ترجمة حفصة جودة
عندما قصف الطيران الإسرائيلي حيّها بالقنابل في مايو/أيار من العام الماضي، لجأت رهاف البطنيجي إلى قبو منزلها وبدأت في رسم صور الضحايا كما كانت تتخيلهم، تقول رهاف: “حاولت أن أتخيل كيف كانت ستبدو حياة الشهداء لو لم يقتنصهم الموت، كنت أتخيل لو أن لأحدهم شجرة صغيرة فسيرعاها، أو إذا ما كانوا نائمين أو ينظرون من النافذة، لقد تخيلت ذلك كله”.
في كراس الرسم الذي احتفظت به خلال وبعد الحملة العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة المحاصر، رسمت رهاف 50 صورةً للضحايا الذين سمعت أسماءهم وعرفت أعمارهم من الأخبار على التلفاز.
قالت الفنانة – 31 عامًا – إنها كانت صورًا باكيةً، فقد كان الرسم طريقها الوحيد للهروب من الأخبار المروعة ومنعها من الانهيار، تضيف رهاف “في أثناء الحرب، تفقد ثباتك وإحساسك وإنسانيتك، هذا هو هدفهم من تلك الهجمات المستمرة، أن يجعلوك تفقد نفسك، ربما لذلك رسمت الصور باللون الأسود وهو شيء لم أخطط له، لقد حدث من تلقاء نفسه”.
“كان هناك شيء ما يسحقني من الداخل، صوت لا أستطيع أن أتخلص منه، لقد حولت هذا الصوت إلى خطوط وفي بعض الأحيان لم أكن أعلم تمامًا ما الذي أرسمه حتى وجدت أنني رسمت تلك الوجوه”.
وجوه مُتَخيَلة
مع اشتداد القصف الإسرائيلي في أثناء حملة الـ11 يومًا، لجأ أشقاء رهاف المتزوجين وأبناؤهم وبناتهم إلى منزل العائلة، كانت كل أسرة تحتمي في غرفة من غرف القبو، وكانت رهاف تستريح بشكل متقطع من تلك الفوضى المحيطة بها بقضاء الوقت في المرسم الصغير في فناء المنزل الأمامي.
شاركت أول صورة لها على صفحتها على فيسبوك في اليوم الرابع من العملية العسكرية، كانت الصورة بعنوان “مشهد ليلي” تصور عائلتها في أثناء الهجوم.
تقول رهاف: “كنت أفكر باستمرار في المشهد عندما كان أبناء وبنات أشقائي يختبئون من القصف في حضن أمهاتهم، كانت مشاعري هي التي رسمت تلك الصورة، إذا لاحظتم ذلك، ستجدون أن الأم التي من المفترض أن تحمي أطفالها تشعر بالرعب أيضًا وترغب في الهرب، لكن كان هناك طائر فوق رؤوسهم جميعًا”.
لم يكن الرسم أداةً فقط كي تعثر رهاف على الراحة وسط المجزرة، لكنه ساعدها كذلك في التعامل مع مشاعر العجز، فبالنسبة لها، كانت الرسومات طريقة للقيام بشيء ما للضحايا بإبقاء أسمائهم وقصصهم حية.
قالت رهاف إن هذه الوجوه التي رسمتها ليست وجوه الأشخاص الذين قُتلوا في الهجمات، لكنها صور لوجوههم التي تخيلتها.
مع استمرار ارتفاع عدد القتلى الفلسطينيين ووصولهم إلى 259 شهيدًا بنهاية الحملة العسكرية، لم تعد رهاف ترسم فقط صور الأشخاص الذين سمعت أسماءهم في الأخبار، تقول رهاف: “هذه الحرب كانت مختلفة لأن العديد من أسماء الشهداء التي سمعناها لم تكن بعيدة هنا، كانوا أشخاصًا ألتقيناهم وعرفناهم، كانوا يعيشون في نفس المنطقة معنا”.
في أربعة من الصور التي نشرتها على فيسبوك في أثناء الهجمات، رسمت رهاف أنواعًا مختلفةً من النباتات مع الشخصيات كإشارة للهدوء والسلام
“من بين هؤلاء ريهام الكولك، صديقة صديقتي، وديمة سعد التي قُتلت مع جنينها في رحمها وطفليها حولها، في كل مرة تتحول هذه القصص – قصصنا – إلى مجرد أرقام في الأخبار، أشعر بالعجز والتقلب النفسي، ساعدني رسم هذه الصور في أثناء الحرب فقط في التعامل مع تلك الأزمة”.
الاشتياق للهدوء
رسمت رهاف صورة للكولك – 33 عامًا – التي قتلت في غارة إسرائيلية جوية على منزلها في شارع الوحدة وسط مدينة غزة، ضربت الغارة منزلها بعد دقائق من نشرها دعاءً بالنجاة على فيسبوك.
تقول رهاف: “هذه الصورة “السيدة النائمة” التي أهديتها لروح ريهام الكولك، لمستني بشدة، أهديت معظم صوري للضحايا من الأطفال، لكن هذه الصورة كانت مختلفة”.
“عندما رسمت هذه الصورة، كانت أمي ترقد أمامي وتخبرني عن مدى الرعب الذي تشعر به تجاه الذين رحلوا، بدأت في رسم الخطوط بينما كانت تتحدث، لا أعلم كيف انتهى الأمر بتلك الصورة، تخيلت ريهام في تلك الصورة لأنها كانت في نفس عمري تقريبًا وشعرت بتلك الرابطة بيننا، عادة ما نحتاج إلى الراحة والشعور بالأمن والأمان، لذا رسمتها نائمة بأمان”.
في أربعة من الصور التي نشرتها على فيسبوك في أثناء الهجمات، رسمت رهاف أنواعًا مختلفةً من النباتات مع الشخصيات كإشارة للهدوء والسلام، وفي صورتها التي أهدتها لديمة عسلية – 10 سنوات – رسمت فتاة تقف بجوار إصيص من الزرع وتحدق من نافذة تطل على مشهد معتم في الفوضى بالخارج.
تقول رهاف: “كانت هذه الصورة من أول المشاهد التي رسمتها بينما كنت أفكر في الهدوء خلال الحرب، بشكل عام نحن نعاني بشأن فكرة الهدوء والسلام بمعناهما الواسع، لكن في أثناء الحرب نبدأ في التفاوض من أجل نصف ساعة من الهدوء، نصف ساعة من الاختباء”.
“بينما تحاول الاختباء، تجد نافذة كبيرة أمامك تطل على الدخان ودوي الحرب، فتحاول بقدر الإمكان أن تبعد نفسك عن هذا المشهد وتحافظ على هدوئك، كانت النباتات أحد الأشياء التي واصلت الحفاظ عليها ورعايتها في أثناء الحرب للحفاظ على هدوئي”.
قُتلت عسلية يوم 19 مايو/أيار في قصف جوي إسرائيلي بينما كانت تمشي عائدة إلى منزلها من منزل أختها بعد أن طلبت منها والدتها أن تحضر فرنًا كهربائيًا صغيرة لصنع بعض الخبز في المنزل.
الضحايا من الأطفال
من بين 259 فلسطينيًا قتلتهم “إسرائيل” في غزة خلال شهر مايو/أيار، كان هناك 66 طفلًا وفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية، بعد العدوان، عانى 9 من كل 10 أطفال في هذا القطاع الساحلي من بعض أشكال اضطرابات ما بعد الصدمة المتعلقة بالحرب.
تكشف معظم صور رهاف مستقبل هؤلاء الضحايا الصغار كما تخيلتهم، لأنهم لم يحظوا بالفرصة لصنعه بأنفسهم، تقول رهاف: “يحظى الناس في عمري بفرصة لعيش جزء من حياتهم واختبار هذا المعنى، لكن هؤلاء الأطفال لا يعرفون حتى ما تعنيه الحياة”.
في أثناء الرسم، كانت رهاف تنفجر أحيانًا في البكاء وهي تفكر فيما كان سيبدو عليه مستقبل هؤلاء الأطفال، تقول رهاف: “من بين الصور التي رسمتها صورة لطفلة تدعى بثينة عبيد، كان عمرها 7 سنوات، ما الذي كان يمكننا أن نفعله من أجلها؟ كان عمرها 7 سنوات فقط وقد اختفى اسمها للتو، انتهت حياتها بلا رجعة، كيف كانت تبدو الحياة التي حلمت بها؟”.
“لم أر صورة لبثينة ولم أعرف كيف كانت تبدو، أعرف فقط كيف قُتلت، لذا تخيلت وجهها ورسمتها مع شمعة”، توفيت عبيد متأثرة بجراحها يوم 14 مايو/أيار الذي وافق ثاني أيام عيد الفطر، بعد أن أصيبت في رأسها بشظايا صاروخ إسرائيلي استهدف مكانًا قريبًا من منزلها في مخيم جباليا شمال قطاع غزة.
في صورة أخرى نشرتها قبل يوم من وقف إطلاق النار، رسمت رهاف امرأةً تحمل صورةً لثلاثة أطفال، كانت مهداة لروح يامن أبو حطب – 6 سنوات – الذي قُتل يوم 15 مايو/أيار، تقول رهاف: “أكثر شيء حطم قلبي كان قتل عائلات بأكملها مثل عائلات الكولك وأبو حطب واليازجي”.
“فقدت الكثير من الأمهات أطفالهن في أثناء الهجوم، ولم يبق من هؤلاء الأطفال إلا صورهم، بالنسبة لهؤلاء الأمهات، أصبح أطفالهم مجرد صور”.
قتل أبو حطب في غارة جوية على منزله في مخيم الشاطئ غرب غزة، وقد قتل 10 أشخاص من نفس العائلة في هذا الهجوم من بينهم 8 أطفال وامرأتان، بعدها بيوم قُتل آدم الكولك – 4 سنوات – مع والديه وأشقائه في سلسلة من الغارات الجوية التي استهدفت حيّهم في شارع الوحدة وسط مدينة غزة.
أهدت رهاف صورة لـ”الكولك” رسمت فيها صورةً لامرأة تنشر الغسيل، تقول رهاف: “هنا، كانت والدة آدم أو جدته تنظر إلى ملابسه التي غسلتها للتو حتى يرتديها اليوم التالي، لكن لم يكن هناك يوم تالٍ”.
المصدر: ميدل إيست آي