ترجمة وتحرير: نون بوست
إذا كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في كثير من الأحيان يبدو واثقًا من إعادة انتخابه خلال شهر نيسان/ أبريل 2022، فذلك لأنه نجح في استخدام جائحة كوفيد-19 لتصوير نفسه على أنه قائد يُوجّه أمته خلال الأزمة نحو بر الأمان. لكن شخصية ماكرون الحالية التي ظهرت استجابةً لكوفيد-19 في الغالب لا تشبه ما كان عليه عند انتخابه في سنة 2017.
في الوقت الراهن، يبدو أن المصرفي السابق في بنك روتشيلد ووزير الاقتصاد في عهد الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند قد نسي تعهداته السابقة المثيرة للجدل بشأن إعادة تشكيل سوق العمل ونظام المعاشات التقاعدية والجهاز الإداري في فرنسا. لقد عمد ماكرون إلى تعليق العمل على الموازنة العامة والإصلاحات النيوليبرالية التي كانت سمة مميزة لهويته السياسية. وهو الآن يؤكد بشكل أكبر على الحاجة إلى وضع سياسة صناعية جديدة حتى لا تعتمد الإمدادات الطبية الأساسية في فرنسا على سلاسل التوريد الممتدة حول العالم.
لم تكن جائحة كوفيد-19 التهديد المحلي الوحيد الذي أعاد تشكيل معالم فترة رئاسة ماكرون. منذ مقتل المُدرّس صمويل باتي في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، اتخذ ماكرون موقفًا أكثر تشددًا تجاه الشبكات الإسلامية المتطرفة – وهو ما عسكته تصريحاته وقرارته. خلال مناظرة مع السياسية الفرنسية مارين لوبان أجريت خلال شهر شباط/ فبراير، صدم وزير الداخلية جيرالد دارمانين الرأي العام عندما اتهم رئيسة حزب التجمع الوطني بعدم التفطن للتهديد الذي يشكله التطرف الإسلامي.
بعد انتخاب ماكرون في سنة 2017 وانبعاثه كطائر العنقاء من رماد الحزب الاشتراكي باعتباره ليبراليًا اقتصاديًا مبتكرًا أكثر وسطية، سمح ماكرون في الوقت الحالي لوزرائه بدعم الأفكار اليمينية للوبان. كسبب ونتيجة لعملية إعادة توجيه سياساته، تحولت قاعدته الانتخابية نحو الناخبين المحافظين، وهو ما يعني تقلص قاعدة التصويت للمرشح الاشتراكي السابق المتحرر (الذي كان عليه ماكرون) مقارنة بمرشح اليمين الوسط الكلاسيكي (ماكرون الحالي).
قد يتساءل بعض المعلقين عن نقاط التشابه بين ماكرون الحالي – المدافع القوي عن الأمة الذي يميل إلى اليمين ويستهزئ بالتفكير الاقتصادي لليبرالية الجديدة – وماكرون الرئيس المنتخب حديثًا في سنة 2017 الذي أشادت به الصحافة الناطقة بالإنجليزية بوصفه منقذ الليبرالية من موجة الشعبوية التي تجتاح العالم الغربي. هل يمكن تسمية هذه التحولات الاستراتيجية بـ “الماكرونية”؟
منذ بداية حملته الرئاسية الأولى، كان ماكرون سياسيًا قادرًا على إحداث تغييرات في الاستراتيجية الخطابية. لكنه استخدم هذه الاستراتيجية على الدوام في خدمة رؤية سياسية تتميز بشكل خاص بقوة الخطاب. بناءً على علاقته (التي غالبًا ما يُساء فهمها) مع معلمه الفكري الفيلسوف بول ريكور، وسلفه رئيس الوزراء من اليسار الوسطي ميشيل روكار، طوّر ماكرون فهمًا للسياسة جعل الدولة – في عهده – تضطلع بدور تفسيري وذلك من خلال تقديم تفسيرات للمواطنين الفرنسيين ليستوعبوا بعض الحقائق الثابتة بشأن العولمة الاقتصادية. ومن المحتمل أن الماكرونية الموروثة من ريكور وروكار لا تواجه الآن تحدي الحملة الانتخابية القادمة فحسب، بل أزمةً لا يمكن معالجتها من خلال هذه الوسائل الخطابية.
يتطلب استيعاب فلسفة ماكرون السياسية فهم علاقته بريكور، أحد أشهر الفلاسفة المعاصرين في فرنسا الذي توفي في سنة 2005. عمل ماكرون في شبابه لمدة سنتين مساعدًا تحريريًا لريكور الذي كان يؤلف كتابه الرئيسي الأخير بعنوان “الذاكرة، التاريخ، النسيان”. منذ ذلك الحين، استشهد ماكرون بريكور باعتباره مؤثرا نقديًا على فكره السياسي، وهو ادعاء تكرر في الصحافة الدولية وتطرق له العديد من الصحفيين والفلاسفة في مجموعة متنوعة من الكتب والمقالات. في المقابل، عارض باحثون آخرون مزاعم تأثير ريكور على ماكرون مدعين أن معظم هذه الأعمال هي في الأساس إسنادات سطحية للمثقفين المؤيدين لماكرون.
بعيدًا عن الجدل الإعلامي، لا يمكن نفي وجود روابط حقيقية بين تفكير ريكور وبعض العناصر التي تميز سياسة ماكرون التي لا يمكن تفسيرها. فعلى سبيل المثال، دافع ماكرون عن مفهوم الأيديولوجيا، وهو موقف قد يبدو غريبًا بالنسبة لسياسي وسطي يسعى للقطع مع تقاليد كل من اليمين واليسار. كان من الممكن لماكرون أن يقدم نفسه للجمهور الفرنسي كخبير ينتمي لعصر ما بعد الأيديولوجيا، أي باعتباره سياسيا يملك تفكيرا عمليا في الشؤون المالية. حسب ما صرح به في مقابلة أجراها سنة 2015، فإن ماكرون شخص “يؤمن بالأيديولوجيا السياسية” “التي تلقي بظلالها على الواقع وتكسبه معنى”.
كان اعتراف ماكرون بفضل ريكور عليه لفهمه للأيديولوجيا منطقيا ومبررا. في سلسلة محاضرات ألقاها سنة 1975، نُشرت في سنة 1986 تحت عنوان محاضرات حول الأيديولوجيا واليوتوبيا، قدم ريكور دفاعًا نقديًا عن الأيديولوجيا التي صورها على أنها عملية جماعية لصنع المعنى تحافظ على المجتمعات. وجادل بأن “ما هو مفيد في الأيديولوجيا” هو قدرتها على تعزيز تماسك المجموعة الإنسانية من خلال تحقيق فهم مشترك للعالم. بشكل حاسم، لا تعتبر الأيديولوجيا بالنسبة لريكور وماكرون مخططًا عقلانيًا ينبغي تطبيقه ولا وهمًا ينبغي التغلب عليه، بل ظاهرة تفسيرية تضفي إحساسًا إضافيًا بالمعنى على النظام الاجتماعي.
يُسند ريكور وماكرون دورًا مشابهًا لمفهوم المصالحة السياسية، الذي يعتبرانه وسيلة لتذكر الماضي معًا من خلال التشريعات الرسمية لإحياء الذكرى وسن إجراءات العفو، من أجل تحقيق التماسك المدني.
زوّد ريكور ماكرون بالمفاهيم الأساسية للسياسة القائمة على البحث عن المعنى والمصالحة وأنواع أخرى من الشرعية المكتسبة من فنّ الخطابة
على الرغم من أن كتاب حملة ماكرون لسنة 2017 بعنوان “ثورة” بدا وكأنه يستعرض قائمة من الإصلاحات الاقتصادية النيوليبرالية، إلا أنه في الواقع محاولة للجمع بين برنامجه الاقتصادي وسياسات ريكور المتعلقة بالذاكرة. في عنوان فرعي من الكتاب “مصالحة فرنسا”، تطرق ماكرون إلى طموحاته المستلهمة من العمل الفلسفي الأخير لريكور ألا وهو كتاب “الذاكرة والتاريخ والنسيان”، وهو الكتاب ذاته الذي ساعد ماكرون الشاب في تحريره.
في سنة 2017، حذّر ماكرون من أن فرنسا التي تعاني من انقسامات دينية وطبقية “تواجه خطر اندلاع حرب أهلية” يغذيها الاستياء ممن استفادوا من العولمة الاقتصادية، في حين أن بقية سكان البلاد الذين يعيشون في غيتوات المهاجرين والضواحي والأطراف الريفية يعانون منذ الثمانينيات من البطالة المزمنة. في مواجهة هذا الخطر، دعا ماكرون إلى اتباع ثلاثة أنواع من الاستراتيجيات: اقتصادية وأمنية ورمزية. كما طالب ماكرون بانفتاح أكبر على الأسواق ووضع أنظمة عمل مرنة لخلق فرص العمل و”إعادة السيطرة” على الأحياء التي تهيمن عليها الشبكات الإسلامية المتطرفة وإعادة التأكيد على قيم الجمهورية الفرنسية التي تقتضي الاعتراف “بما لم يكن جديرًا بالثناء” في تاريخ فرنسا، على غرار العبودية والاستعمار وتورّطها في “الهولوكوست”.
هذه الرغبة في “المصالحة” من خلال العودة إلى الذاكرة السياسية، دفعت ماكرون خلال حملته الرئاسية في سنة 2017 إلى تقديم اعتذار للشعب الجزائري عن ويلات الاستعمار فيما وصفه “جريمة ضد الإنسانية”، ولمعارضي زواج المثليين الذين قال ماكرون إنهم تعرضوا “للإذلال”. (لكن ماكرون مؤخرًا أظهر جزءًا آخر من مسرحيته الخطابية من خلال الادعاء بأن الجزائر أصبحت أمة بفضل الاستعمار الفرنسي). أثارت هذه المناشدات الموجهة لليسار واليمين جدلاً كبيرا، لكنها عكست فهمًا للسياسة بوصفها عملية تمهيد للتفسيرات المختلفة للماضي من خلال الاعتراف بالمظالم وإثارة الاستياء في الخطاب العام – وهي رؤية تدين بالكثير لكتاب ريكور “الذاكرة والتاريخ والنسيان”.
مثّل هذا الكتاب تتويجًا نظريًا للنقاشات الدائرة حول الذاكرة السياسية في فرنسا، حيث سعت مجموعات مثل الأقدام السوداء للمستوطنين الأوروبيين في الجزائر وأعضاء الشتات الأفريقي إلى وضع رواياتها المتنافسة عن الصدمات التاريخية في الكتب المدرسية والنصب التذكارية العامة، مشكلة بذلك الإحياء الرسمي لذكرى الهولوكوست. في كتاب “الذاكرة والتاريخ والنسيان”، تصور ريكور فنّ الحكم من منظور رمزي: كمسألة من شأنها إدارة عملية إحياء ذكرى مظالم الماضي، والتوفيق بين الروايات التاريخية المتنافسة، وتحقيق المصالحة الوطنية من خلال نوع من المعالجة الجماعية الوطنية تكون تحت إشراف الدولة.
زوّد ريكور ماكرون بالمفاهيم الأساسية للسياسة القائمة على البحث عن المعنى والمصالحة وأنواع أخرى من الشرعية المكتسبة من فنّ الخطابة. لم يكن تأثير ريكور على ماكرون إلى حد كبير مباشرًا، وإنما تعلق بمشاركته في تحوّل الحركة الاشتراكية الفرنسية – التي كان هو وماكرون ينتميان إليها وتركاها – خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين.
يجسد ريكور التحول الذي شهده اليسار الفرنسي بعد الحرب والذي جعل صعود ماكرون ممكنًا. قبل سنة 1945، كان الشاب ريكور اشتراكيًا بروتستانتيًا غير محصن من الإغراءات التي تقدمها الأحزاب السلطوية والتي تقتضي الإعجاب المشروط بالنظام النازي في ألمانيا ودعم حكومة فيشي في فرنسا. بعد الحرب، اندمجت سياسته مع الاشتراكية المسيحية الديمقراطية والليبرالية الراسخة في الفلسفة الشخصية لعالم اللاهوت الفرنسي إيمانويل مونييه.
خلال عقود ما بعد الحرب، كان طموح ريكور السياسي يتمثل في مواءمة مفهومه عن الإنسانية المسيحية، التي ترتكز على ضمان كرامة الفرد، مع الاقتصاد الماركسي والأنظمة الاشتراكية. قصد ريكور نظام جمهورية الصين الشعبية، الذي أثنى عليه بحذر في سلسلة من المقالات تعود لسنة 1956، بعد زيارة أداها للبلاد في السنة السابقة. لكنه أوضح أن الصينيين لا يتمتعون بالحريات السياسية الأساسية، وهو موضوع ناقشه في مقال يحلل “مفارقة السياسات”. وجادل ريكور بأن الدولة كان من المفترض أن تحرر الأفراد من الاضطهاد والعوز، وبما أنها اكتسبت الوسائل اللازمة للقيام بذلك، فإنها قد تشكل خطرًا عليهم.
يبدو جليّا أن ماكرون يحاول تطبيق أفكاره الاستبدادية من خلال الإجراءات الصارمة في مجال الصحة العامة وتدابير مكافحة الإرهاب، أكثر مما يعمل على تنفيذ الإصلاحات النيوليبرالية
فرضت السيطرة الاشتراكية على الاقتصادات الحديثة – التي رأى ريكور أنها تعتبر تطورا إيجابيًا – مخاطر جديدة على حرية الإنسان. لكن ريكور دعا إلى تنظيم الحياة السياسية من خلال فصل السلطات والتبادل العام الحر للأفكار وتحكم المواطنين ديمقراطيًا في الدولة. كما دافع عن الليبرالية السياسية كوسيلة لردع استبداد الاشتراكية المحتمل، حتى عندما احتفى بانتصارها الواضح على الليبرالية الاقتصادية.
يبدو ريكور الذي ربط بين حقوق الإنسان والاقتصاد الاشتراكي، على النقيض تماما من ماكرون الذي أراد تطبيق الليبرالية الاقتصادية بوسائل غير ليبرالية، سواء عندما كان وزيرا للمالية في عهد هولاند، أو بعد أن تولى الرئاسة.
ويعدّ موقف ماكرون المتشدد والعنيف من حركة السترات الصفراء التي خرجت للشارع احتجاجا على الزيادات المقترحة في ضريبة الوقود، بالنسبة للكثير من اليساريين الفرنسيين نوعا من الليبرالية الاقتصادية الاستبدادية.
يبدو جليّا أن ماكرون يحاول تطبيق أفكاره الاستبدادية من خلال الإجراءات الصارمة في مجال الصحة العامة وتدابير مكافحة الإرهاب (وهي إجراءات يشجبها اليمين المتطرف والصحافة الانجلوفونية التقدمية)، أكثر مما يعمل على تنفيذ الإصلاحات النيوليبرالية، وبالتالي فإن رؤيته تختلف تماما عن ريكور لدولة تحكم الاقتصاد، ويحكمها المواطنون.
مع ذلك، شهد فكر ريكور السياسي تحول تدريجيا لافتا بعد انتفاضة الطلاب في أيار/ مايو 1968. كان ريكور من دعاة إصلاح التعليم الجامعي، وتم تعيينه عميدا لجامعة باريس نانتير، التي كان يُعتقد أنها البؤرة المركزية للراديكالية الطلابية.
تميزت فترة إشرافه القصيرة على الجامعة بحادثة مهينة تناولتها وسائل الإعلام على نطاق واسع، حيث أفرغ عدد من الطلاب سلة قمامة فوق رأسه. قبل الحادثة بوقت قصير، كان ريكور قد بدأ بكتابة مقال بعنوان “الإصلاح والثورة في الجامعة” يحتفي بسياسات الصين في فترة ماو تسي تونغ، قائلا: “لقد دخل الغرب الآن ثورة ثقافية… مقتبسة من ثورة الصين”. لكن احتفاءه بالصين لم يمنع من أن يُعامل بأسلوب يشبه ما يقوم به الحرس الأحمر الصيني.
في مقابلة له سنة 2015 اعترف ماكرون أن ريكور هو قدوته، وقال إنه الفلسفة التي تبناها ريكور في آخر حياته، كما عرفها ماكرون في نهاية القرن العشرين، كانت بالأساس ردا على أطروحات “تفكيك السلطة”، ومن بينها تفكيك سلطته كعميد للجامعة على يد الطلبة الراديكاليين سنة 1968.
أدت محاولة ريكور لإيجاد مسار جديد إلى خروجه نهائياً من الماركسية (حتى الماركسية التي توصف بأنها ليبرالية وإنسانية ومسيحية). بعد استقالته من منصبه في نانتير، انسحب ريكور أيضًا من الحياة السياسية، وتولى مناصب أكاديمية في بلجيكا، ثم في جامعة شيكاغو التي سمحت له بالابتعاد عن فرنسا. وعندما عاد إلى الحياة السياسية في الثمانينيات، كان يحمل معه أفكارا جديدة مستمدة من البيئة الأمريكية: أساسا من جون رولز ومايكل والزر وهانا أرندت. أما ماركس وماو فلم يعد لهما وجود في فلسفته.
خلال السبعينيات، أصبح ريكور أيضًا أكثر تقبلا لليبرالية الاقتصادية، من منطلق شعوره بأن التاريخ أثبت أنه لا يمكن مقاومتها، أو ربما على أساس أن تطبيق الاشتراكية ينطوي على مخاطر لا يمكن احتوائها بالليبرالية السياسية وحدها.
ورغم أن ريكور أصر على أن التفكير الطوباوي مهم للغاية في مجال السياسة، فإن تركيزه على تحديد ملامح المستقبل، سواء أكان طوبويا أم لا، تحول إلى محاولات لفهم الماضي. أصبح ريكور أكثر اهتماما بسياسة الذاكرة الجماعية، مؤكدا أن مجال العمل الذي يجب أن تركز عليه الدولة، ليس المجال الاقتصادي، إنما المجال الرمزي. لم تعد الدولة من وجهة نظره قادرة على التحكم بالاقتصاد، ويجب عليها في المقابل أن تركز على صياغة المفاهيم الكبرى.
بالنسبة لريكور والحياة السياسية الفرنسية على نطاق أوسع، كان هذا التحول في الآفاق لا يغيب عن مسيرة روكار السياسية. منذ سنة 1960 إلى غاية 1974، كان روكار، خارج سياق الأحزاب الرئيسية، من أنصار ما أسماه هو وحلفاؤه “اليسار الثاني”. في تحرّك معارض لاندماج الماركسية واليعقوبية التي هيمنت لفترة طويلة على الاشتراكية الفرنسية، قام روكار وحلفاؤه بتجميع مجموعة من الأيديولوجيات المتجانسة نظرًا لتوافقها مع الليبرالية الاقتصادية.
ركّزت مساهمات روكار في اليسار الثاني على الجهوية (في كتابه الصادر سنة 1966 بعنوان “إنهاء استعمار المقاطعات”) والإدارة الذاتية للعمال، المستوحاة في الأصل من النموذج اليوغوسلافي، ولكنها تحوّلت بشكل متزايد على مدار السبعينيات إلى خطاب يصوّر العمال على أنهم رجال أعمال.
بعد سنة 1974، انضم روكار إلى الحزب الاشتراكي ساعيًا إلى تغييره من الداخل، وعلى امتداد عقد من الزمن بدا أنه يخوض صراعا خاسرًا. لقد تصوّر أعضاء الحزب من أتباع الأرثوذكسي الماركسي، الذين يأملون الاستيلاء على السلطة الوطنية، برنامجًا لتمكين الدولة من السيطرة على الاقتصاد الفرنسي.
أدان جان بيير شيفينمون، وهو أحد المدافعين الرئيسيين عن هذه الفكرة، روكار لما اعتبره نوعًا من “كراهية الدولة”. وحذر من أنه من خلال تعزيز نفوذ المناطق الجهوية على حساب الحكومة المركزية والسعي إلى تحقيق الاستقلال الذاتي للعمال في مواقع عملهم المحددة بدلا من الالتزام بقوتهم الجماعية التي تُمَارس من خلال النقابات الوطنية، يخاطر روكار بحرمان أي حكومة اشتراكية مستقبلية من الأدوات اللازمة للسيطرة على الاقتصاد.
انحاز رئيس فرنسوا ميتران إلى صف شيفينمون، وهاجم روكار لأنه رآه وسطيًا يمكن أن يدمّر فكره الاستراتيجية الانتخابية للاشتراكيين التي تقوم على التحالف مع الشيوعيين الذين ما زالوا أقوياء. تمكّن ميتران من هزيمة روكار الذي نافسه على رئاسة الحزب، وقد تمحورت حملته التي مكنته من الفوز برئاسة فرنسا في سنة 1981 حول مواضيع اشتراكية كلاسيكية، مع تأثير ضئيل من اليسار الثاني. كان برنامج التأميم الطموح لميتران يهدف إلى وضع الصناعة والبنوك في فرنسا في خدمة الدولة للحد من البطالة وتحقيق الديمقراطية الاجتماعية في نهاية المطاف.
لم يكن السياق العالمي لمثل هذه الاستراتيجية مواتيًا، فعندما بدأت حكومة الحزب الاشتراكي المنتخبة حديثًا برامج التأميم، دعت الحكومات في جميع أنحاء الغرب بقيادة رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك مارغريت تاتشر، ورئيس الولايات المتحدة آنذاك رونالد ريغان، إلى التركيز على الإصلاحات النيوليبرالية لتقليص الدور الاقتصادي للدولة استجابةً لصدمات قطاع النفط والنمو البطيء والتضخم في السبعينيات. مع ذلك، واصل ميتران تحدي هذا الإجماع الأيديولوجي الجديد، والحفاظ بشكل غير متسق على ميزان مدفوعات فرنسا المعتدل وحسن نية البنوك الأوروبية ومعدل تضخم معقول، التي كانت كلها مهددة من قبل الإجراءات التي تتخذها حكومته.
من وجهة نظر إيجابية، لوحظ التشابه بين روكار وماكرون من قبل الصحفيين وعضو سابق واحد على الأقل في حكومة روكار.
بحلول سنة 1983، عكس ميتران مساره بـ “تغيير نحو الصرامة”، حيث بدأ سلسلة من عمليات إلغاء التأميم والحد من الإنفاق الحكومي وقبول ارتفاع معدلات البطالة والخضوع لحسن نية دائني فرنسا مقابل الوفاء بالالتزامات المالية.
أدرك الاشتراكيون، المحرومون من أي أجندة اقتصادية وطنية أكبر، أن بإمكانهم تمييز أنفسهم عن اليمين من خلال استغلال بعض المواضيع مثل الجهوية. ويبدو أن روكار قد أصبح لا غنى عنه، حيث ارتقى إلى منصب رئيس الوزراء، الذي شغله ما بين 1988 و1991، مما أثار استياء ميتران. كان من أوائل قرارات روكار في السلطة معارضة موجة من الإضرابات في القطاع العام، وهي خطوة تبعها بجهود متكررة لإقناع اليسار والجمهور الفرنسي الأوسع، على حد تعبيره في سنة 1990، بأنه لا يمكن توقع أي شيء أكثر راديكالية من طرف الاشتراكيين من “رأسمالية معتدلة”.
مثل ماكرون الذي جاء بعده، برز روكار في أوج مسيرته على أنه سياسي وسطي يجمع بين الليبرالية الاقتصادية والتفكير الراديكالي المزعوم الذي طمس الحدود بين اليمين واليسار. وقد استشهد ماكرون بروكار بقدر ما وصف ريكور بأنه شخصية رئيسية في تطوره السياسي. وصف ماكرون نفسه بأنه وريث روكار خلال حملته الرئاسية لسنة 2017 وكتب مقدمة للإشادة بسيرة روكار.
من وجهة نظر إيجابية، لوحظ التشابه بين روكار وماكرون من قبل الصحفيين وعضو سابق واحد على الأقل في حكومة روكار. من وجهة نظر يسارية، وفي سياق نقدي، يصف الباحثان برونو أمابل وستيفانو بالومباريني في كتابهما بعنوان “النيوليبرالي الأخير: ماكرون وأصل الأزمة السياسية الفرنسية” روكار بأنه أحد أهم أسلاف نهج ماكرون السياسي. ويتردد صدى هذا التحليل في اليمين المتطرف من قبل إريك زمور، الذي يدير الآن حملة مستقلة للترشّح للرئاسة.
مع أن المقارنات بين ماكرون وروكار شائعة في التعليقات السياسية الفرنسية مثل المزاعم المتعلقة بديون ماكرون لريكور، إلا أن هذين الخطين من الفكر نادرًا ما يتقاطعان. يمكن النظر إلى حملة ماكرون لسنة 2017 على أنها اندماج لفكر معلميْه الإثنين، فقد استعار أفقها الاقتصادي من روكار ومفرداتها الفلسفية من ريكور. وقد سبق لريكور وروكار تأليف عمل مشترك بعنوان “الفيلسوف والسياسي” عندما كان روكار رئيس وزراء. وعلى الرغم من أن هذا الكتاب لم يكتمل أبدًا، إلا أن ثمار تعاونهما ظهرت في حوار دار بين الاثنين نُشر في سنة 1991.
كان الهدف الواضح للمحادثة كيفية مقاومة ما أسماه روكار “توسيع منطق السوق ليشمل جميع مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية”. وعلى الرغم من أن هذا المبدأ قد يبدو مثل الاشتراكية التقليدية، إلا أنه كان مبنيًا على الاعتقاد بأن انتصار الليبرالية في المجال الاقتصادي كان غير قابل للهزيمة. لم تكن مهمة السياسة السيطرة على الاقتصاد وإنما حماية مجالات معينة مثل التعليم والرعاية الصحية من المنطق المهيمن للسلع والمنافسة.
أصر ريكور على أنه لا يمكن إنجاز هذه المهمة من خلال التركيز على الثقافة السياسية الفرنسية “القديمة” القائمة على “الصراع” (مثل الصراع الطبقي)، بل من خلال حشد التقاليد التاريخية التي تحمل قيمًا مخالفة لقيم السوق الرأسمالي. كان ريكور يأمل من خلال الاعتماد على “تنوع تراثنا الثقافي” أن يعيد إحياء “القناعات” الأخلاقية القادرة على وضع حدود لليبرالية الاقتصادية.
بدت الليبرالية الجديدة منتصرة في فترة من الزمن، ويمكن أن يُنسب الفضل في ذلك إلى ريكور لتمسكه بشظايا معينة من الحكمة السياسية التحذيرية من اليسار واليمين التقليديين. كان لديه وعي بالقدرة الإبداعية والإيجابية لعمل الدولة على تشكيل فهم المواطنين لأنفسهم، وهو الشعور بأن الثقافة هي في نهاية المطاف جزء من السياسة.
تحاول فلسفة ريكور السياسية إضفاء الشرعية الأخلاقية والثقافية على الرأسمالية المعاصرة بينما تقترح، من خلال مفاهيم القناعة والمصالحة والأيديولوجيا، الحفاظ على الحد الأدنى من الشعور بالتماسك الاجتماعي والقيم غير السوقية.
يعد تركيز ريكور على الذاكرة والهوية وتفسيرات التاريخ بمثابة مشاركة في تحول الحياة السياسية الغربية من الأسئلة المادية والجوهرية إلى “الحروب الثقافية”، إلا أنه ركز في الواقع على دور الدولة بدلا من وضع آماله – كما فعل العديد من المفكرين في تلك الحقبة – على مفهوم غامض وغير سياسي للمجتمع المدني، كما كان يتطلع إلى بناء إجماع وطني جديد أكثر شمولا بدلا من تأجيج الصراعات الجدلية.
أثبت فهم ريكور للسياسة أنه مفيد ليس فقط لتبرير دور الدولة الفرنسية كفضاء للتفاوض حول الروايات، ولكن أيضا لاجتثاث سردية الدولة القومية من قبل الاتحاد الأوروبي. من خلال هذا الفكر الناضج، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يظهر كمحرك لليبرالية الاقتصادية وكنوع جديد من المؤسسات السياسية التي تحافظ على التراث الحضاري المتنوع لأوروبا وتبلوره. لطالما جذبت أمثال هذه الرؤية التيار السياسي الفرنسي السائد، الذي سعى منذ فترة رئاسة ميتران حتى فترة رئاسة ماكرون إلى تعميق نفوذ فرنسا في الاتحاد الأوروبي ومنح هذه الكتلة هالة من الشرعية الأخلاقية.
تحاول فلسفة ريكور السياسية إضفاء الشرعية الأخلاقية والثقافية على الرأسمالية المعاصرة بينما تقترح، من خلال مفاهيم القناعة والمصالحة والأيديولوجيا، الحفاظ على الحد الأدنى من الشعور بالتماسك الاجتماعي والقيم غير السوقية. في عهد روكار كرئيس للوزراء وأثناء حملة ماكرون الرئاسية لسنة 2017، حظيت هذه الفلسفة بدعم شخصيات رمزية أعطتها رونقا جديدا من خلال تجاوز وجهات النظر العالمية التي عفا عليها الزمن والتي قسمت السياسة الغربية بين اليمين واليسار. وعلى الأغلب، تمثل حملة ماكرون لإعادة انتخابه ذروة هذه الفلسفة ونهايتها في آن واحد.
في كتابه بعنوان “ثورة”، تخيل ماكرون بمصطلحات مستعارة عن كل من ريكور وروكار دولة تظهر إلى حد كبير على أنها مسؤولة عن تفسيرات الحياة العامة. في مجال السوق، كان على الدولة أن تحاول إبراز نفسها بشكل متزايد على أنها مرنة وتتغاضى عن “القواعد الصارمة” التي تنظم أحكام العمل والرفاهية، وأنها تعمل على تكييف “نموذجنا الاجتماعي غير الفعال” مع متطلبات العولمة الرأسمالية.
من خلال قبولها لهذه المتطلبات، أثبتت الدولة في المقابل أنها “غير مرنة” أمام أعداء قيمها (أي المتطرفين الإسلاميين)، وأنها قادرة على طمأنة المواطنين بأنها ما زالت تُحكم سيطرتها على أراضيها. لن تثبت الدولة صحة ذلك من خلال فرض سيطرتها مرة أخرى على الاقتصاد (حيث أدى إلغاء القيود إلى إضعاف هذه السيطرة)، بل من خلال شرح سياساتها الاقتصادية والأمنية بلغة مطمئنة: “لأن شرح ذلك هو ما يسمح للمجتمع بقبولها”.
ترتكز السياسة، في السياق الذي صاغه ريكور وروكار وعكسه ماكرون في حملته الرئاسية لسنة 2017، على صياغة خطاب لتوضيح وإضفاء شرعية وإرساء حدود مؤقتة لوضع الدولة المتمثل في التبعية التي لا يمكن التغلب عليها لسوق العولمة، وذلك من خلال تقديم التفسيرات وتغذية القناعات وإيجاد أرضية للمصالحة والتعريف بالأيديولوجيا. وفي السنة الماضية، بينما أعطت أزمة كوفيد-19 دلالات ورؤية جديدة لعمل الدولة، كانت الأيديولوجيا التي قامت عليها حملة ماكرون في سنة 2017 مهددة بالانهيار. بدت السياسة الفرنسية مضطرة لتجاوز سياسة التهدئة العلاجية والتأويلية للقلق العام للتركيز على استخدام سلطة الدولة لترويض عالم غير مؤكد.
من غير المحتمل أن يلعب ريكور في هذا السياق أي دور إرشادي لماكرون. في مقال صدر سنة 1988، برر ريكور رأيه المتمثّل في أن الدولة القومية غير قادرة الآن على توفير ما يتجاوز تخفيف الوضع إلى حد ما وتوليد مقاومة رمزية لمطالب رأس المال العالمي، وجادل بأن العالم المعاصر كان في أزمة من نوع جديد وهي ليست أزمة سياسية بل أزمة سياسة، أي أزمة في تسيير العمل السياسي.
إيماءات ماكرون الاستبدادية، التي غالبًا ما يُنظر إليها على أنها مناشدة واعية للنموذج التاريخي للرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول، إلى جانب خطاب حكومته العنيف ضد التطرف الإسلامي، تتوافق مع التكرار المحافظ لفلسفة ريكور السياسية
قال ريكور إن الأزمة الاقتصادية التي أعقبت الصدمات النفطية في السبعينيات كانت أكثر خطورة بكثير من أزمة الثلاثينيات. وعلى الرغم من أن مواجهة أزمة الثلاثينات كانت ممكنة بتدخل الدولة من خلال اتباع سياسات رفاهية موسعة واعتماد النظرية الكنزية (أو المشاريع الشمولية للدول النازية و السوفيتية)، فإن أزمة السبعينيات – التي أصر ريكور على أنها لم تنته بعد – قد دعت إلى التشكيك في السيادة التي تحظى بها الدولة على الاقتصاد.
ربما يبدو تحليل ريكور مبررًا في ظلّ انتهاء “الاشتراكية الحقيقية”. لقد كانت بالتأكيد صورة ملائمة لإبراز إمكانيات العمل السياسي الذي قدّمه هذا المفكر الذي وجد، في أعقاب إذلاله سنة 1968، حجة تاريخية لمعارضة أي راديكالية مستقبلية – إلى جانب الطبقات الاجتماعية التي استفادت بشكل متفاوت ولا تزال تستفيد من تحول الدولة الفرنسية إلى الليبرالية الاقتصادية. ولكن نظرًا لأن فرنسا والعالم محاصران بأزمة لا يبدو أنها تتطلب أي تحرك من طرف الدولة، فإن فلسفته السياسية في حد ذاتها تبدو وكأنها في أزمة.
تمثل استجابة ماكرون لأزمة كوفيد-19 مجرد تعليق مؤقت لبرنامج الإصلاح النيوليبرالي الذي روّج له في سنة 2017، لكنها ليس دليلا على وجود قطيعة واضحة مع الخط الفلسفي والسياسي الذي ورثه عن ريكور وروكار، أي إمكانية عزل مجالات معينة من المجتمع عن الضرورات الرأسمالية والتحولات غير المتوقعة في الخطاب السياسي.
إن إيماءات ماكرون الاستبدادية، التي غالبًا ما يُنظر إليها على أنها مناشدة واعية للنموذج التاريخي للرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول، إلى جانب خطاب حكومته العنيف ضد التطرف الإسلامي والأفكار المتقاطعة المستوردة من الولايات المتحدة، تتوافق مع التكرار المحافظ لفلسفة ريكور السياسية. وهي فلسفة تجادل بأن الدفاع عن التقاليد الغربية هو مصدر قناعات فرنسا وذكرياتها.
تتطلّب القطيعة الحقيقية مع فكر ريكور وروكار وماكرون التزامًا بنظرة عامة تتفهم دور الدولة بشروط تتجاوز إعادة التفاوض على تفسيرات المواطنين لتاريخهم وهوياتهم الحالية من خلال الحملات التربوية والعلاجية التي تنظمها الدولة. وبدلًا من ذلك، ينبغي أن تمنح السياسة المواطنين القدرة على تغيير ظروفهم المادية من خلال العمل الجماعي.
المجلة: فورين بوليسي