“مدافع الإسلام الأول”، “مدافع أهل السنة”، “العالم والعلامة”، “الوالد والمربي” مسميات وكُنى عُرف بها رئيس اتحاد المجامع اللغوية العربية، العالم الشيخ الدكتور حسن الشافعي (91 عامًا) عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، والمتوج حديثًا بجائزة الملك فيصل العالمية في خدمة الإسلام 2022، مناصفة مع رئيس تنزانيا الأسبق علي حسن مويني.
فرحة عارمة عمت أرجاء الشارع الإسلامي عامة، والمصري على وجه الخصوص، بعد الإعلان عن فوز الشافعي بالجائزة التي اعتبرها كثيرون نصرًا إلهيًا مؤزرًا، ورد اعتبار تاريخي إزاء ما تعرض له من حملات شيطنة وتشويه ممنهج منذ 2013 وحتى اليوم بسبب آرائه السياسية.
دفع رئيس مجمع اللغة العربية السابق ثمنًا باهظًا لمواقفه التي لم تعجب السلطات الحاكمة في مصر، التي رأوها تغريدًا خارج السرب، فبات هدفًا في مرمى سهام النقد والتوبيخ من إعلاميي النظام ولجانه الإلكترونية، لإجباره على الخضوع ورفع الراية البيضاء ولزوم فراشه بعيدًا عن مهام عمله، خاصة في ظل ما يتمتع به من شعبية جارفة بين طلابه ومحبيه.
فُصل الرجل من وظيفته بجامعة القاهرة، ثم أُزيح عن رئاسة مجمع اللغة العربية بفعل فاعل، ليأتي مكانه بالتعيين المرشح الخاسر، صلاح فضل، ثم تُكال له التهم وتُرفع ضده القضايا، ويُبعد عن منصات الإعلام، وتخفت الأضواء من حوله، غير أن كل ذلك لم يزده إلا صمودًا وتحديًا، ليتوج أخيرًا بالجائزة التي يراها محبوه تعويضًا سماويًا عما وقع به من أهل الأرض.. فما قصة العالم الذي يوشك أن يُنهي حياته مُتوجًا على منصات الظلم؟
الجائزة.. تكريم مستحق
للجائزة هذا العام مذاق خاص، ليس لدى الشافعي قدر ما هي لدى أنصاره، إذ إنها ليست المرة الأولى التي يحصل فيها على تلك الجائزة، فقد حصل عليها قبل 8 سنوات، في يناير/كانون الثاني 2013 حين منحها إياه الملك سلمان بن عبد العزيز عندما كان أميرًا وولي العهد السعودي في ذلك الوقت.
وجاءت الجائزة في مرتها الأولى تقديرًا لجهود مجمع اللغة العربية (الذي كان يرأسه حينها العالم الجليل)، ودوره في خدمة لغة القرآن الكريم ونشر علوم الإسلام في شتى ربوع الأرض على مدار 80 عامًا كاملة، وعليه اعتبر البعض وقتها أن الجائزة منحت للمجمع وليس للدكتور الشافعي.
تعد جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام ، التي تأسست عام 1979، بجانب أنها واحدة من أعرق الجوائز الإسلامية، فهي واحدة من الجوائز القليلة التي لم تطلها أيدي العابثين حتى اليوم
وعليه يأتي التكريم في هذا العام، والرجل خارج هرم المجمع السلطوي، بل وعلى النقيض من ذلك يواجه حملات شرسة لإزاحته، بمثابة البلسم المداوي من آلام ومعاناة 8 سنوات كاملة تجرع فيها الرجل كؤوس التهميش والتنكيل والشيطنة الإعلامية والمجتمعية، لا لشيء إلا لأنه لم يغرد مع المغردين على أنغام السلطة.
وتعد جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، التي تأسست عام 1979، بجانب أنها واحدة من أعرق الجوائز الإسلامية، فهي واحدة من الجوائز القليلة التي لم تطلها أيدي العابثين حتى اليوم، وتمنح لمن يلعب دورًا مهمًا في خدمة قضايا الإسلام والمسلمين في شتى المجالات، وتهدف للاحتفاء بالعلماء والنابغين والرواد دون تمييز لأي فكر أو عرق، وهو ما يمنحها قوتها وثقلها مقارنة بغيرها من الجوائز التي عكرتها أمواج التسييس الرمادية.
8 سنوات من التنكيل.. ثمن غال
في أغسطس/آب 2015، فوجئ الجميع بقرار أصدره رئيس جامعة القاهرة، آنذاك، الدكتور جابر نصار، بفصل اثنين من عظماء الجامعة، هما الدكتور حسن الشافعي رئيس مجمع اللغة العربية وأستاذ الفلسفة والنحو والصرف بكلية دار العلوم، والدكتور محمد حماسة عبد اللطيف وكيل كلية دار العلوم الأسبق، كان القرار بدعوى جمعهما بين وظيفتين إحداهما بالجامعة والأخرى بمجمع اللغة العربية.
ورغم استقالة الشافعي من منصبه كمستشار لشيخ الأزهر عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة في أغسطس/آب 2013، فإن نظام ما بعد الثالث من يوليو/حزيران 2013 لم ينس هذا الموقف الذي ظل راسخًا في الأذهان، وكان لا بد من الرد عليه في أقرب وقت، فكان الفصل من الجامعة أول ضربة يتلقاها العالم بسبب موقفه الرافض لإراقة الدماء.
حينها استشعر مستشار شيخ الأزهر السابق، أن الأمر أكبر من مجرد تنفيذ الوائح أو القانون، قائلًا في تسجيل مصور له: “أشعر بأن فصلي مرتب، لأن رئيس الجامعة استند للمادة 171 التي تعني الغياب شهر دون إذن، لكي يفصلني، مع أنه منعني من دخول الكلية منذ 14 من يونيو الماضي”.
وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد أصدر في منتصف يناير/كانون الثاني 2015، قرارًا جمهوريًا يقضي بتعديل بعض أحكام قانون تنظيم الجامعات، الصادر بقانون رقم 49 لعام 1972، التي من بينها فصل أعضاء هيئة التدريس الذين “يشتركون أو يحرضون أو يساعدون على العنف أو أحداث الشغب داخل الجامعات أو أي من منشآتها”، كذلك يشمل الفصل الأساتذة الذين “يمارسون الأعمال الحزبية داخل الجامعة”.
ووفقًا لهذا القانون أصبح لرئيس الجامعة سلطة فصل أو وقف أي عضو هيئة تدريس بمجرد صدور قرار إحالته للتحقيق بأي من تلك التهم الفضفاضة، وعليه تم فصل العشرات من الأكاديميين استنادًا لهذا القانون الذي وصفه حقوقيون بـ”الجائر” ومن أبرز المفصولين بسببه مرشد جماعة الإخوان محمد بديع الأستاذ المتفرغ بكلية الطب البيطري بجامعة القاهرة ومحمد البلتاجي الأستاذ المساعد بقسم الأنف والأذن والحنجرة بكلية طب بنين القاهرة وحسن البرنس أستاذ الأشعة بكلية طب القصر العيني وسيف الدين عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة ومحمد سعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب السابق والأستاذ المتفرغ بكلية العلوم بالجامعة.
القرار تم تمريره بالتزامن مع حملة إعلامية غير مسبوقة، استهدفت العالم الجليل ورمته بعشرات التهم، بل طالب بعضهم بمثوله للتحقيقات بسبب آرائه ومواقفه السياسية
وبعد الفصل من الجامعة لم يبق أمام الشافعي إلا مجمع اللغة العربية الذي يرأسه من 2012 ثم أعيد انتخابه مرة أخرى في 2016، لكن فوجئ الشارع المصري بخبر منشور في المواقع والصحف الصادرة صبيحة الخميس 19 من نوفمبر/تشرين الثاني 2020 يشير إلى عزل وزير التعليم العالي المصري العلامة حسن الشافعي عن رئاسة المجمع، ثم ليوكل أعمال الرئيس للناقد الأدبي صلاح فضل، عضو المجمع، والأستاذ بجامعة عين شمس.
ورغم خسارة فضل الانتخابات التي جرت بينه وبين الشافعي داخل أروقة المجمع بفارق كبير، فقد شن هجومًا كبيرًا عليه في وسائل الإعلام التي أفردت له المساحات، فنشر حوارًا مع جريدة “الدستور” المصرية اتهم الشافعي بأنه “إخواني إرهابي وتاريخه يشهد بذلك” على حد قوله، كما ألمح إلى وجود ما أسماه “تربيطات إخوانية داخل المجمع وأن القانون الذي ينظم عمله هو الذي يمكّن الإرهابيين منه”.
ورغم حالة الغضب التي عمت أرجاء المجتمع بعد قرار وزير التعليم العالي بعزل الشافعي فإن القرار تم تمريره بالتزامن مع حملة إعلامية غير مسبوقة، استهدفت العالم الجليل ورمته بعشرات التهم، بل طالب بعضهم بمثوله للتحقيقات بسبب آرائه ومواقفه السياسية، الأمر الذي زاد من حدة الاحتقان داخل الكيان اللغوي العظيم.
مسيرة حافلة بالعطاء
وُلد حسن محمود عبد اللطيف الشافعي بإحدى قري محافظة بني سويف (جنوب) في 19 ديسمبر/أيلول 1930 ليحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة على أيدي شيخ كتاب القرية، وفي سن الـ14 ألحقه والده الذي كان من علماء الأزهر الشريف بمعهد القاهرة الديني التابع للمشيخة، وهناك حصل على الابتدائية ثم الإعدادية والثانوية.
وفي 1953 التحق الشافعي بكلية أصول الدين بالأزهر، وفي الوقت ذاته التحق بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة (القانون المصري يسمح بالالتحاق بأكثر من كلية) التي حصل منها على درجة الليسانس والشهادة العالية بمرتبة الشرف، ليعين معيدًا بقسم الفلسفة بها عام 1963.
حصل على الماجستير عام 1969 تحت إشراف العالم اللغوي المعروف محمود قاسم، الذي كان عميدًا للكلية وقتها، ثم الدكتوراة كذلك، لينتقل بعدها إلى جامعة لندن عام 1973 ليحصل من هناك على درجة الدكتوراة في الدراسات الإسلامية عام 1977 عن موضوع “تطور علم الكلام الاثنا عشري في القرن السابع الهجري”، وهي الدراسة التي صدرت بعد نحو ثلاثين عامًا أيضًا باللغة الإنجليزية عن مجمع البحوث الإسلامية بإسلام آباد بباكستان عام 2005.
بعد عودته من باكستان عُين مدرس بقسم الفلسفة بدار العلوم جامعة القاهرة عام 1977، ثم زار جامعتي أم القرى بالسعودية وأم درمان بالسودان خلال عام 1979، للمشاركة في الدورات البحثية، وذلك قبل أن يعار إلى الجامعة الإسلامية في إسلام آباد عام 1981، للعمل مع نخبة من علماء مصر في إنشاء ووضع مناهج التدريس بالجامعة هناك، ثم تولى عمادة كلية الشريعة والقانون بها عام 1983، ثم نائبًا لرئيس الجامعة عام 1985 قبل أن يعود للقاهرة مرة أخرى وكيلًا لكلية دار العلوم بجامعة القاهرة عام 1989، ليستمر بها حتى أُحيل على المعاش لبلوغه السن القانونية عام 1995، ليعين بعد ذلك أستاذًا متفرغًا بها.
توجهت إليه الأنظار بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، فتم اختياره عضوًا مؤسسًا بهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف منذ عام 2012
وفي عام 1998 وبإجماع أعضاء مجلس الأمناء، اختارت الجامعة الإسلامية العالمية بباكستان الشافعي رئيسًا لها، لينتقل إلى عمله الجديد في إسلام آباد، حيث أنشئ المقر الجديد للجامعة، وأضاف إليها عدد من الكليات، وظل في هذا المنصب حتى 2004، ليعود مرة أخرى للقاهرة أستاذًا متفرغًا بجامعته.
تقلد الشافعي العديد من المناصب أبرزها عضوية مجلس إدارة الجمعية الفلسفية المصرية بالقاهرة من 1991 إلى 1998، ورئاسة اللجنة العلمية لإصدار “موسوعة سفير الإسلامية” بالقاهرة من 1993 إلى 1998، وعضو اللجنة العلمية لـ”معهد الفكر الإسلامي”، بالقاهرة، منذ عام 1995 وعضو اللجنة العليا لجائزة نايف بن عبد العزيز آل سعود للسنة النبوية بالمدينة المنورة عام 2002، وعضو مجلس الأمناء للجامعة الإسلامية بنغلاديش – شيتا جونج منذ عام 1998.
توجهت إليه الأنظار بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، فتم اختياره عضوًا مؤسسًا بهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف منذ عام 2012 وحتى اليوم، وعضوًا بلجنة المئة لوضع الدستور المصري الجديد المقترح عام 2012، ثم عضوًا بمجلس الشورى لمدة عام واحد، ورئيس المكتب الفني لشيخ الأزهر من 2011 إلى 2013.
نشاط علمي مميز
طيلة تلك المسيرة الحافلة بالعطاء قدم الشافعي للمكتبة الإسلامية عشرات الكتب والأبحاث العلمية، كما أشرف على مئات الرسائل العلمية، ماجستير ودكتوراة، في الجامعات المصرية (القاهرة، الأزهر، طنطا، الإسكندرية، عين شمس، وغيرها) والجامعات الإسلامية (الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد، وجامعة البنجاب في لاهور بباكستان، والجامعة الإسلامية العالمية بكوالالامبور- ماليزيا) بجانب الاشتراك في فحص وتقويم بحوث ترقية الأساتذة في جامعات: العين والكويت وقطر والأردن والسعودية ومصر، وشارك في العديد من المؤتمرات بأوراق بحثية كان لها صداها على المستوى المحلي والدولي.
ومن أبرز المؤلفات التي أثرى بها المكتبة الإسلامية “تحقيق ودراسة كتاب غاية المرام في علم الكلام” عام 1971 وكتاب “في الفلسفة – منهج وتاريخ” بالاشتراك مع الدكتور كمال جعفر عام 1980 وكتاب “في فكرنا الحديث والمعاصر” سنة 1989 بجانب كتاب “تطور الفكر الفلسفي في إيران” عام 1989.
ومن بحوثه المنشورة: “إعداد الداعية المفتي” و”نحو تقسيم علمي للعلوم الشرعية الإسلامية”، ونقد وتقويم لبحث “الوقف الإسلامي والدور الذي لعبه في النمو التعليمي والاجتماعي في الإسلام”، و”مشكلات تحقيق النصوص العربية”، بجانب نقده وتقويمه لبحث “الزكاة وتطبيقاتها المبكرة في الدولة الإسلامية”.
وبجانب ذلك هناك كتب وأبحاث قيد الطبع، منها “تجريد الاعتقاد”، دراسة بالإنجليزية لآراء نصير الدين الطوسي ولتطور علم الكلام الاثنى عشري في القرن السابع الهجري، وترجمة “تلخيص جمهورية أفلاطون لابن رشد” من الإنجليزية إلى العربية، بجانب الجزء الثاني من كتاب “أساس الاقتباس في المنطق” لنصير الدين الطوسي، صدر جزأه الأول من المجلس الأعلى للثقافة بمصر.
مدفع أهل السنة
عشرات التعليقات صدرت عن علماء الأمة ومشايخها احتفاءً بفوز الشافعي بجائزة الملك فيصل العالمية، فقد علق الأكاديمي علي إبراهيم قائلًا: “فوز الأستاذ الدكتور حسن الشافعي بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام نصر سماوي ودرس قاس للمعرقلين، نبارك ونهنئ أستاذ الأساتيذ”.
فيما أشار رئيس حزب الوسط أبو العلا ماضي إلى أن جائزة الملك فيصل “تزينت بحصول العلامة الأستاذ الدكتور حسن الشافعي رئيس مجمع اللغة العربية، وعضو مجمع البحوث الإسلامية على الجائزة لهذا العام، نظرًا لجهوده في خدمة الإسلام، حفظ الله الشيخ الجليل وبارك في عمره، اللهم آمين”.
وقال عنه عضو مجمع اللغة العربية، كمال دسوقي، خلال استقباله أول مرة حين تم تعيينه عضوًا بالمجمع: “يسعدني أن أزف إلى موكب الخالدين.. علمًا من أعلام اللغة والفكر، قد يسره الله للانضمام إلى الركب بما أنعم عليه من علم وفضل، وما زوده به من خلق ودين، وما أسبغ عليه من تقوى ورضوان”، بينما وصفه اللغوي محمد حسن عبد العزيز عن دوره في خدمة اللغة العربية، بأنه “من عشاق العربية المحافظين عليها، ومن المدافعين عنها، ولا يقل دوره في خدمتها عن دوره في خدمة الإسلام”.
وخلال زيارة شيخ الأزهر أحمد الطيب، للسعودية في 2012، امتدح وزير الشؤون الدينية والدعوة والإرشاد السعودي وقتها، الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، العلامة المصري حسن الشافعي قائلًا: “هذا هو مدفع الإسلام، مدفع أهل السنة” مشيدًا بكلمته التي ألقاها في أثناء زيارة رئيس إيران وقتها محمود أحمدي نجاد إلى القاهرة في العام ذاته، التي دافع فيها عن السنة النبوية.
وهكذا وبعد 8 سنوات كتب الله للعلامة المصري رد الاعتبار من الباب الكبير، الجائزة العالمية، التي جاءت لتدحض اتهامات التطرف والإرهاب التي مُني بها الرجل طيلة السنوات الماضية، وكأن الحياة أبت إلا أن تداوي سنوات الألم والتنكيل التي عايشها الشيخ داخل قضبان الظلم والاستهداف.