سيظل الجهاديون المتمردون الهاجس الأكبر لهيئة تحرير الشام في إدلب، فرغم نجاحها المفترض في القضاء على شوكتهم وإنهاء نفوذهم وانتشارهم الجغرافي ككتل وجماعات عبر الحملات العسكرية والأمنية التي نفذتها ضدهم خلال عامي 2020 و2021، ما زالوا يؤرقون سلطتها ويفسدون عليها دعايتها المتصاعدة وترويجها للنجاحات المزعومة في الإدارتين العسكرية والمدنية بإدلب، وذلك بعد أن تحولت ساحة الصراع بينهم وبين تحرير الشام من الميدان إلى شبكات التواصل الاجتماعي.
التشويش على تحرير الشام
يبدو أنه ما زال في إمكان الجهاديين المناهضين لهيئة تحرير الشام التشويش عليها فيما يخص تحولاتها البراغماتية الهادفة إلى الظهور كجماعة حركية مختلفة تكون مقبولة داخليًا وخارجيًا، وهو ما سيمهد افتراضًا لبقاء أطول ويضمن لها اشتراكها في سلطة ما مستقبلًا، هذا على الأقل ما تطمح له تحرير الشام ويلخص أهداف جهودها المتصاعدة في هذا الاتجاه.
ففي الوقت الذي كان زعيم تحرير الشام أبو محمد الجولاني ومعه رئيس حكومة الإنقاذ علي كدة يفتتحان الطريق السريع حلب-باب الهوى الذي يصل مناطق شمالي إدلب وغربي حلب بالمعبر الحدودي مع تركيا، في 7 يناير/كانون الثاني الحاليّ، كان هناك جهاديون ينبشون في انتهاكات تحرير الشام في ملف السجون والمعتقلات السرية، ويتحدثون بالتفصيل عن أساليب التعذيب وسياسة قتل وترهيب المعتقلين، ويهاجمون بشراسة كل ما تروج له تحرير الشام وحكومتها على أنه إنجاز في مختلف قطاعات العمل المدنية والعسكرية في إدلب.
قال الجولاني في تصريح له خلال فعالية افتتاح الطريق السريع: “نبارك لأهلنا في المناطق المحررة هذا الإنجاز الذي تحقق بهمة المؤسسات والعاملين فيها، وكل مهتم بالثورة السورية لا بد من أن يفتخر بهذا الإنجاز، فالقوى العسكرية عنصر أساسي في بناء المناطق المحررة، ولولا حمايتهم لما استطعنا بناء لبنة واحدة، لذلك يتوجب علينا جميعًا خدمة المجاهدين والثوار حتى نتمكن من بناء قوي”.
وأضاف “تعرضت الثورة السورية في بدايتها لانفصام عن عجلة التطور وبفضل الكوادر في المحرر والحفاظ عليهم استدركنا ذلك وعادت عجلة التطور للدوران، يجب القضاء على الجهل والفقر وهذه المشاريع ستوفر يدًا عاملةً وستوفر للعمال نيل قوتهم بعرق جبينهم، ففي إدلب وخلال مدة قصيرة جدًا لا تتجاوز السنتين، استطعنا بناء اللبنات الأولى في التقدم والتطور بثروات قليلة وإمكانات ضئيلة”.
قال المنشق عن تحرير الشام أبو يحيى الشامي تعليقًا على الظهور الأخير لأبو محمد الجولاني في أثناء تدشين الطريق السريع، في “تليغرام”: “أحمد الشرع قديمًا كان يفخر بالعصائب الحمراء، وحديثًا بات يفخر بالستائر الحمراء، هذه المنجزات المدنية في منطقة ثورية مؤداها استقرار جبان مملوك، ثم مشاركة في دولة مختلطة برعاية دولية قذرة، فما ترون عكس ما جرى في الباغوز، وإن ما جرى هناك أيضًا نتيجة لعبة دولية، ألا يحضركم إلا مثال الغلو القاتل والتنازل السافل، هذه بلية عظيمة”.
جيش إلكتروني
الجهاديون الكارهون لتحرير الشام والمتضررون من حملاتها الأمنية والعسكرية خلال العامين الماضيين، وهم منشقون سابقون وفلول وأتباع تنظيم “حراس الدين” وعناصر ومريدي التنظيمات الجهادية الأصغر التي قضي عليها، شكلوا مؤخرًا ما يشبه الجيش الإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تترصد وتتابع عن قرب عثرات عدوهم اللدود، وفساد منظومته وأخطاؤها في القطاع الديني، وقطاعات الأمن والتربية والتعليم والأمن والاقتصاد وغيرها.
قال الباحث في مركز الحوار السوري محمد سالم لموقع “نون بوست” إن: “المواجهة بين تحرير الشام والجهاديين المناوئين لها في إدلب انتقلت من الواقع الميداني إلى الافتراضي، والثاني لا يقل خطورة عن الأول بالنسبة لتحرير الشام التي بات يعنيها كثيرًا ما يقال عنها في الأوساط الشعبية الداخلية وفي الخارج”.
أضاف سالم: “تؤثر مثل هذه الحملات والدعاية السلبية على الصورة الذهنية عن تحرير الشام لدى الجمهور المؤيد للحركات الجهادية، وهو ما يقوض شرعيتها لدى شرائح السلفيين الجهاديين، لكنه في ذات الوقت، لم يعد يؤثر كثيرًا على تماسكها ووجودها على اعتبار أنها لم تعد تعتمد على تأييد هذه الشرائح إلا بدرجة قليلة جدًا، واستعاضت عنها بالعناصر المحليين الذين اشتركت مصالحهم في النفوذ والحكم مع مصالح تحرير الشام”.
يمكن القول إن الحملات والمادة الهجومية التي يقدمها الجهاديون عبر منصات التواصل الاجتماعي ضد تحرير الشام لم تعد تؤثر كثيرًا في الأوساط الشعبية المحلية في حين ما زال لها التأثير السابق في الأوساط السلفية والجهادية وتقلل من رصيد تحرير الشام لدى هذه الأوساط التي بدت قلقة جدًا من التحولات البراغماتية المتسارعة.
حملة سجون تحرير الشام
آخر الحملات الإعلامية للجهاديين المناهضين لتحرير الشام في إدلب ركزت على ما يجري في سجونها ومعتقلاتها، وقاد الحملة أحد القادة السابقين في تحرير الشام، ويدعى أبو العلاء الشامي، الذي انشق عنها عام 2020، ويبدو أنه عاين وعايش عن قرب ما يحصل في سجون ومعتقلات تحرير الشام المنتشرة في عدة مناطق بريف إدلب.
شاركت في الحملة أسماء معروفة في أوساط المنشقين والوجوه البارزة التي كانت في صفوف تحرير الشام سابقًا، بالإضافة لأسماء وقنوات بأسماء وهمية في موقع “تليغرام”، ومن أهم الأسماء التي شاركت ودعمت الحملة، أبو يحيى الشامي وعصام الخطيب، ونقل الأخير في “تليغرام” رسالة عن سجون تحرير الشام، قائلًا: “سجون الجولاني تصل الهدايا والأخبار للحرامية والحشاشين وعملاء المخابرات، أما المجاهدون وحراس الدين ومن تم اختطافهم من نقاط الرباط لرفضهم خطط التسليم فممنوع عليهم معرفة الأخبار، ممنوع عليهم الزيارات والاتصالات، والطعام رديء وغير نظيف، وتوجد أحجار مع البرغل، وممنوع عليهم رؤية قاضٍ أو تعيين محامٍ أو التواصل مع شهود أو معارف، ممنوع عليهم معرفة التهم والحكم إن كانت هناك أحكام، وفي الشتاء لا يرون الشمس إلا لمدة ساعتين كل عشرة أيام، وأحيانًا أقل، ويمنعون من العلاج والرعاية الطبية والتدفئة ويتم تقنين الماء عليهم”.
يتحدث أبو العلاء الشامي في سلسلة طويلة تشرح حال السجون والمعتقلات السرية التابعة لتحرير الشام في إدلب عن 14 نوعًا من أساليب التعذيب المتبعة داخلها، التي تطبق بشكل خاص وأكثر كثافة ووحشية ضد الجهاديين التابعين للتنظيمات الملاحقة، وبحسب شهادة الشامي، يحرم المعتقلون من المتنفس ويحشرون في زنزانات صغيرة، وقد يصل عدد المعتقلين في الزنزانة الواحدة إلى 60، ممنوعون من الحركة وممارسة أي نوع من الرياضات الشخصية.
رغم الشهادات التي تحمل جانبًا إنسانيًا عن سجون ومعتقلات تحرير الشام، فإنها في الأصل تندرج في سياق سباق الهيمنة على المنطقة
وتشمل أساليب التعذيب المتعبة في سجون تحرير الشام بحسب الشامي، التعذيب بالتجويع وتقليل حصص الطعام الذي يكون غالبًا بنوعيات رديئة، والتعذيب بالبرد، والتعذيب بالتابوت الذي يعد أحد أشهر أساليب التعذيب لدى تحرير الشام، يصفه الشامي في “تليغرام”: “التعذيب بالتابوت، هو أفظع وأشنع وأبشع أسلوب تعذيب عرفته البشرية، لا يستخدمه إلا مجرم منسلخ من الإنسانية ولم يستخدمه الدواعش ولا الصهاينة ولا النصيرية، ولم يخطر في بال النازية ولا الفاشية ولا الشيوعية، ولم يُعْرَف استخدام له من قبل”.
ومن بين الأساليب التقليدية التي يتبعها المحققون في سجون تحرير الشام، بساط الريح والفلقة والركل والضرب الشديد على المناطق الحساسة في جسم المعتقل، وأسلوب العقرب وقلع الأظافر وتكسير الأصابع والأطراف، والكرسي الكهربائي والدولاب والشبح وغيرها.
قال الباحث السوري محمد السكري لموقع “نون بوست”: “رغم الشهادات التي تحمل جانبًا إنسانيًا عن سجون ومعتقلات تحرير الشام، فإنها في الأصل تندرج في سياق سباق الهيمنة على المنطقة، بعدما فرضت هيئة تحرير الشام نفسها كطرف مهيمن على مدينة إدلب، وبات من الواضح أن الكثير من أصحاب الفكر الجهادي يشكلون عائقًا أمام تحرير الشام في خضم التحولات الفكرية التي طرأت”.
ويضيف السكري:”في الأصل كانت منهجية الاعتقال والتعذيب تسري وتنطبق على أصحاب الفكر المدني والوطني في سوريا، لكن مع تبدل خط وفكر الهيئة السياسي تغيرت الفئة المستهدفة، عمليًا تحرير الشام لا تختلف كثيرًا عن سلطات الأمر الواقع في السلوك والممارسات وهي تحرص على إقناع الأطراف بأنها تغيرت وأصبحت ترعى مصالح دول إقليمية وعظمى في هذه المنطقة ولو كان ذلك على حساب رفقاء سابقين لها، ومسألة أساليب التعذيب ووحشيتها واردة جدًا، وربما يحصل أفظع من المتداول بكثير”.
تابع السكري “مع ذلك تبقى الحملات المتبادلة نتاج صراع نفوذ بين أطراف راديكالية تتسابق على الهيمنة في إطار مشاريع متضاربة سياسيًا متشابهة في المنهج والممارسات، كما تعكس هذه الشهادات حالة الاضطراب وعدم الاستقرار داخل هيئة تحرير الشام لا سيما أنها تأتي على لسان عناصرها سابقًا، في ظل أزمة الهوية التي تعاني منها، فهناك عدم رضى مستمر من سياسات التبدل والتحرر الفكري على حساب خط القاعدي المتين والصلب وهذا ما دفع لفضح جرائم كانت وما زالت تمارس في سجونها”.
برغم تفكيك تحرير الشام معظم التنظيمات والجماعات الجهادية المناهضة لها في إدلب مثل “حراس الدين”، و”جنود الشام”، و”جند الله”، و”أنصار الإسلام” وغيرها، وإضعاف أخرى ومطاردة عناصرها وقادتها والتضييق عليهم، فإنهم ما زالوا يؤرقونها ولا يمكن التخلص من عبئهم الثقيل في الوقت الحاليّ، حتى أولئك المعتقلين في سجونها، أمثال أبو عبد الرحمن المكي وقادة كثر من “حراس الدين” على وجه الخصوص الذي يمثل تنظيم القاعدة في سوريا، وذلك لعدة اعتبارات، أهمها، خشية تحرير الشام من نقمة الجهاديين الأجانب والتيار المتشدد في صفوفها، إذ إن زيادة الضغط وتصفية الشخصيات الجهادية البارزة دون مبررات شرعية قد تؤدي إلى انشقاقات كبيرة، فهي ما زالت تسوق لنفسها بأنها حامية للمهاجرين الأجانب والعرب في إدلب، وأنها لن تتخلى عنهم، وبأنهم شركاؤها في مشروع تحرير الشام.