غيّب الموت المستشارة تهاني الجبالي، نائبة رئيس المحكمة الدستورية العليا المصرية سابقًا، وأول امرأة مصرية تتولّى مهنة القضاء في الحقبة الأخيرة، عن عمر ناهز الـ 71 عامًا، إثر إصابتها بفيروس كورونا المستجد ونُقلت بسببه إلى مستشفى العجوزة بالجيزة قبل أسبوع، إلا أنَّ المنية وافتها، ومن المفترض أن يشيَّع جثمانها إلى مثواه الأخير في مسقط رأسها بمحافظة الغربية.
وتعدّ الجبالي واحدة من أكثر الشخصيات التي أثارت الجدل في الشارع المصري، سواء قبل ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 من خلال علاقتها المثيرة للريبة بسوزان ثابت، زوجة الرئيس الأسبق حسني مبارك، أو بعد ذلك في ضوء الدور الذي لعبته في تأجيج المواطنين ضدّ حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، وعدائها الواضح للثورة والثوار.
وأحدثَ رحيل القاضية المصرية انقسامًا لدى رواد مواقع التواصل الاجتماعي، بين من يراها قيمة وقامة قضائية تستوجب التكريم، كونها أول امرأة تشغل هذا المنصب القضائي (نائبة رئيس المحكمة الدستورية)، ما فتح الباب نحو انخراط المرأة في السلك القضائي بعد ذلك، وآخرين يعتبرونها أحد الخناجر التي طُعنت بها الثورة، وأن ما تقلّدته من مناصب ليس سوى تكريمًا لما قامت به في خدمة أصحاب السلطة في مصر، ولا علاقة له بمؤهّلاتها وخبراتها التي لا تتجاوز حاجز المحامية والتي قضت به 30 عامًا من عمرها.
العداء لثورة يناير
كغيرها من فلول مبارك، كانت تعتبرُ الجبالي ثورة يناير خطرًا يهدِّد البلاد، ومؤامرة خارجية تستهدفُ استقرار وأمن البلد الذي منحها ما لم تكن تحلم به، إذ كان دفاعها البارز عن نظام مبارك هو ما وضعها على منصات التتويج والتكريم في وقت لا يساوي في حساب الزمن لحظات.
وبعد الثورة فوجئ الجميع بإفراد وسائل الإعلام المحلية، المملوكة بطبيعة الحال لرجال أعمال مبارك، مساحات شاسعة للمستشارة المصرية للحديث عن شرعية نظام مرسي، وحكم جماعة الإخوان، فسلّطت سهام النقد للتشكيك في كافة الإجراءات التي يتّخذها الرئيس في ذلك الوقت، وأبرزها الإعلان الدستوري الصادر في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012.
هاجمت الجبالي مرسي بعد هذا الإعلان وادّعت أنه يمثل خطرًا على مدنية الدولة وأنه فقد شرعيته، ودعت حينها إلى تدشين كيان مدني معارض للتصدي لحكم الإخوان ومناهضة الرئيس بهدف إسقاطه، ساعدها في ذلك القوى السياسية الليبرالية واليسارية التي تحالفت ضد الثورة لاحقًا.
ومن دون قصد، كشفت المستشارة الراحلة عمّا يجري في الكواليس لإسقاط حكم الرئيس مرسي وبرلمان ما بعد الثورة (برلمان 2012)، ففي حوار لها مع صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في العام ذاته، قالت صراحة إن أعضاء المحكمة الدستورية (أعلى كيان قضائي في مصر) قرروا إسقاط البرلمان المنتخَب، وذلك بهدف حرمان الإسلاميين من صياغة الدستور الجديد، خاصة بعد الفوز الكاسح الذي حقّقوه في تلك الانتخابات.
وكان البديل الجاهز لصياغة الدستور بحسب الجبالي، هو تمكين المجلس العسكري من تشكيل جمعية تأسيسية لإعداد الدستور ومناقشة بنوده بعيدًا عن التيارات الإسلامية، ما يعني التفاف أكبر هيئة قضائية في البلاد على الإرادة الشعبية التي تمثلت في مشاركة 30 مليون مصري في تلك الانتخابات، واستخدام سلطاتها لخدمة أجندات أخرى، وهو الأمر الذي أوقع المحكمة وقتها في حرج كبير.
كانت الجبالي تتهم على حسابها في فيسبوك الإخوان بأنهم السبب في الأزمة السورية، وأنهم مسؤولون عن الجرائم التي يرتكبها الأسد وميليشياته والقوى الدولية الداعمة له.
وردًّا على هذا الاتهام الواضح والصريح، والذي أحرجَ رئيس المحكمة وبقية الأعضاء، اضطرّت المحكمة للمسارعة في نسف الحوار برمّته، وأن ما وردَ به من تصريحات غير دقيقة، لكن المفاجأة كانت في ردّ الصحيفة التي أكّدت صحّة الحوار الذي أجراه ديفيد كيريك باتريك، وأن لديها التسجيل الكامل له.
وكانت نائبة رئيس المحكمة الدستورية الأسبق قد تقدّمت بدعوى ببطلان الوثيقة الدستورية التي صدرت باسم دستور 2012، والتي كان من ضمنها تعديل البند الخاص بعدد أعضاء المحكمة الدستورية العليا، وهو التعديل الذي أطاحَ بها خارج المحكمة، لكن الدعوى رُفضت في صيف 2018.
وقد بلغ عداء الجبالي للثورة والإخوان أن زعمت في تصريحات متلفزة لها عام 2013، بأن شقيق الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، هو “مهندس الاستثمارات للتنظيم الدولي للإخوان”، وأنه يعمل لصالح الجماعة في مصر من خلال مباشرة رؤوس أموالها وشركاتها في القارة الأفريقية، وهو التصريح الذي أثار سخرية الشارع المصري حينها.
وبينما كان نظام بشار الأسد في سوريا، بالتعاون مع الطيران الروسي والقوات الإيرانية، يدكّ مدينة حلب ويبيد سكّانها بالكيماوي عام 2016، بحسب تقارير الأمم المتحدة، كانت الجبالي تغرّد منفردة على حسابها على فيسبوك وتتّهم الإخوان بأنهم السبب في الأزمة السورية، وأنهم مسؤولون عن الجرائم التي يرتكبها الأسد وميليشياته والقوى الدولية الداعمة له.
تهاني و”الهانم”
معروف لدى الوسط القضائي المصري أن سوزان مبارك هي من عيّنت الجبالي -دون غيرها من النساء- قاضية في المحكمة الدستورية العليا، رغم أن ذلك كان سابقة هي الأولى من نوعها، رغم عدم امتلاكها للمؤهّلات اللازمة ولا الخبرات الضرورية لهذا المنصب الرفيع.
فبعد تخرُّجها في كلية الحقوق في جامعة المنصورة، عام 1973، عملت كمحامية حرّة لمدة 30 عامًا تقريبًا، وكانت تربطها علاقات قوية بسيّدات المجتمع في ذلك الوقت، وكان ذلك جواز سفرها نحو تعيينها قاضية، الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات حول دوافع زوجة مبارك لاختيارها تحديدًا لهذا المنصب، وكلمة السرّ هنا لفكِّ هذا اللغز هي “الاتحاد النسائي المصري”.
تتناقل بعض وسائل الإعلام المصرية رواية تفسِّر سرّ العلاقة القوية بين تهاني و”الهانم”، كما كانت تلقَّب سوزان مبارك، ففي عام 1996 بدأت الناشطة النسوية الراحلة، نوال السعداوي، تدشين ما سُمّي بـ”الاتحاد النسائي المصري” ككيان يدافع عن حقوق المرأة ويسعى لمنحها المزيد من الحقوق، وقد حضر الاجتماع الأول لهذا الكيان قرابة 122 شخصًا، بين رجال ونساء.
كانت وزيرة الشؤون الاجتماعية في ذلك الوقت، ميرفت التلاوي، مرحّبة بشدّة بهذا الكيان الجديد، غير أن سوزان مبارك وجدت فيه تهديدًا لحضورها الاجتماعي في البلاد، وسحبًا لبساط الريادة النسوية من تحت قدمَيها، لكن تحت تهديد وضغط من السعداوي تمَّ عقد الاجتماع التأسيسي الأول رغم تحذير الداخلية.
خلال عملها تحت عباءة سوزان، حصلت الجبالي على العديد من الجوائز والأوسمة، أبرزها درع المركز العربى لاستقلال القضاء والمحاماة عام 1988.
المفاجأة أنه قبل انعقاد الاجتماع بأيام قليلة، خرجت وزيرة الشؤون الاجتماعية لتقول إن هذا الاتحاد غير قانوني وأن الاجتماع مرفوض، وهو ما اعتبرته السعداوي إهانة لها فتنحَّت عن رئاسة الاتحاد، لتكلَّف تهاني الجبالي، العضو المشارك فيه، برئاسته مؤقتًا لحين انتخاب رئيسة جديدة.
جاء اختيار الجبالي رئيسة للاتحاد النسوي هدية على طبق من ذهب لا يمكن ردّها، إذ وجدت في ذلك فرصة لا تعوَّض للتقرُّب من “الهانم”، حيث جمّدت تهاني عمل الاتحاد، فلم تعقد اجتماعًا واحدًا، ولم تدشّن فاعلية واحدة، ما يعني شهادة وفاة غير رسمية لهذا الكيان الناشئ، وبذلك تحقّقَ لزوجة الرئيس ما كانت تريده، ليتمَّ تدشين المجلس القومي للمرأة تحت إشراف السيدة الأولى عام 2000.
وردًّا للجميل، ومكافأة على تلك الخدمة، تمَّ تعيين تهاني الجبالي قاضية في المحكمة الدستورية عام 2003، بل أصبحت نائبة لرئيس المحكمة، كما عُيّنت كذلك عضوًا فى المجلس القومى للمرأة، وظلت المحامية القاضية ظلّ سوزان في معظم -إن لم يكل كل- نشاطتها النسائية حتى قيام ثورة 25 يناير 2011.
وخلال عملها تحت عباءة سوزان، حصلت الجبالي على العديد من الجوائز والأوسمة، أبرزها درع المركز العربى لاستقلال القضاء والمحاماة عام 1988، ودرع الأمم المتحدة للعمل الاجتماعى عام 1990، ودرع المعهد الدبلوماسى بوزارة الخارجية المصرية عام 2003، ودرع نقابة الصحفيين عام 2003، ودرع منظمة المرأة العربية عام 2004.
الإزاحة من المشهد
رغم الجهود التي بذلتها القاضية في التصدّي لثورة يناير والتشكيك في حراكها، ومناهضة أول رئيس مدني يحكم البلاد في أعقابها، مستغلة في ذلك منصبها كنائبة لرئيس أكبر هيئة قضائية في البلاد، إلا أن ذلك لم يشفع لها عند نظام ما بعد 3 يوليو/ تموز 2013، إذ أُزيحت عن المشهد بصورة شبه كاملة.
وعندما حاولت العودة للساحة السياسية مرّة أخرى عبر بوابة الانتخابات البرلمانية عام 2015، وهي أول انتخابات جرت في عهد السيسي، تمَّ التصدي لها، وإجهاض مساعي استعادة الأضواء مرة أخرى، ما دفعها للهجوم على قائمة “في حب مصر” المدعومة والداعمة للسيسي، متّهمة قياداتها باستخدام “المال السياسي” للفوز بجميع مقاعد البرلمان عام 2015.
تصريحاتها تلك أثارت حفيظة السلطات الحاكمة، وعليه كان التحذير من مغبّة وتداعيات مثل تلك الأحاديث التي ربما تُوقِعُها تحت طائلة القانون والمساءلة، وعليه كان الغياب عن الساحة طيلة السنوات الماضية، حتى عودتها قبل عامَين تقريبًا خلال مداخلة لها على فضائية “صدى البلد” المملوكة لرجل الأعمال المقرَّب من النظام، محمد أبو العينين، عضو البرلمان المصري.
حاولت المستشارة في تلك المداخلة مغازلة السلطات والرئيس بتصريحات وردية، قالت فيها إن الشعب المصري “حمّل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ما لا طاقة له به، وحمّلوه كل شيء ونتائج كل شيء”، مؤكدة على أن “الإصلاح السياسي ليس مسؤولية السيسي فقط، ولكنها مسؤولية النخب”، مناشدة لإقامة مؤتمر للحوار الوطني تدعو إليه مؤسسة ثقافية كبيرة.
لكن يبدو أن رسائل المغازلة لم تجنِ حصادها، ولم تحقِّق أهدافها، إذ لم تحرّك ساكنًا في وضعها العام الذي ظلَّ على ما هو عليه، حيث أفَلَ نجمها وسُحب البساط من تحت قدمَيها وأُبعدت عن الساحة السياسية والإعلامية معًا، حتى أصيبت بفيروس كورونا قبل أسبوع ونُقلت على إثره للمستشفى حيث لفظت هناك أنفاسها الأخيرة، ليُسدَل الستار على حياة واحدة من أكثر سيّدات مصر إثارة للجدل في العقدَين الماضيَين.