومة بشكل تدريجي سياسات تعزز السيادة الكازاخستانية، ومنها الإعلان عن الانتقال من الأبجدية السيريلية إلى الأبجدية اللاتينية، وعدم الإقرار بأحقية موسكو في التوسع على حساب أوكرانيا، إلا أن كل ذلك لم يكن كافيا لإثارة مخاوف موسكو واتخاذ قرار بالاستيلاء على شمال كازاخستان لحماية الأقلية الروسية. ستكون أي أحداث عنف عرقية مبررا كافيا للروس من أجل التدخل، لكن لا شيء يشير حاليا إلى مثل هذا السيناريو.
يبدو أن موسكو تركز على دعم توكاييف وحلفائه لإخماد أي ثورة أو مطالب مؤيدة للديمقراطية
مع ذلك، لا يوجد أي ضمانات على عدم تغير المعطيات على أرض الواقع، خاصة أن قوات حفظ السلام التي تقودها روسيا بدأت تجوب البلاد ضمن جهود منظمة الأمن الجماعي للسيطرة على الأوضاع. بين عشية وضحاها، اضمحلت كل مزاعم السيادة الوطنية، ورحبت الحكومة بدخول قوات أجنبية لدعم النظام. بعد 48 ساعة فقط من بدء الاحتجاجات، دخلت قوات الجيش الروسي إلى كازاخستان.
وفي موسكو، أصدرت رئيسة قنوات “آر تي” مارغريتا سيمونيان على الفور قائمة مطالب إلى السلطات الكازاخستانية، بما في ذلك الاعتراف بحق روسيا في السيطرة على شبه جزيرة القرم، والإبقاء على اللغة السيريلية، وجعل اللغة الروسية اللغة الثانية في البلاد.
على كل حال لا يوجد سبب للاعتقاد بأن موسكو تتبع سياسات منطقية. يبدو أن بوتين الذي يحكم روسيا منذ عقدين، لا ينظر إلى نفسه كرجل دولة، بقدر ما يعتبر أنه شخصية ذات أهمية تاريخية يرتبط مصيرها بإعادة روسيا إلى مكانتها الدولية، وهو ما يتضح من خلال ما فعله في أوكرانيا باستعادة جزء من أراضي روسيا السابقة. يتبنى بوتين نظرية المؤامرة، ويروج إلى أن روسيا لا تزال تتعرض للدسائس من جميع الجهات.
لن تؤدي الاحتجاجات في كازاخستان إلا إلى تأكيد مخاوف بوتين بأن موسكو تقف بمفردها في مواجهة الجميع. وإذا كان التفويض الذي منحه بوتين لنفسه يتضمن استعادة كل الأراضي الروسية، فإن شمال كازاخستان سيصبح بالتأكيد أقرب إلى الحظيرة الروسية مما كان عليه منذ عقود. تتجلى هذه الحقيقة بشكل أكبر في الوقت الذي يبحث فيه الكرملين عن تنفيذ خطط لدعم نفوذه المحلي المتضائل، بما في ذلك إمكانية غزو أوكرانيا، الجارة التي تتضمن بدورها مناطق يزعم القوميون الروس أنها ملك لروسيا.
في الوقت الحالي، يبدو أن موسكو تركز على دعم توكاييف وحلفائه لإخماد أي ثورة أو مطالب مؤيدة للديمقراطية. لكن بالنظر إلى التطورات المفاجئة خلال الأيام الأخيرة، فإن الاحتمالات التي لم تُؤخذ سابقا على محمل الجد، أصبحت الآن أقرب إلى أن تتحول إلى واقع ملموس. أصبح استقرار كازاخستان مهددا بالنظر إلى سرعة انهيار إرث نزارباييف، وارتفاع عدد الضحايا، وسرعة تدخل القوات الروسية.
المصدر: مجلة فورين بوليسي