بحفل افتتاح بسيط، حضره القادة السياسيون لدولة الكاميرون ومسؤولو الاتحاد الوطني والأفريقي لكرة القدم، وعلى رأسهم باول بيا رئيس الكاميرون وأقدم حاكم في العالم، إلى جانب جياني إنفانتينو رئيس الاتحاد الدولي للُّعبة، وباتريس موتسيبي رئيس الاتحاد الأفريقي، وعدد من نجوم الكرة في القارّة السمراء؛ انطلقت أمس الأحد فاعليات النسخة الـ 33 من بطولة أفريقيا لكرة القدم.
كعادة احتفالات القارة السمراء، خلا الاحتفال من الإبهار البصري والتكنولوجي، لصالح الأيقونات الثقافية والشعبية من موسيقى وأغانٍ ورقصات، وفي لافتة ثقافية خطفت أنظار الحضور، رتّبَ المنظمون مشهدًا لدخول أسد “هولوغرام” إلى الملعب الذي يحمل اسم رئيس البلاد، حيث يُعتبر الأسد رمزًا مرتبطًا بالمنتخب الكاميروني، وبالغابات المفتوحة في قارّة أفريقيا بشكل عام.
في أرض الملعب، استهلَّ المنتخب الكاميروني، أحد أبرز المنتخبات المرشحة للفوز بالبطولة، وأكثر الفرق مشاركة في المباريات الافتتاحية، وثاني أكثر الفرق تتويجًا بالمسابقة بعد مصر؛ مشواره بفوز مهم على خصمه القوي منتخب بوركينا فاسو بنتيجة 2-1، ليتقاسم صدارة مجموعته بالمناصفة مع كابو فيردي التي فازت على إثيوبيا في المباراة الثانية بالمجموعة بهدف نظيف.
رغم أهمية تلك المنافسة من الناحية الفنية وأهمية حفل الافتتاح، إلا أن الساعات السابقة لصفارة الانطلاق كانت تشهد معركة تكسير عظام ذات بُعد ثقافي وحضاري، وجدلًا حاميًا حول إمكانية تأجيل، أو إلغاء، تلك النسخة، مقابل تصميم قلائل من رموز القارّة على ضرورة خوض البطولة في موعدها.. فما القصة؟
تعسُّف أوروبي ضد أفريقيا
رغم كون هذه البطولة التي تقام حاليًّا في يناير/ كانون الثاني 2022، وتمتدّ إلى 6 فبراير/ شباط القادم، تعود في الأصل إلى عام 2021، وقد جرى تأجيلها بذريعة الوباء وعدم جاهزية الكاميرون للاستضافة، فإن الفيفا (الاتحاد الدولي لكرة القدم) واليويفا (الاتحاد الأوروبي) حاولا تأجيلها هذا العام أيضًا، مع دعوات إلى إلغائها.
برّر الأوروبيون هذه الدعوات بالخوف على المنتخبات المشاركة والجماهير من خطر انتشار الوباء، في ظل ظهور متحوِّر أوميكرون الجديد، ومن ثم ضرورة التأجيل أو الإلغاء الكامل حتى، وهو ما لم يَرُق أو يلقَ استحسانًا عند الكثير من رموز الكرة الأفريقية.
فقد اعتبر عدد من رموز كرة القدم الأفريقية هذه الطلبات الغربية تدخّلًا سافرًا ذا بُعد ثقافي وحضاري استعلائي ضد القارة السمراء من المستعمر القديم ذي البشرة البيضاء، وقرروا أن يتصدُّوا لتلك المحاولة التي لا وجاهة لها في نظرهم، بالأخذ في الاعتبار أن أوروبا منحت نفسها الحق في تنظيم نسختها من البطولة نفسها عام 2020، في ذروة الجائحة، دون سوق مثل هذه الحجج.
أحد أبرز الذين انبروا إلى تلك المعركة بشراسة واضحة، كان اللاعب الأفريقي الكاميروني الذي طالما صالَ وجالَ في الملاعب الأوروبية، صامويل إيتو، معتبرًا أنه يمثّل القارّة الأفريقية كلها، ولا يمثل منتخب بلاده، الذي يرأس اتحاده الكروي منذ فترة وجيزة، في وجه هذا الظلم الواضح غير المبرَّر على حدّ تعبيره.
يورغن كلوب.. تصريحات غير موفّقة
تبلورت تلك الأزمة في الأيام الأخيرة قبل انطلاق البطولة على لسان المدير الفني الألماني لنادي ليفربول الإنجليزي، المعروف بلباقته مع الجميع، يورغن كلوب، إذ لَمَزَ الألماني تلك البطولة في المؤتمر الصحفي الخاص بمباراة فريقه ضد بورتو البرتغالي في منافسات دوري أبطال أوروبا، بأنها “بطولة صغيرة تقام في يناير/ كانون الثاني”.
إلى جانب كونه استعلاء واضحًا من ناحية السماح لنفسه بتقييم قارّة بأكملها ووصف أنشطتها الرياضية المشروعة بالضعف، فقد فسّرَ صحفيون رياضيون متخصِّصون تلك التصريحات من جانب كلوب، بأنها تعبير عن مخاوفه من تأثير غياب لاعبيه الأفارقة، صلاح وماني وكيتا، عن الفريق لمدة شهر تقريبًا، وهي الفترة نفسها التي خسرَ فيها الفريق معظم المسابقات المهمة العام الماضي.
في وقت لاحق، حاول كلوب ومسؤولو الجوانب الإعلامية في النادي الإنجليزي احتواء تلك الأزمة، على الأقل فيما يخصُّ كلوب وليفربول ولاعبيه الأفارقة، وتلطيف الأجواء، عبر إعادة تأويل ذلك التصريح، وإعطائه بُعدًا مازحًا ثم الاعتذار عنه وتصحيحه، ولكن ذلك لم يشفع له عند رموز القارّة.
فقد انفجر عدد من أعلام القارّة في مجالات متعددة، على رأسها كرة القدم، في وجه تلك العجرفة الأوروبية الواضحة، حتى أن مدرّب المنتخب السنغالي، الذي يلعب في صفوفه السنغالي ساديو ماني، ردَّ على تلك التصريحات في حديث لموقع “سبورتس رايشن” قائلًا: “إن على كلوب أن يشعر بالامتنان تجاه اللاعبين الأفارقة في صفوف فريقه، إذ كان سيخسر كل المنافسات في غيابهم”، منتقدًا تلك الجرأة في الاستعلاء على الآخرين، مضيفًا: “أنا لا أحترمه لأنه متعجرف ومن الجيد أن ماني متواضع بخلافه”.
إيتو.. تاريخ من المواقف المشرِّفة
حاول البعض الربط بين موقف اللاعب الكاميروني السابق، صامويل إيتو، الرئيس الحالي لاتحاد الكرة في منتخب بلاده، وطموحه المضمَر كممثّل مستقبلي عن الكرة الأفريقية، بعد فترة من رئاسته لاتحاد بلاده، مستندًا على شعبيته الواسعة في القارّة السمراء جرّاء هذا الموقف.
ولكنَّ بحثًا سريعًا عن تاريخ اللاعب السابق، يكشف أن هناك جذورًا قديمة وطويلة لمثل هذه الصدامات بين إيتو والأوروبيين، حين طالب برشلونة من اللاعب صراحة عام 2007 أن يغضَّ الطرف عن الانضمام لمنتخب بلاده في بطولة أفريقيا في غانا 2008، متذرّعًا (النادي) حينها بأن اللاعب كلّف خزينة النادي والفريق وقتًا ومالًا خلال إصابته في الفخذ قبل تلك البطولة، ومادحًا، في الوقت نفسه، زميله رونالدينهو، لتخلُّفه عن الانضمام للبرازيل في المنافسة القارّية المشابهة.
رغم ذلك الضغط حينها، والذي كان ممنهجًا إلى درجة ممارسته أيضًا على زميله في الفريق، لاعب الوسط حامل الجنسية الإيڤوارية يايا توريه، الذي قال مسؤولو الفريق إنهم اشترطوا عليه ألّا يشارك في البطولة قبل التعاقد معه؛ فقد انضمَّ إيتو إلى منتخب بلاده، ووصل معهم إلى نهائي البطولة، التي فازت بها مصر.
في مناسبات كثيرة قبل أن يظهر إيتو كإداريٍّ على السطح، شنَّ هجومًا على عناصر بالقارّة السمراء لتخاذلها عن دعم رموز القارّة في المنافسات الدولية أمام خصومهم العالميين، معتبرًا أن هناك مشكلة حضارية لدى بعض الأفارقة تجعلهم يفضّلون الغربي على الأفريقي.
برز ذلك قبل عامَين، في ديسمبر/ كانون الأول 2019، حينما اتّهم الصحفيين الأفارقة بخذلان السنغالي ساديو ماني في المنافسة على جائزة أفضل لاعب في العالم، والتي حصل عليها ميسي وقتها؛ “لأن اللاتينيين صوّتوا لميسي، والأوروبيين صوّتوا للهولندي فان دايك الذي حلَّ ثانيًا. أمّا الصحفيون الأفارقة فقد توزّعت أصواتهم بعيدًا عمّن يستحق وهو ماني، لمجرد كونه أفريقيًّا”.
أما في تلك الأزمة الأخيرة، فقد ألمحَ الكاميروني إلى وجود دعم من داخل الكاف للمخطَّط الأوروبي، لم يحدِّد أصحابه، ولكن مواطنه الفذّ روجيه ميلا صرّح لاحقًا أنه يعتقد أن قيادات في اتحادَي الكرة المصري والمغربي تقفُ خلفه، مطالبًا إياهم بالانحياز لأفريقيا “أو اللعب مع آسيا وأوروبا”.
أبو تريكة على الخط
ليس إيتو أو الكاميرونيون وحدهم من شعروا بالإهانة من تصريحات الأوروبيين وتصرُّفاتهم حيال التجمُّع الكروي الأهم للمنتخبات على مستوى القارّة، وإنما عبّر عن ذلك أيضًا رموز آخرون بارزون في تاريخ الكرة الأفريقية، مثل محمد أبو تريكة.
قبل البطولة بأيام، قال المصري الذي يعمل حاليًّا محلِّلًا رياضيًّا على شاشة “بي إن سبورت”، إن التوصيف الدقيق للطريقة التي يتعامل بها مسؤولو الكرة الأوروبية مع الاتحاد الأفريقي هي “احتقار احتقار“، على حدّ تعبيره.
جاء ذلك عقب إعلان الاتحاد الدولي موافقته على قيام الفرق الأوروبية بتسليم لاعبيها الأفارقة المحترفين إلى منتخباتهم القومية قبل 5 أيام فقط من البطولة، وهو ما لا يحدث مع لاعبي أمريكا اللاتينية مثلًا، الذين ينضمّون لفرقهم الوطنية قبل أسبوعَين من البطولات القارّية المجمعة، وهو ما يكشف التمييز في المعاملة وفقًا لأبو تريكة.
وما يؤكد تلك النظرة أيضًا من جانب الفيفا إلى الكاف بحسب المصري، أن الاتحاد الدولي، والذي يعيّن نصف مجلس إدارة اتحاد كرة القدم الأفريقي، سمح بحدوث تعارض زمني بين بطولة أفريقيا التي ستستمر حتى بداية فبراير/ شباط، وكأس العالم للأندية الذي يشارك فيه الأهلي المصري بداية من 3 فبراير/ شباط أيضًا، وهو ما يعني حرمان النادي الأفريقي من نجومه المشاركين مع منتخب مصر في البطولة الأفريقية.
ما زالت قارّة مهمَّشة
رغم ما يُقال عالميًّا عن ضرورة محاربة العنصرية والتمييز السلبي، يعتقد إيتو أن الغرض الحقيقي من دعوات الأوروبيين إلى إلغاء تلك النسخة والتقليل من البطولة، هو اعتقادهم أن أفريقيا أقلّ استحقاقًا وأهمية من الأندية الأوروبية، وهو ما لا يمكن القبول به.
في حواره مع صحيفة “ذا أتليتيك” البريطانية، قال اللاعب الكاميروني كلامًا جريئًا بعيدًا عن كرة القدم، فما يحدث في الكرة وفقًا له هو مجرد تكثيف لما يحدث في باقي المجالات؛ إذ “يأتي الجميع سعداء للتجارة في أفريقيا ولكن الأمور تتغير حينما تطلب أفريقيا أية مساعدة من أوروبا”.
ما تحتاجه القارّة وفقًا للكاميروني على وجه التحديد، هو التفاف أبنائها حول مصلحتها كما يفعل الآخرون، حتى يمكن لهم الحصول على حقوقهم، بل المنافسة على كأس العالم؛ فمن يمتلك صلاح وماني وأوباميانغ ومحرز، لمَ لا ينافس على كأس العالم؟ يقول إيتو.
ويشارك في تلك النسخة الاستثنائية من البطولة 24 منتخبًا، تعدّ منتخبات الجزائر ومصر والكاميرون، على الترتيب، هي الأوفر حظًّا في فرص الفوز بها، وقد حدّد الاتحاد الأفريقي 80% من الملاعب سعة قصوى لحضور الجماهير في مباريات الكاميرون، وأقل بنسبة 20% في مباريات باقي الفرق، وذلك ضمن التدابير الصحّية لتلافي انتشار فيروس كورونا.