ترجمة وتحرير: نون بوست
إن مشاركة مدينة نفطية متداعية في غرب كازاخستان في مسيرة احتجاجية يوم الأحد الماضي لم يكن بالأمر المفاجئ بعد مرور 10 سنوات على مقتل أكثر من عشرة عمال على يد قوات الأمن خلال إضراب نُفذ على تدني الأجور والظروف السيئة.
لكن ما هو غير مفهوم هو الانتشار المفاجئ للاحتجاجات السلمية على ارتفاع أسعار الوقود في نهاية الأسبوع الماضي من جاناوزن – وهي مستوطنة تعود إلى الحقبة السوفيتية بالقرب من بحر قزوين – لأكثر من ألف ميل على طول أكبر دولة في آسيا الوسطى لتتحول أكبر مدن كازاخستان وأكثرها ازدهارا إلى ساحة حرب تنتشر في شوارعها الجثث والمباني والسيارات المحترقة.
لقد صدمت أعمال العنف التي جدّت هذا الأسبوع في ألماتي، وهي العاصمة السابقة لكازاخستان ومركزها التجاري والثقافي، الجميع تقريبا. ولم تمثّل صدمة لزعيمها فقط المحصّن من قبل القوات الروسية الذي أمر قوات الأمن يوم الجمعة بـ “إطلاق النار دون سابق إنذار” لاستعادة السيطرة على النظام، وإنما أيضا لمنتقدي الحكومة الذين لطالما عارضوا القمع والفساد المستشري في الدولة الغنية بالنفط.
تزامنت هذه الأزمة مع صراع على السلطة داخل الحكومة أدى إلى تزايد الإشاعات التي تفيد بأن الناس الذين يتقاتلون في الشوارع هم وكلاء لعشائر متناحرة من النخبة السياسية. وكانت هناك تكهنات محمومة حول تدخل الكرملين إلى جانب مجموعة من الأسباب الغامضة المحتملة الأخرى. والشيء الوحيد الواضح هو أن الاضطرابات في البلاد تنطوي على أكثر من مجرد صِدام مباشر بين المتظاهرين الذين يعربون عن سخطهم والجهاز الأمني الصارم للنظام الاستبدادي.
في ظل عزل كازاخستان الآن إلى حد كبير عن العالم الخارجي، حيث أُغلقت المطارات الرئيسية أو أصبحت تحت سيطرة القوات الروسية بينما تظلّ خدمات الإنترنت وخطوط الهاتف معطلة في الغالب، أصبحت المعلومات المتاحة نادرة.
عند مواجهة الاحتجاجات، عادة ما يلقي القادة الديكتاتوريون في جميع أنحاء العالم باللوم على أطراف خارجية، وهذا ما فعله الرئيس قاسم جومارت توكاييف الذي انتقد يوم الجمعة الليبراليين والمدافعين عن حقوق الإنسان معربًا عن أسفه لأن السلطات كانت متساهلة للغاية.
لم يصدّق الكثير من الناس هذا الكلام، لا سيما أنها رسالة مؤيّدة من طرف روسيا التي أرسلت يوم الخميس قوات لمساعدة الرئيس توكاييف على استعادة السيطرة على الوضع ولديها أيضًا سجل حافل بمحاولات تبرير مشاعر الاستياء داخل البلاد وعلى الأراضي السوفيتية السابقة الأخرى على أنها من صنع مثيري الشغب الليبراليين الساخطين.
تشير أدلة متزايدة إلى أن الفوضى في ألماتي، وهي بؤرة الاضطرابات التي جدت هذا الأسبوع، أكثر من مجرد تناحر على السلطة. لعل ذلك ما لمّح إليه الرئيس توكاييف في خطابه إلى الأمة يوم الجمعة، إذ ادعى أن هذا العنف تسبب فيه قرابة 20 ألف “لصّ” ممن قال إنهم من تنظيم “مركز قيادة واحد”. وأضاف أن الدعوات لإجراء مفاوضات مع مثل هؤلاء الأشخاص “هراء” لأنه “يجب القضاء عليهم وسيتم ذلك بالفعل”.
حسب تكهنات دانيل كيسلوف، الخبير الروسي في آسيا الوسطى الذي يدير بوابة “فرغانة” الإخبارية التي تركز على أخبار المنطقة، فإن الفوضى كانت نتيجة “صراع يائس على السلطة” بين الفصائل السياسية المتناحرة، أي الأشخاص الموالين للرئيس توكاييف (68 عاما) وأولئك الداعمين لسلفه نور سلطان نزارباييف (81 عامًا).
في ذروة الاضطرابات التي حدثت يوم الأربعاء، أعلن الرئيس توليه رئاسة مجلس الأمن، وهو منصب كان يشغله حتى ذلك الحين نزارباييف الذي تنحى عن رئاسة البلاد في سنة 2019 لكنه احتفظ بنفوذ واسع ومُنح اللقب الشرفي “زعيم الأمة”. كما أقال الرئيس توكاييف، ابن شقيق نزارباييف، سامات أبيش، من منصب نائب رئيس جهاز الأمن الرئيسي وطَرَدَ العديد من المقربين من الرئيس السابق.
أشار كيسلوف إلى أن أعمال الشغب التي تحدث في ألماتي تبدو وكأنها من فعل أفراد عشيرة نزاربييف السياسية في محاولة لتدارك خسارتهم. وأضاف: “لقد تمّ تنظيم كل هذا بشكل مصطنع من قبل أشخاص ذوي نفوذ فعلي”، موضحا أن ابن شقيق نزارباييف المخلوع قد لعب دورا رئيسيا على ما يبدو في تنظيم الاضطرابات.
وفقا لجاليم أجيليولوف، الناشط في مجال حقوق الإنسان في ألماتي الذي شارك في المظاهرة السلمية يوم الأربعاء، فإن “ضباط الشرطة الذين كانوا يراقبون الاحتجاج اختفوا فجأة في وقت الغداء”. ثم “جاء هذا الحشد” الجامح الذي بدا من فيه أكثر شبها بالمجرمين بدلا من الأشخاص الذين عادة ما كانوا يتظاهرون في كازاخستان – الطلاب والمعارضين والساخطين من الطبقة المتوسطة.
قال جاليم إن العصابة كانت “منظمة بشكل واضح من قبل مجموعة من اللصوص”، الذين تقدموا نحو الشوارع الرئيسية باتجاه مركز المدينة أكيمات، وأضرموا النيران في السيارات واقتحموا المكاتب الحكومية.
كان أرمان دزوماجيلدييف المعروف باسم “أرمان المتوحش” – أحد أقوى رجال العصابات في البلاد – من بين الذين دفعوا بالحشد لفعل ذلك، حيث قال شهود إنه حرّض على أعمال العنف. وقد ألقى خطابات محمومة في ساحة ألماتي المركزية في الوقت الذي كانت النيران تلتهم المباني الحكومية من خلفه، داعيًا الناس إلى الضغط على الحكومة لتقديم تنازلات. وقد استهزأ بمختار أبليازوف من خلال مناداته بـ “الجبان”، وهو رجل أعمال يعيش في المنفى ويعد عدوا لدودا لرئيس كازاخستان السابق نزارباييف منذ فترة طويلة.
يوم الجمعة، قالت وزارة الداخلية إن وحدة القوات الخاصة التابعة لها ألقت القبض على دزوماجيلدييف مع خمسة من شركائه مؤكدة أنه كان زعيم عصابة إجرامية منظمة.
في نفس اليوم، أخبر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الصحفيين في واشنطن بأن الولايات المتحدة لا تزال لديها تساؤلات بشأن طلب توكاييف للمزيد من التعزيزات العسكرية من التحالف الذي تقوده روسيا. وحيال هذا الشأن، قال: “إننا نحاول معرفة سبب شعورهم بالحاجة إلى أي مساعدة خارجية، لذلك نحاول فهم المزيد بشأن الوضع”. وأضاف بلينكن أن “أحد الدروس المستقاة من التاريخ الحديث هي أنه من الصعب إخراج الروس من أرضك بمجرد دخولهم إليها”.
في وقت لاحق من يوم الجمعة، أعلنت وزارة الخارجية أنها سمحت للموظفين غير الأساسيين في قنصليتها العامة في ألماتي بالمغادرة عن طواعية، مشيرة إلى احتمال اندلاع أعمال عنف مفاجئة.
إن احتمال تحول صراع محتمل على السلطة بهذه السرعة إلى حالة من الفوضى في الشوارع هو مقياس لمدى الهشاشة التي تخفيها كازاخستان خلف واجهة مدنها الثرية والعالمية مثل ألماتي.
لا يمكن إنكار حقيقة استياء الناس، حتى لو استغلت النخب السياسية ذلك. وتجدر الإشارة إلى أن نظام هذا البلد أقل قمعًا مقارنةً بمعظم أنظمة الدول المجاورة التي يسيطر عليها رجال أقوياء ومتوحشون – فعلى سبيل المثال اُتهم الديكتاتور السابق لأوزبكستان المجاورة إسلام كريموف بغلي منتقديه في أوعية من النفط وقتل مئات المتظاهرين في مدينة أنديجان في سنة 2005.
بصرف النظر عما يتسم به قادتهم من تسامح نسبي، لا يزال العديد من الكازاخستانيين مستائين من النخبة الكليبتوقراطية التي ضخت المليارات لتمويل العديد من المشاريع من بينها بناء عاصمة جديدة سميت نور سلطان تكريما للرئيس السابق، بينما أهملت رفاهية المواطنين العاديين.
تعود جذور هذا الاستياء إلى مناطق مثل جاناوزن، وهي مدينة نفطية تقع غرب البلاد انطلقت منها احتجاجات هذا الأسبوع – حيث أضرمت قوات الأمن في كانون الأول/ ديسمبر 2011 النار في مجموعة من العمال المضربين. على عكس الاحتجاجات الواقعة في ألماتي، كانت الاحتجاجات في جاناوزن وغيرها من المدن الغربية على طول بحر قزوين – مركز صناعة النفط في كازاخستان – سلمية طوال الأسبوع.
يوم الجمعة، صرّح كبير المسؤولين في المنطقة جاناربيك باكتيباييف إنه لم يكن هناك عنف، معربا عن أسفه بشأن “أعمال الشغب والنهب التي نفذتها عناصر إرهابية في بعض مناطق بلادنا”. كما أكد أن جميع الخدمات الأساسية تعمل بشكل طبيعي.
في مكالمة هاتفية، قال مختار أمبيتوف، محامي نقابة العمال المستقلة في أكتاو، التي تقع بجوار جاناوزن، إن الاحتجاجات استمرت دون عنف في غرب البلاد، وأعرب عن غضب العمال العاديين من ارتفاع التضخم وعدم الترفيع في الرواتب. وأضاف أومبيتوف أن “كازاخستان بلد غني بالموارد، لكن هذه الموارد لا تعود بالفائدة على الشعب، بل تصب في مصلحة النخب. إن المجتمع يعاني من الطبقية”.
على إثر الصدمة التي خلفتها أعمال العنف قبل عشر سنوات غرب كازاخستان، التي تعتبرها واشنطن شريكا مستقرا ويمكن الاعتماد عليه، عقد مجلس الشيوخ ومجلس النواب الأمريكي جلسة استماع مشتركة حضرها خبراء البلاد بما في ذلك السفير الأمريكي السابق ويليام بي كورتني.
وصف كورتني إراقة الدماء في كانون الأول/ ديسمبر 2011 بأنها “انحراف عن المسار” ودليلا “على الفجوة الواسعة بين الحكام والمحكومين، وبين الواقع والمتوقع، وبين أولئك الذين يعيشون بأمانة ومن ليسوا كذلك”. وأضاف “لقد عرقلت 20 سنة من الحكم الاستبدادي التطور السياسي لكازاخستان”.
وكان عنوان جلسة الاستماع في الكونغرس الأمريكي: “كازاخستان: هل هي مستقرة كما تدعي حكومتها؟” وهو سؤال أجابت عنه الأحداث التي وقعت الأسبوع الماضي.
المصدر: نيويورك تايمز