“حانن للحرية حانن.. يا شعب ببيتو مش آمن” لم يكن هذا مجرد شعار رفعه المتظاهرون ضد نظام الأسد، بل كان انعكاسًا للتحول الذي طرأ على رمزية البيت لدى السوريين، ففريق تهدمت بيوتهم أمام أعينهم أو فوق رؤوسهم، وفريق سُرق أثاثهم ونهبت ممتلكاتهم، وفريق هُجروا قسريًا وباتت تفصلهم عن بيوتهم الأولى قارات وأميال، وبين هؤلاء وأولئك، كان الشتات وانعدام الأمن والاستقرار سيد المشهد.
حكايات بين الدمار والنهب والتهجير
– “لقد تعمدوا تشويه ذكرياتنا”
“البيت فاضي”، ما زال صوت أمي في أذني وهي تنتحب وتصرخ من هول الصدمة “البيت فاضي””، هكذا تفتتح (د.) حكايتها، وتكمل: “نزحنا عن منزلنا عندما بدأت العمليات العسكرية في حينا، لم أحمل معي إلا متاعًا قليلًا، إذ كان من الصعب عليّ المفاضلة بين أشيائي العزيزة، واستسلمت لاعتبار “كم يوم ومنرجع”، وعندما انتهت العمليات كان المنزل منهوبًا بالكامل! عاث جنود النظام فسادًا فيه، سرقوا بعضًا من أثاثه وأحرقوا البعض الآخر للتدفئة، لم يتركوا شيئًا، فقد سرقوا حتى أسلاك الكهرباء التي في الجدران، وفوق ذلك تعمدوا تشويه ذكرياتنا، فأنا لا أصدق إلى الآن أن أحد الشبيحة طرح فضلاته فوق فستان زفاف أمي وتركه في بهو المنزل”!
“كثيرًا ما أتخيل كيف اقتحموا منزلنا، كيف كسروا بابه الذي يحمل اسم أبي، كيف نبشوا ملابسي وألعاب طفولتي وتخيروا منها ما يشاؤون، وكيف جعلتني أفعالهم نازحة تقطن بيتًا مستعارًا، لا تراودني هذه الخيالات إلا وتصحبها الدموع”.
تكمل (د.): “يفصل بين مكان إقامتي الحاليّ ومنزلنا بضعة كيلومترات لكنني إلى الآن لم أزره، ولم أتعرف إليه عندما أراني إخوتي الصور التي توثق خرابه، أفضل الاحتفاظ بصوره القديمة الدافئة في ذاكرتي على أن أستبدلها بأخرى ترسمه خاويًا على عروشه! لا أجرؤ حتى على مشاهدة الصور ومقاطع الفيديو التي توثق حياتنا فيه، لأنني أنهار على الفور، ويثور بركان الحقد في قلبي”.
“أخبئ اليوم في علبة معدنية – نجت من بين أيديهم لكنها حملت آثار دوس أقدامهم – مفتاح بابنا الذي لم يعد موجودًا وحجرًا من نصف حينا المدمر وورقةً كتبت عليها مجريات يوم عادي من أيامنا الخوالي لكي لا أنساها وبعض الصور الشخصية، خبأت مع كل ذلك وجعي، ووعدًا بأن أحكي لأطفالي كل شيء”.
ثم تتحدث عن إمكانية استعادة منزلها، قائلة: “منزلنا لم يهدم.. لكن العودة إليه شبه مستحيلة، فقدان الأثاث مؤلم معنويًا نعم، لكن لنكن واقعيين ونتحدث قليلًا بالأمور المادية، ما بناه أبي وأمي في سنوات طويلة من التعب والكسب لا يمكن تعويضه، فكلفة إعادة تأثيث منزلنا ليصبح صالحًا للسكنى باهظة جدًا، ولا شيء سيعود كما كان”.
أما عن الأثر الذي تركه ما جرى فتقول: “خروجي القسري من منزلنا أحد أعمق جروحي، جعلني في حالة حنين دائم إليه، يرافقها شعور أن ماضيّ وذكرياتي هي طيف من خيال، فلا يعقل أنني فقدت بين عشية وضحاها كل شيء! خروجي القسري جعلني أيضًا أتوق لبناء بيتي المستقبلي لكن ما يلبث أن يساورني هاجس فقدانه.. الأمر أشبه بالكابوس”.
المنزل الحادي عشر
15 مارس/آذار 2012، تقول (س.): “وضعت أمي “الحرام المخمل السعودي” على سريرها، وأنا الآن لا أنسى بريق وبره الذي تركته الشمس عليه، وصوت أمي يقول أن نأخذ الأشياء الضرورية فقط، حملت لعبةً رافقتني في صغري وملصقات طفولية، ودفتر ذكريات من أصدقائي، وبعض الملابس التي سرقت فيما بعد، ومفتاح البيت مع ميداليته، ولم نستطع أخذ ألبومات الصور، في تلك اللحظات كان البيت نظيفًا وصامتًا وهادئًا جدًا”.
ثم تكمل ما حدث لاحقًا: “حُرق منزلنا عن بكرة أبيه، وقود الحرق كان الحقد والكره على ما أعتقد، من عام 2012 إلى عام 2021، لم أستطع دخول الحي أو رؤية المنزل لظروف كثيرة، ولكنني في الشهر السابع لعام 2021 كانت لدي فرصة الذهاب، ذهبت وحدي دون أحد من عائلتي، لم أعرف الطرقات، ولم أتعرّف على الأبنية، لأنها مشوّهة، وحين وقفت أمام البناء، تذكرت كل صراخ سمعته وكل دويّ شعرت به، وكل شيء، أصابني البرود، البناء مؤلف من ثلاث طوابق، لكن الدرج مدمر وأساساته منهوبة، فكانت طريقة الدخول أن أصعد درجات من بنائنا ودرجات من البناء المجاور، حتى وصلت إلى السطح ونزلت إلى مدخل البيت المُنهك.. المحترق.. الغريب، هل تعلم معنى أن تدخل بيتك الذي هو ملكك كاللصوص؟ نعم كنت لصّ منزلي الفارغ من كل شيء إلّا السواد.
“لم أستطع تصوير شيء، كنت أسير في الممر وأنا أسمع صوت زجاج أمي تحت قدمي وأتذكر كم حرمت نفسها من أجل الحفاظ عليه، ووجدت فنجان من طقم الفناجين ذي نقشة عتيقة كنا نشرب فيه الحليب صباحية كل عيد، لم أستطع أن ألمسه أو أن أصوره، حقًا أصابني التبلّد، حزنت على أمي، لقد رأيت حلم قلبها محترق ومتفحم حدّ الوفاة، وحزنت على أبي أنه حُرم من الراحة في آخر سنوات حياته”.
أما عن تأثير ما جرى على حياتها فتروي (س.): “لقد سمعت أسراري جدران منازل كثيرة، عشت كمغتربة في قرية مجاورة، ولُقبت “بالنازحة” طوال فترة سكني هناك وفي المدرسة أيضًا، واليوم أسكن في حي طفولتي والمكان الذي أحب وأعشق، لكن المنزل إيجار، ولا أمل لدي في أن أمتلك يومًا ما بيتًا خاصًا، أستطيع أن أدق فيه مسمارًا أو أعلّق لوحة دون الخوف من خدش الحائط، منذ عام 2012 وأنا نازحة، أجول الحارات، أعبئ الكراتين، أبحث عن أمان، ليس لدي مفتاح خاص بي، ولا أملك ياء ملكية في حياتي.. أفتقد ضجيج العائلة حتى لو تلوث بأصوات الرصاص، فأمان العائلة دومًا يغلب خوف الدبابات والقناصين”!
أفتقد إلى الاستقرار منذ الشتات الأول للعائلة، اليوم أنا أسكن في البيت رقم 11، عن أي استقرار تسألون وقد تنقّلت بين جدران 11 منزلًا خلال عشر سنوات؟!
“البيت عندي هو غرفة الجلوس التي كنا نجلس بها نحن العائلة المكوّنة من 6 أشخاص، وأول ما يخطر في بالي عند ذكر كلمة بيت هي صورة مكتبة الحائط في الصالون، أتذكر تفاصيل بيتي.. غرفتي أنا وإخوتي التي كان لها ديكور خاص تعب عليه أخي الكبير كثيرًا، أحن لسقيفة المنزل، لأننا اتخذناها أنا وأخي مكانًا للسمر هربًا من صوت الرصاص، كان ذلك الشيء الوحيد الغريب الذي يمكننا فعله أثناء حصار حينا، أفتقد إلى الاستقرار منذ الشتات الأول للعائلة، اليوم أنا أسكن في البيت رقم 11، عن أي استقرار تسألون وقد تنقّلت بين جدران أحد عشر منزلًا خلال عشر سنوات”؟!
حمل آخر من الذكريات
عبد الرحيم، شاب اتخذ من مدينة إسطنبول منفى قسريًا له، يحدثنا عن تجربته فيقول: “عام 2011 أتذكر أننا كنا من أول الأحياء التي تهجرت في حمص، كان عمري 14 سنة، كنت أسكن في بناء مع بيت جدي وعمي، في الطابق الأرضي حُرِق بيت جدي بالكامل، ومنزلنا تكسّر ليسهل عليهم سرقته، كذلك دار عمي”.
مضيفًا “كنت أول من دخل إلى حمص القديمة بعد أن سمح النظام بذلك، عدت إلى الحي الذي تربيت فيه، كانت ملامحه متغيرة، الحزن والوحدة والوحشة.. هذا كل ما يمكن أن تشعر به، أضرار المنزل كنت أول من عاينها، كان الشعور الوحيد وقتها “إنو معلش كله فدا البلد وإنو نرجع نلتم سوا”، كانت أمي تعشق التصوير، بيتنا كان مليئًا بالصور وكانت الشيء الوحيد الذي سمح جنود النظام بإخراجه معنا، أنقذت ما استطعت إنقاذه منها وكل البيت يشكرني على تلك المبادرة الآن، هي حِمل آخر من الذكريات، أحملها معي اليوم ولا أدري ما شعوري تجاهها! هل أبالغ عندما أقول إننا لا نستطيع العيش دون ذكرياتنا حتى الأليمة منها؟!
“أتذكر عند عودتي إلى بيتنا في حمص القديمة كانت معي جارتنا التي استشهد زوجها في المعتقل، كان يبدو على بيتها أنه محروق ومنهوب ومسروق و”قايمة قيامته”، بعد دخولها إليه بنصف ساعة خرجت مسرورة وهي تقول: “الحمد لله الحمد لله”، لقد كانت تحمل في يدها صورة زوجها التي خشيت فقدانها لأنها الصورة الوحيدة المتبقية له”.
يكمل عبد الرحيم فيقول شارحًا تأثير ما جرى عليه: “أذكر تفاصيل كل بيت في طفولتي، أحن إلى غرفتي، إلى رفوف المكتبة المليئة بالمجلات، إلى جلوسنا أمام التلفاز، إلى صوت الباب عن عودة أبي، وإلى وجودي مع عائلتي وعدم الابتعاد عنهم، لكن البيت في ذاكرتي الصورية يتعلق بقسم منه بكل البيوت التي سكنتها بعد النزوح، كل بيت كان في مرحلة عمرية معينة وكل بيت يحمل ذكريات الفترة الزمنية التي سكنت فيها، يحمل أيضًا ذكريات الأشخاص الجدد، والراحلين كذلك”.
“مشاعري متفاوتة بصراحة، لكل بيت ذكرياته الخاصة وأنا شخص بطبعي لا تهون عليّ الذكريات مهما كانت، في حزنها وفرحها وسعها وضيقها، بالأشخاص الذي تعرفت عليهم بتلك البيوت، الذين ودعتهم ورحلوا، بالتجارب السعيدة والمريرة، كل قرار مصيري في حياتي مرتبط في المنزل الذي كنت فيه، الموضوع أشبه بقسم الإعجابات في موقع ساوند كلاود، كل أغنية تعني مرحلة معينة بوقت ومكان معينين”.
“نحن عالقون بخطوط زمنية ومكانية معقدة، ليس من الناحية الفيزيائية، لكن ذكرياتنا موزعة على أكثر من مكان وأكثر من وقت، ولا أدري إن كان الموضوع نعمة أم نقمة! نحن ساكنون برائحة الأمكان، عابرون على أطراف الوقت، نعيش على الذكريات التي نضمها ونخاف أن نفقدها في معترك المنفى والمهجر، لأنها كل ما تبقى لنا”.
مشكلة إثبات الملكية في ظل إعادة الإعمار
35722 مبنى متضررًا بشكل كلي أو جزئي هو نصيب مدينة حلب من الدمار، ما جعلها تتصدر قائمة المدن السورية المدمرة، لتأتي بعدها الغوطة الشرقية بمجموع 34136 مبنى مدمرًا وتتبعهما حمص بمجموع 13778 مبنى، وذلك وفق أطلس نشره معهد الأمم المتحدة للبحث والتدريب UNITAR يعرض خرائط تبين حجم الدمار الذي لحق بالمحافظات والمدن السورية خلال فترة 2011 – 2019، بالاستناد إلى تحليل صور الأقمار الصناعية.
مع كل جدار تهدم حلم بالاستقرار وحق بالعيش الآمن، لن يتمكن السوريون من استعادته سريعًا، الإحصائية الأممية نفسها أشارت إلى أن كلفة إعادة الإعمار تقدر بـ400 مليار دولار، لكن هل تعد الكلفة المهولة العائق الوحيد أمام استعادة السوريين منازلهم؟
أصدرت الحكومة السورية القانون رقم 10 لعام 2018 الذي يقضي بإنشاء مناطق تنظيمية في جميع أنحاء سوريا مخصصة لإعادة الإعمار، تعين المناطق التنظيمية وفق مرسوم، ويُبلغ مالكو العقارات في المنطقة بأن لديهم 30 يومًا لتقديم إثبات ملكيتهم، وفي حال إظهارهم ما يثبتها سيحصلون على حصص في المنطقة التنظيمية، وأمامهم خيار من ثلاثة: إما تسجيل المقسم بأسمائهم والحصول على حصة من أرباح إعادة الإعمار وإما بيع حصصم ضمن مزاد علني وإما إنشاء شركة مساهمين للاستثمار وإعمار المقسم.
أما في حال عدم تقديمهم ما يثبت الملكية، فلن يُعوضوا وستعود ملكية العقار إلى البلدة أو الناحية أو المدينة الواقع فيها، وهنا تبدأ حكاية مأساوية أخرى! فهذا القانون الذي تروج له حكومة النظام كقانون تنظيم عمراني يبدو أنه بشكل أو بآخر مصادرة لممتلكات السوريين باسم القانون، دون القدرة على الطعن بهذه المصادرة حتى، فالمتطلبات الإجرائية في القانون مقترنةً بالسياق السياسي التي تعمل فيه، تتيح إمكانية كبيرة لإساءة توظيفه، وهذا ما يريده النظام.
وفقًا لتقرير نشرته وكالة رويترز، فإن الفوضى التي تسببت بها الحرب تعني أن قلةً سيتمكنون من إثبات ملكيتهم والمطالبة بالتعويضات خلال الفترة الزمنية المتاحة، فالفارون من منازلهم – وهم أكثر من نصف السكان – سيواجهون غالبًا صعوبات جمة في تقديم أوراقهم شخصيًا أو حتى بتوكيل أحد أقاربهم، فثلاثون يومًا لا تكفي لإجراء التوكيل القانوني الذي يستغرق عادةً ثلاث أشهر على الأقل، ويحتاج لموافقات أمنية تعرّض من يحاولون الحصول عليها للخطر.
لا يشكل الإطار الزمني للقانون مبعث القلق الوحيد، ففي ورقة بحثية أعدّها تجمع المحامين السوريين الأحرار ذُكر أن الدمار والتلف طال العديد من السجلات العقارية وسجلات المحاكم ووثائق الكاتب بالعدل المثبتة لحقوق الملكية، والأوراق الرسمية قد لا تكون أساسًا بحوزة كثير من اللاجئين والنازحين، فبحسب بحث مدرج في الورقة أجراه المجلس النرويجي للاجئين فإن لاجئًا واحدًا من أصل كل خمسة ما زال يحمل سندات الملكية ولم يتركها ورائه أو فقدها في أثناء رحلة لجوئه، ما يعني خسارة عقاره وخسارة فرصة العودة مستقبلًا، ومما يخالف من وجهة نظر قانونية مواد الدستور السوري ونصوص العهود والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحق الملكية.
لقد رمى النظام السوري بشرّه البشر والحجر، وجمع بين الموت وخراب الديار، حين انتهك – من جملة ما انتهك – حقًا من أقدس حقوق الإنسان التي تنص عليها مواثيق المجتمع الدولي ومعاهدات حقوق الإنسان، حق امتلاك مأوى يضمن الأمان والاستقرار، ومع هذا الانتهاك انقلبت حياة جلّ السوريين رأسًا على عقب، فمن تمسك منهم ببيته رقد للأبد تحت أنقاضه، ومن حاول الفرار والنجاة بروحه فقد كل ما يملك سواها، وتاه في دوامة من الشتات الأبدي لا شيء فيها يرشده سوى صوت “مسعود” بطل مسلسل التغريبة إذ يقول: “اللي ملوش بيت كل البيوت حقه.. اللي ملوش حق كل الدنيا حقه”.