على طول 3 كيلومترات على شاطئ البحر المتوسط، يقع ميناء حيفا أحد أهم موانئ الاحتلال الإسرائيلي، بطاقم عملٍ يتجاوز الـ 5000 عامل، ويتفرّد بشكل حصري دون ميناءَي أسدود وإيلات (أم الرشراش المحتلة) بالعمل على مدار الساعة طيلة أيام الأسبوع، وسنويًّا يمرُّ عبر الميناء ما يقرب من 30 مليون طن من البضائع، أكثر من أي ميناء آخر في الداخل المحتل.
لم تكن لهذه الأرقام الكبيرة أن تُحقَّق لولا موقع مدينة حيفا الجغرافي الاستراتيجي، وامتداد خليج حيفا عند الخط الواصل بين جبل الكرمل والبحر وعمق مياه مينائها، وقد أسهمَ الميناء تاريخيًّا في رفد المدينة الفلسطينية بالتجارة والسيّاح، وإنعاش اقتصادها وحياة أهلها، ومنذ بنائه حتى اللحظة تحوم حوله العديد من الاستثمارات السياسية والتجارية وحتى الأمنية أملًا بنيل ولو بظفيرة قليلة منه.
ما قبل النكبة
في عام 1761، وُضعَ حجر الأساس لفكرة بناء ميناء حيفا على يد الشيخ ظاهر العمر، وخلال القرن التاسع عشر تطوّر الميناء، رغم انتكاسة عمله في بعض الفترات بسبب الأوضاع السياسية المتقلِّبة حينها، خاصة مع بدء تأرجُح استقرار الدولة العثمانية.
وبدأت الأطماع الأوروبية تتّجه نحو ميناء حيفا، مستغلّة التحالفات والتجاذبات السياسية حينها، وقد كشفت تقارير صادرة عن الدول الأوروبية قديمًا، أن خليج حيفا يحظى بما يميزه من حيث اتّساعه عند حيفا، وتراجُع الريح في بعض جنباته، وإمكانية رسو السفن بأمان، لهذا بدأت شركات ملاحة أوروبية ذات تاريخ حافل بإرسال سفنها إلى حيفا بدلًا من عكا، وكانت شركة “لويد” النمساوية الشركة الأولى التي أوفدت سفنها إلى ميناء حيفا، مع بداية الخمسينيات من القرن التاسع عشر.
وفي تلك الحقبة، تميّزت سفن الركّاب الأوروبية بحملها السيّاح والحجّاج المسيحيين على وجه الخصوص، ليحجّوا إلى الناصرة والقدس وبيت لحم، ما أتاح فرصة لتشجيع موجات أخرى ومتوالية من الحجّاج المسيحيين الذين بدأوا يصلون إلى الأراضي المقدسة، سواء شمالي فلسطين أو في العاصمة المقدسة وفي مهد عيسى عليه السلام.
ومع وقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، عملت القوات الإنجليزية على تشييد البنية التحتية للميناء وتطوير مرافقه، وبعد 11 سنة من العمل، اُفتتح الميناء بحلّته الجديدة عام 1933، وبدأ باستقبال النفط العراقي عبر خط أنابيب من حقول كركوك في الشمال، كما ساهم الميناء الجديد في تصدير كثير من منتجات فلسطين والأقطار العربية المجاورة إلى العالم.
الأطماع الصهيونية
مع تنامي دور حيفا من خلال مينائها وما شهدته من تطور اقتصادي كبير أثرى الحياة الفلسطينية، كان لا بدَّ للصهيونية في مخططاتها الاستعمارية أن ترى في حيفا الفريسة الثمينة، التي لا بدَّ من الانقضاض عليها لترسيخ دعائم الدولة الصهيونية على الأراضي الفلسطينية.
في سبيل ذلك، كان المخطَّط الصهيوني جليًّا في سعيه لإلحاق ضربة قوية ومباغتة بالمدن الفلسطينية، أولًا بمدينة حيفا كمكانة اقتصادية واستراتيجية وميناء مهم، ودورها فلسطينيًّا كمدينة تجارية أولى، وبذلك شهد التاريخ الفلسطيني عام 1948 سقوط مدينتَي حيفا ويافا في وقت مبكّر قبل الإعلان عن إقامة “إسرائيل”، وهو بلُغة الأرقام ما يشكّل 25% من النكبة الفلسطينية حينها.
وقد أدّى احتلال وإبادة مدينة حيفا وتهجير أهلها إلى فقدان الطاقة والقدرة الاقتصادية التي كان يتمتّع فيها المجتمع الفلسطيني، فعلى الرغم ممّا تشهده الأرياف من مخزون الثروات والخيرات الطبيعية والزراعية، إلا أنها لم يكن لديها القوة الاقتصادية كما كانت في حيفا.
وقامت “إسرائيل” على ما هو موجود بالفعل، وعملت على تنمية ما بناه العرب في فلسطين المحتلة وفي مدينة حيفا خصوصًا، وقد استفادت من موروث ضخم شملَ البنية التحتية الاقتصادية، ما وفّر عليها في السنوات العشر الأولى من احتلالها فلسطين مبالغ طائلة، وساعدها التقدم القائم في تطوير وبناء قدراتها الاقتصادية مستقبلًا.
ليس اقتصاديًّا فحسب، بل عسكريًّا كذلك!
لا تقتصر أهمية ميناء حيفا على وزنه الاقتصادي فحسب، بل تمتدُّ لتشمل ما يمثله الميناء من موقع عسكري يخشى الاحتلال الإسرائيلي من استهدافه، نظرًا إلى ما يحتويه الميناء من أسلحة نووية وغير تقليدية، وكمنطلق للآليات العسكرية البحرية.
وفي الجانب الشرقي لميناء حيفا، تقع قاعدة “بولونيوم” للأسلحة البحرية، وتحتوي على صواريخ برؤوس نووية، وهي القاعدة التي تُعتبر مقرًّا للغواصات الحربية وخاصة نوع الدولفين المعدّ لحمل صواريخ ذات رؤوس نووية، كما يضمّ مخطط القاعدة بناء مقرّ ضخم يتمّ من خلاله إدخال الأسلحة والمعدات العسكرية الجديدة، بما في ذلك الأسلحة النووية والكيميائية الخطيرة.
ويعدّ الميناء منطقةً حيوية لتفقُّد السفن الحربية الإسرائيلية، أي يحتوي على حوض لصناعة السفن الحربية التابعة لسلاح البحرية في الجيش، وفيها يتمّ التعديل على هذه السفن، وتجهيزها بالأنظمة القتالية والتقنية واللوجستية بما يتكيّف مع مهام سلاح البحرية الصهيوني.
في معترك المصالح السياسية
وسط هذه الأهمية الاقتصادية والأمنية للميناء، وموقع حيفا كبوابة لدول الشرق في المتوسط، لم تكفَّ الدول عن إيلاء الميناء مرتبة في خططها وتجاذباتها السياسية من أقصى دول شرق آسيا إلى أقصى الغرب، وقد أحدث الميناء بفعل الاهتمامات الأجنبية به، توترات بين دول كبيرة في منطق السياسة والاقتصاد.
في عام 2015، طالت أيدي النشاط الصيني وما يخفيه من خبايا سياسية واقتصادية ميناءَ حيفا، حيث تعاقدت حكومة الاحتلال مع شركة صينية لإدارة الموانئ هي Shanghai International Port Group، وحصلت الشركة على عقد امتياز تشغيل ميناء حيفا لمدة 25 عامًا، وإدارة مرفأ حيفا الجديد، وبدأت الإدارة الرسمية بداية عام 2021.
وهذه الشركة الصينية هي الشركة ذاتها التي تدير ميناء شنغهاي، ووفقًا للعقد مع حكومة الاحتلال، تدير الشركة شؤون ميناء حيفا – القسم الجديد الذي بناه الإنجليز خلال فترة الانتداب، وفقًا لأحدث الطرق والأساليب لتفريغ البضائع وتصدير الحمولة.
مع تصاعُد هذا التغلغل الصيني، انتقلت التوترات الصينية-الأمريكية إلى الأراضي المحتلة، وبحسب صحيفة “هآرتس” العبرية، فإن انتقادات شديدة ضد “إسرائيل” تعالت في الإدارة الأميركية، وبشكل خاص في وزارة الدفاع (البنتاغون)، بسبب ضلوع الصين في مشروع توسيع ميناء حيفا، على خلفية احتمال أن تشكّل هذه الأعمال الصينية ثغرة لتنفيذ مراقبة تكنولوجية أخرى لما يحدث في الميناء، وجمع معلومات عن نشاط سلاح البحرية الإسرائيلية وأنشطته المشترَكة مع سفن أميركية.
بينما أعلنت شركة موانئ دبي عن انسحابها من الاتفاق دون إبداء الأسباب، تناولت تقارير عبرية أن الرفض جاء من طرف الاحتلال للعرض الإماراتي، وذلك “لأسباب استراتيجية، تلامس الأمنية”.
وقد حذّرت الولايات المتحدة حكومة الاحتلال حينها من استمرار تعاونها مع الصين، ملوّحة باحتمالية توقُّف سفن الأسطول الأميركي عن الرسو في ميناء حيفا بسبب الأعمال الصينية، وذلك في ظلِّ تحفُّظ الأمريكيين عن “اتساع التأثير الصيني في “إسرائيل””، وما قد يشكّله هذا التأثير من خطر على مصالح استراتيجية أميركية في الشرق الأوسط.
ليست الصين وحدها من طمعت في الميناء، فبعد توقيع اتفاقية التطبيع “أبراهام” بين الإمارات والاحتلال، تناولت الأخبار عن إمكانية تولّي دبي لأعمال استثمارية في الميناء برفقة شركة إسرائيلية، وذلك وفق ما صرّح به رجل أعمال إسرائيلي لصحيفة “مكور ريشون” العبرية، بأن “الشركات في الإمارات تهتم بشكل كبير بمجال الشحن الإسرائيلي، كما تعتبر ميناء حيفا مفترق طرق إلى أوروبا، وتسعى إلى مشاريع أكبر في المجال البحري مع الشركات الإسرائيلية، إذ يقع هذا الميناء في موقع استراتيجي”.
ورغم إبرام موانئ دبي العالمية اتفاق مع شركة “شيبياردز إندستريز” الإسرائيلية، للتعاون حصريًّا في خصخصة ميناء حيفا، قالت سلطة الشركات الحكومية في دول الاحتلال، في بيان صدرَ في ديسمبر/ كانون الأول 2021، إن موانئ دبي طلبت إنهاء شراكتها في هذا العرض، مضيفة أن “شيبياردز إندستريز” طلبت مواصلة العمل بمفردها.
وبينما أعلنت شركة موانئ دبي عن انسحابها من الاتفاق دون إبداء الأسباب، تناولت تقارير عبرية أن الرفض جاء من طرف الاحتلال للعرض الإماراتي، وذلك “لأسباب استراتيجية، تلامس الأمنية”.
وفي الوقت الذي يحتفي الاحتلال بإنجازه في هذا الميناء الضخم اقتصاديًّا، والجاذب لأقطار المناورات والتجاذبات السياسية الدولية، ينسى أن هذا الميناء بناه الفلسطينيون بأنفسهم، وقد شهدَ في تقسيماته الأولى على عرق جبهاتهم وخشونة أيديهم وانحناء ظهورهم، ويعود عمره إلى ما قبل الاحتلال الإسرائيلي بما يقارب 200 عام.