“طالما لا يزال هناك بعض المواطنين من الدرجة الأولى والثانية في دول معينة. طالما أن لون بشرة الرجل ليس له أهمية أكثر من لون عينيه. ما دامت حقوق الإنسان الأساسية غير مضمونة بالتساوي للجميع دون تمييز بسبب العرق حتى يومنا هذا، سيبقى حلم السلام الدائم والمواطنة العالمية وقاعدة الأخلاق الدولية مجرد وهم هارب يلاحقه المرء دون أن يصل”.
في 20 يونيو/حزيران 1936، تردد صدى هذه الكلمات بالجمعية العامة لعصبة الأمم في جنيف، اقترب رجل ضئيل في منتصف العمر من شرق إفريقيا ببطء من المنصة، ممسكًا بحزمة كثيفة من الأوراق، كانت خطواته محسوبة، وتحمل الكثير من التحدي، كان هذا الشخص هو إمبراطور إثيوبيا الأخير هيلا سيلاسي (1892-1975).
سافر الإمبراطور هيلا سيلاسي إلى سويسرا لاختبار تضامن عصبة الأمم، بصفته زعيمًا لإحدى الدول الإفريقية القليلة التي لم تخضع للحكم الاستعماري، كان سيلاسي هناك لطلب المساعدة في هزيمة المعتدي الإيطالي العنيف.
عندما تقدم إلى الميكروفون، اندلع اضطراب صاخب في القاعة، فقد أعربت الجهات غير المتعاطفة مع قضيته عن رفضها، لكن سيلاسي لم يتعثر، وألقى خطابًا خلَّده التاريخ والموسيقى أيضًا، لا سيما موسيقى الفنان الجامايكي بوب مارلي وأغنيته الشهيرة “حرب”. قدم تقييمًا مدروسًا ومنطقيًا لسبب اضطرار العصبة إلى الاتحاد ضد موسوليني وأطماعه التوسعية.
في نظر سيلاسي، كانت الدول الأعضاء في العصبة التي يزيد عددها على 50 دولة قد وعدت، قبل ثمانية أشهر من انعقاد الجمعية، بتقديم المساعدة، لكن أحدًا لم يأت لردع المعتدي الإيطالي. سأل جموع الوزراء ورجال الدولة: “ما الجواب الذي سأعود به إلى شعبي؟”، ثم أصدر تصريحًا تقشعر له الأبدان: “نحن اليوم. ستكون أنت غدًا”.
على الرغم من أن إثيوبيا كانت عضوًا في العصبة منذ عام 1923، فإن سيلاسي تلقى تصفيقًا متعاطفًا وقليلًا من الأشياء الأخرى التي لم توقف زحف الديكتاتور الإيطالي بينيتو موسوليني، وبدلاً من ذلك، قررت العصبة بالفعل رفع العقوبات المفروضة على إيطاليا.
لكن بينما فشل في حشد العالم الغربي ضد موسوليني، فإن ظهور سيلاسي في جنيف جعله معروفًا في جميع أنحاء العالم، فحصل على لقب رجل العام لمجلة “تايم”، وأصبح أحد أكثر القادة الأفارقة شهرةً في القرن العشرين، ورجلًا لا يزال يحظى بالاحترام، بل ومعبودًا في أجزاء معينة من العالم اليوم.
رحلة الصعود إلى العرش
هو ملك الملوك، والأسد القاهر من سبط يهوذا، ووريث سلالة السليمانية التي تعود إلى النبي سليمان وملكة سبأ “ماكدة أو ماجدة” التي تُسمّى عربيًا بـ”بلقيس”، وتُنسب إلى اليمن، هو أيضًا المختار من الله، نور العالم والنجاشي الأخير، والإمبراطور الـ225 في سلالة تمتد إلى ثلاثة آلاف سنة.
هذه بعض الألقاب التي أضفاها سيلاسي على ذاته الإمبراطورية، (إمبراطور الحبشة) إثيوبيا لاحقًا، الأخير، الذي حكم البلاد لـ44 عامًا، واُعتبر من أكثر الشخصيات الإفريقية تأثيرًا في القرن العشرين، فقد كان أحد أهم الأصوات المناهضة للاستعمار والمطالبة بالتحرر، لا سيما في وجه الأطماع الإيطالية.
وُلد الإمبراطور الإثيوبي في كوخ من الطين وروث الماشية في مدينة هرر عام 1892، كان اسمه الأول تافاري مكونن ولدميكائيل، وكان أحد أفراد سلالة النبي سليمان، تزوج من ابنة أخت وريث العرش، وبحلول عام 1916 كان قد شق طريقه إلى منصب ولي العهد.
من خلال قدرته على جذب الأوساط التقليدية والحديثة في المجتمع الإثيوبي رفيع المستوى، أصبح سيلاسي وصيًا على الحبشة، ومن ثم وريثًا للعرش عام 1916، وتمكَّن من الحصول على لقب “راس”، وهي كلمة أمهرية تعني بالعربية “نبيل”، ليصبح الراس تافاري مكونن.
عند وفاة الإمبراطورة زوديتو (أول رئيس دولة امرأة من دولة معترف بها دوليًا في إفريقيا، وأول إمبراطورة حاكمة في الإمبراطورية الإثيوبية ربما منذ ماكدة، ملكة سبأ) عام 1930، أصبح تفاري إمبراطورًا بالتواطؤ مع الكنيسة، واتخذ لقبًا دينيًا مؤثرًا “هيلا سيلاسي”، ويعني “قوة الثالوث”، أي قوة الرب.
خلال رحلة صعوده إلى السلطة، أظهر سيلاسي خفة في حركته السياسية خلال تطويق خصومه، فقد كان بلا رحمة والأكثر دنيوية أيضًا، ووصفه أحد الأعداء السياسيين على هذا النحو: “إنه يزحف مثل الفأر، لكن لديه فك أسد”.
بصفته وليًا للعهد، في عام 1923، وقَّع سيلاسي لانضمام إثيوبيا إلى عضوية عصبة الأمم المشكَّلة حديثًا، كان تفكيره وراء القرار واضحًا وعمليًا: “نحن بحاجة إلى التقدم الأوروبي فقط لأننا محاطون به”.
في وجه الاستعمار
في أكتوبر/تشرين الأول 1935، كان سيلاسي صاحب السيادة لمدة نصف عقد عندما شنت إيطاليا غزوها على إثيوبيا كجزء من خطة موسوليني لإنشاء إمبراطورية رومانية حديثة في القرن الإفريقي، ولم يستطع الجيش الإثيوبي الصمود أمام قوة القوات الإيطالية التي طغى عليها استخدام القوة الجوية والأسلحة الكيماوية.
مع اقتراب الإيطاليين من أديس أبابا، أُجبر سيلاسي – الرجل المعروف عند رعاياه بأسد يهوذا – على المنفى، وسافر إلى بريطانيا، وأقام في البداية في لندن وورثينج قبل أن يقضي أربع سنوات في باث جنوب غرب إنجلترا.
بحلول عام 1940، أُحبطت طموحات موسوليني التوسعية في شرق إفريقيا، فعندما هاجم الإيطاليون أرض الصومال البريطاني، دفعهم هجوم مضاد مدمر إلى التراجع، وفي عام 1941، بعد 6 سنوات من الاحتلال الوحشي، هُزم الإيطاليون على يد القوات البريطانية وجنوب إفريقيا.
أصبحت إثيوبيا حينها تحت السيطرة البريطانية، وأذِن رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل لسيلاسي بالعودة إلى عرشه في أديس أبابا، ونُقل الإمبراطور إلى مصر متخفيًا، تحت اسم مستعار “السيد سترونج”.
عاد سيلاسي إلى أديس أبابا في 5 مايو/أيار 1941، بعد 5 سنوات من اليوم الذي دخل فيه الإيطاليون العاصمة، هناك، تلقى برقية من تشرشل: “إنه لمن دواعي سروري البالغ أن الأمة والإمبراطورية البريطانية علمت بوطن ترحيب جلالتك الإمبراطوري. جلالتك كان أول الملوك الشرعيين الذين طردهم المجرمون النازيون الفاشيون من عرشه ووطنه، وأنت أول من عاد منتصرًا”.
ظلت إثيوبيا تحت الإدارة البريطانية لبضعة أشهر، قبل أن تعود سيادتها في يناير/كانون الثاني التالي، وبالعودة إلى العرش، لم يضيع سيلاسي أي وقت في مواصلة مسيرة إثيوبيا – وإن كانت بطيئة – نحو الحداثة.
المسيح الأسود.. كيف صار معبودًا؟
مع غزو بينيتو موسوليني للبلاد عام 1935، نشأت العديد من الأساطير حول سيلاسي، فكان أحد الآثار الجانبية غير المتوقعة لنهب دولة سيلاسي الواقعة جنوب الصحراء من فاشية هو إعطاء زخم وسبب لحركة الراستافارية الوليدة في جامايكا.
أصبح الغزو حدثًا مهيمنًا في الرواية الراستافارية عن استشهاد السود، كان يُنظر إلى سيلاسي على أنه مظهر من مظاهر الإله الواحد الحقيقي، ودرع ضد “بابل” (المجتمع الاستعماري القمعي)، وأنه رسم طريق الحرية للشعوب السوداء.
أخذت الحركة اسمها من لقب سيلاسي قبل عقد كامل من التتويج، فقد أطلق الناشط القومي في حقوق السود في جامايكا، ماركوس غارفي، عام 1920، نبوءة دعا فيها أتباعه إلى التطلع إلى يوم الخلاص عندما يتوَّج ملك أسود لإفريقيا.
لذلك، عندما اعتلى رجل يُدعى راس تفاري ماكونين، العرش الإثيوبي عام 1930، كان بالنسبة للعديد من الجامايكيين المخلِّص الذي تحدث عنه غارفي، أو “المسيح الأسود” كونه الحاكم الإفريقي الوحيد في قارة ترزح كل دولها تحت وطأة الاستعمار، ليصبح بعدها هيلا سيلاسي الإله الحي أو “جاه” (بديل المسيح)، وصارت إثيوبيا للراستافاريين أرض الميعاد.
احتشد الراستافاريون حول الإمبراطور الذي اعتقدوا أنه جاء لتخليص إخوانه الجامايكيين، واستمروا في ملامسة طائرته، وهم يصرخون “الله هنا!”
كان ذلك إيذانًا بمولد ديانة جديدة أخذت اسمها من لقب سيلاسي الذي لم يحاول معارضتها أو الانتماء إليها، وبدلاً من ذلك ظل وفيًا لمسيحيته ونسبه اليهودي، رغم نشأته في بيئة اعتنق أهلها الإسلام في وقت مبكر، لكن يبدو أنه أحب الاهتمام الذي قدمه له هؤلاء الراستافاريون الغريبون، ذوو العيون الجامحة، الخارجون عن القانون والخائفون.
على الرغم من تعرضه لانقلاب فاشل عام 1960 في أثناء وجوده بالبرازيل، واصل سيلاسي زياراته الرسمية، وفي 21 أبريل/نيسان عام 1966، قدَّم أكثر ظهور رمزي له في الخارج – منذ مناشدته لعصبة الأمم قبل 30 عامًا – عندما زار جامايكا.
عندما هبطت طائرته في مطار باليسادوس بمدينة كينغستون، لم يكن سيلاسي مستعدًا لما يحدث خلف الكواليس، فقد اجتمع الراستافاريون – الذين يمكن التعرف عليهم على الفور بسبب ضفائرهم ولحاهم الشعثاء، في تناقض واضح مع الملابس العسكرية الكاملة لسيلاسي – بعشرات الآلاف.
يعيد المؤرخ الألماني الإثيوبي أسفا فوسين أسيرات الذي تربطه علاقة بعيدة بسيلاسي تصوير الزيارة التاريخية إلى العاصمة كينغستون، ويذكر في كتابه أن حشدًا كبيرًا من الراستافاريين اجتاح المطار حتى في أثناء دوران أجنحة الطائرة، وتناثرت لافتات تظهر أسد يهوذا الإثيوبي وسط سحب من دخان الغانيا، كسروا خطوط الشرطة واحتشدوا حول الإمبراطور الذي اعتقدوا أنه جاء لتخليص إخوانه الجامايكيين، واستمروا في ملامسة طائرته، وهم يصرخون “الله هنا!”.
وقف هيلاسي يلوح لآلاف المتشوقين لنظرة ممن يعتبرونه “إلههم”، وكان من بينهم زوجة بوب مارلي الذي انضم معها إلى الراستافاريين، واستمر تأثير زيارة الدولة التي استغرقت 4 أيام لسيلاسي لسنوات لاحقة، وكانت مصدرًا ملهمًا للقصائد والأغاني، التي احتوت إحداها “Rasta Shook Them Up” لبيتر توش، على كلمات تمهيدية باللغة الأمهرية، لغة إثيوبيا الرسمية.
يعتقد بوب مارلي، مثل توش، أن سيلاسي كان “مسيحًا وُلد من جديد”، وكانت المفارقة أن التركيز الذي وضعه الرستافاريون على قوانين النظام الغذائي و”التفكير” المستوحى من كتب العهد القديم كان غريبًا تمامًا على سيلاسي المحافظ، الذي كان يجتهد في إنكار مكانته باعتباره “الإله الحي”.
يعتبر الراستافاريون في جامايكا هيلا سيلاسي إلهًا بشريًا
إيمانًا بأن إثيوبيا هي “صهيون” (اسم مكان في الكتاب المقدس العبري يستخدم كمرادف للقدس) الحقيقية الوحيدة، بدأ الراستافاريون في الانتقال لإثيوبيا، وخلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ذهب نحو 2500 من الهنود الغربيين والأمريكيين الأفارقة للعيش بالقرب من أديس أبابا، ومنحهم الإمبراطور سيلاسي قطعة أرض بمساحة 200 هكتار عام 1948، فيما يُعرف الآن بقرية شاشاماني، تقديرًا منه للدعم الذي قدموه خلال الغزو الإيطالي الفاشي للبلاد، ويُعتقد أن 300 فقط من هؤلاء موجودون حتى اليوم.
إرث الإمبراطور المُختلَف عليه
يُنظر إلى الإمبراطور سيلاسي على أنه واحد من أكثر الشخصيات التي أُسيء فهمها في تاريخ القرن العشرين، حيث جمعت شخصيته بين التعبيد والسخرية، واختلف حوله الكُتَّاب بين التأييد والتهميش في نفس الوقت.
ففي حين منحه المؤرخ الألماني الإثيوبي أسفا فوسين أسيرات الذي تربطه علاقة بعيدة بسيلاسي، مكانةً تاريخيةً فريدةً في السيرة الرائعة التي بحثها بجدية، كان من الواضح أن كتابه يتضمن ردًا على كتاب الصحفي البولندي ريتشارد كابوشنسكي “الإمبراطور: سقوط أحد الأوتوقراطيين”، الذي صور الإمبراطور الإثيوبي، وكذلك النخبة الأمهرية بأكملها في أديس أبابا، على أنهما كوميديا أوبرا هزلية.
ربما كان كلاهما على صواب، فقد عرض سيلاسي صورةً لنفسه كحاكم أبوي بأمر الرب وشخص متحدّر من أصل شريف، وكان طموحه تأسيس سلالة حاكمة حرص على تكريسها في الدستور وتحديث النظام الإقطاعي لبلاده من خلال نظام ملكي يتطلع إلى الأمام وإن كان مطلقًا بشكل متناقض.
أثار تتويجه في عام 1930 – بحضور المؤلف الإنجليزي إيفلين ووه، الذي وُصف بأنه “سيئ السمعة” – السخرية بسبب مظاهر البذخ والأزياء المزخرفة بالذهب وغيرها من الشعارات الملكية، وكانت القبعات والعباءات النابليونية جزءًا من رؤية سيلاسي لعالم موازٍ لعالم الرجل الأبيض.
مع ذلك، أخطأ ووه وغيره من النقاد في السخرية من سيلاسي باعتباره “قيصرًا صغيرًا”، ووُصفت العاصمة، أديس أبابا، في عام تتويجه، بأنها تشبه “بلدة أكواخ مزينة بكعكة الزفاف”، وكانت زخارف النظام الملكي متعارضة إلى حد كبير مع الواقع اليومي في شوارع العاصمة.
أرسل سيلاسي قوات لمساعدة قيادة الأمم المتحدة في الحرب الكورية (1950-1953)
حاول سيلاسي تقليل الظلم في المجتمع الإثيوبي الذي كان واضحًا للغاية في السنوات الأولى من حكمه، وفي عام 1931، قدَّم أول دستور مكتوب للبلاد، قبل الشروع في برنامج لإنشاء المدارس في جميع أنحاء البلاد، لكن لم تكد إثيوبيا تسلك خطواتها الأولى على طريق الحداثة حتى هبطت قوات موسوليني في خريف عام 1935.
كان تسامح سيلاسي مع العبودية أكثر إثارة للجدل كشرط لدخول إثيوبيا في عصبة الأمم، كان سيلاسي مطلوبًا للقضاء على هذه التجارة، فقد فعل ما في وسعه، وتم قبول إثيوبيا عام 1923، ومع ذلك، لم يتم القضاء على “عبودية المتاع” بالكامل.
كتب المؤرخ أسيرات أن الخدم العاملين في قصر أديس أبابا كانوا في الواقع “فخورين” بمنصبهم، فلطالما كانت العبودية جزءًا من دول قومية إفريقية مثل داهومي وأويو ومدن في النيجر، لكن عام 1942، ألغى سيلاسي أي أساس قانوني للعبودية، وجعل العديد من الجرائم المتعلقة بالرقيق يُعاقب عليها بالإعدام.
في نهاية الحرب العالمية الثانية، واصل التزامه بالأمن الجماعي – على الرغم من خيبة أمل جنيف في عام 1936 – من خلال التوقيع على انضمام بلاده إلى الأمم المتحدة الجديدة، حتى إنه أرسل قوات لمساعدة قيادة الأمم المتحدة في الحرب الكورية (1950-1953).
واصل سيلاسي تقدم إثيوبيا محليًا أيضًا، وفي عام 1955، وسَّع دستور ثانٍ حقوق التصويت لكل مواطن، ما يجعل أعضاء مجلس النواب بالانتخاب، ومع ذلك، أكدت صياغة الدستور نفسه أن “شخص الإمبراطور مقدس. كرامته مصونة وقوته لا جدال فيها”، ونصت المادة الثالثة على أن يظل العرش موروثًا في نسل سيلاسي بصفة دائمة”.
رأى منتقدو الإمبراطور أن هذه كانت إصلاحات مجزأة عززت بالفعل الوضع الراهن مع تقديم إصلاحات سطحية، ماركوس غارفي، صاحب النبوءة، والرسول الجامايكي لتحرير السود، أدان الحاكم باعتباره “جبانًا عظيمًا” لفراره من قوات موسوليني في عام 1935، ومع ذلك فقد أطلق عليه لقب “المسيح الأسود” في حركته “العودة إلى إفريقيا” التي تحث على عودة الأمريكيين من أصل إفريقي من أحفاد ونسل الرقيق إلى إثيوبيا.
بينما ظل العديد من أسلافه الإمبراطوريين منعزلين، كان سيلاسي داعيًا إلى التعاون السياسي أو الاقتصادي بين الدول والأمم، وهو ما أكده لاحقًا بتبنيه لمُثل الوحدة الإفريقية، وفي عام 1963، ساعد سيلاسي في تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، وقدم هبةً تتمثل في قطعة أرض لاستضافة المنظمة التي وضع ميثاقها، وأقنع 31 دولة إفريقية مستقلة أخرى بالانضمام بنجاح.
واعترافًا بدوره في تأسيس المنظمة الإفريقية التي عقدت أول اجتماع لها في أديس أبابا في مايو/آيار عام 1963، سعت المنظمة التي تحولت إلى الاتحاد الإفريقي عام 2000، إلى إعادته للواجهة من خلال تدشين تمثال لآخر أباطرة إثيوبيا خارج مقر المنظمة في فبراير/شباط 2019.
يبدو أن المرونة السياسية التي أوصلته إلى السلطة لم تكن تعرف حدودًا، ففي ذروة الحرب الباردة، كان سيلاسي قادرًا حتى على تأمين المساعدات الخارجية من كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
وإن وُصف سيلاسي بالقائد الإصلاحي الذي ساهم في عصرنة إثيوبيا إلا أنه حافظ في الواقع على نظام إقطاعي أسس لثقافة المحسوبية والفساد في البلاد، أضف إلى ذلك أنه رجل ظل أصم لمطالب شعبه، بل حاول أن يمنع انتشار أخبار تجويع السكان الذين كانوا يعيشون بعيدًا عن العاصمة أديس أبابا.
مع كراهيته التي لا تنتهي لأي نوع من الإصلاح الاجتماعي، منذ الخمسينيات فصاعدًا، أصبح سيلاسي بعيدًا عن الواقع وغير مكترث بمعاناة شعبه، وعندما انتهى حكمه الذي دام أكثر من أربعة عقود، ترك خلفه ما عرف بـ”الإرهاب الأحمر” سيئ السمعة في عهد الرئيس منغستو هيلا مريام، جنبًا إلى جنب مع النزاع الحدودي الإثيوبي مع إريتريا، الدولة الإفريقية المنهوبة التي ضمتها إثيوبيا في عهد سيلاسي عام 1962 حتى نالت استقلالها عام 1993.
نهاية مأساوية
بقدر ما كانت رحلة سيلاسي إلى جامايكا رمزيةً، كان نجم سيلاسي يتضاءل مع عودته إلى إثيوبيا، فبعد أن شجع على تعليم رعاياه، غالبًا في المدارس والجامعات في الخارج، أصبح الإمبراطور منفتحًا على انتقادات هؤلاء المواطنين أنفسهم الذين يمكنهم ملاحظة بطء التقدم الاجتماعي والاقتصادي في وطنهم، والآن في السبعينيات من عمره، كان العقل السياسي الحاد لسيلاسي يفقد ميزته.
تم اكتشاف عظام سيلاسي تحت الخرسانة في أراضي قصره
ألحقت المجاعات التي ضربت مناطق عديدة في بلاده بين عامي 1972 و1974، مع خسائر في الأرواح تقدر بمئات الآلاف، أضرارًا جسيمة بشعبية سيلاسي، وزعزعت استقرار نظامه، في فبراير/شباط 1974، شهدت أديس أبابا أربعة أيام من أعمال الشغب، تلاها إضراب عام ممتد في الشهر التالي.
كان أفراد الجيش من بين الأكثر غضبًا، وعبروا عن معارضتهم بشأن الأجور المنخفضة – وعدم استرضائهم بوعود سيلاسي بزيادة 33% في الرواتب – بالإطاحة بالإمبراطور في سبتمبر/أيلول 1974، ووضعوه رهن الإقامة الجبرية.
كانت النية هي وضع نجل سيلاسي، ولي العهد أسفاو فوسن، الذي كان خارج البلاد وقت الإيداع، على العرش، ومع ذلك، عندما أدان الأمير أحداث السبت الدامي – الذي شهد إعدام 60 من كبار الموالين لسيلاسي – تخلت الحكومة العسكرية المؤقتة، المعروفة باسم الديرغ، عن حقه في الخلافة، وظل الديرغ في السلطة، منهيًا 3000 عام من الحكم الملكي.
في 27 أغسطس/آب 1975، وبعد عام من الإطاحه به، توفي هيلا سيلاسي عن عمر يناهز 83 عامًا، ليجد أتباعه أنفسهم أمام لغز بوفاة “إلههم”، فالآلهة لا تموت، لكنهم توصلوا إلى حل هذا اللغز من خلال تفسير يقول إن الذي مات هو جسد سيلاسي فقط، وأن روحه ما زالت ترفرف في سماء الرب.
كان السبب الرسمي وراء وفاة الإمبراطور الإثيوبي الأخير هو تعطل الجهاز التنفسي بعد جراحة البروستاتا، ومع ذلك، لا يزال أنصاره يعتقدون أنه قُتل على يد نظام الديرغ الماركسي الذي قام بانقلاب عسكري، وأطاح بالإمبراطور، ورفض أي تحقيق، وأخفى جثته.
في عام 1992، بعد سقوط الديرغ، تم اكتشاف عظام سيلاسي تحت الخرسانة في أراضي قصره، حتى إن بعض التقارير أشارت إلى أنه دفن تحت مرحاض، وإذا كان هذا صحيحًا، فقد كانت نهاية مشؤومة وغير كريمة لحياة أحد المهندسين الرئيسيين لإفريقيا الحديثة.
طوى النسيان النجاشي الأخير لعدة عقود، وتعرضت العائلة الإمبراطورية للاضطهاد، وعمل نظام الديكتاتور منغستو هيلا مريام على تغييب ذاكرة سيلاسي حتى سقوط نظامه أيضًا عام 1991، ثم بدأت تدريجيًا محاولات لإعادة الاعتبار لسيلاسي لتُتوج عام 2000 بجنازة ضخمة لم تنجح رغم ذلك في توحيد الإثيوبيين حول الإرث السياسي للإمبراطور الأخير.