لم يُصِبْ حدسها الأمومي هذه المرة، فإن الايحاءات التي كان يحاول صغيرها تمريرها، في وقت الليل تحديدًا، كانت بمثابة أنين خافت لأجل النجدة من حالة الرعب التي لم تخجلهن عيناه الذابلتان من إيقافها، وجسده المرتجف أحيانًا من الخوف الذي لا يحكيه.
تظهر مريم جريس، والدة الطفل، بحالة من الانهيار وهي تروي تفاصيل اكتشاف تعرُّض رضيعها (14 شهرًا) للتعنيف، من قبل المربّيات في إحدى حضانات قرية فسوطة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تقول: “إن تلك الايحاءات كانت تترجمها من الجانب الطبّي دون أن تنتبه إلى أن صغيرها قد أثّر التعنيف على قدرته الكلامية بصورة واضحة، فيحاول الصراخ بالقول: “يضربونني يا ماما””.
هكذا بدأت ويداها ترتجفان: “بدأ طفلي في الكلام بعمر 9 أشهر، كان ينطق الكلمات بوضوح، ولكن فجأة انقطع من دون سابق إنذار، عرضتُه على طبيب أطفال، وأجرينا ما يلزم من فحوص، لكن لا مشكلات لديه”.
ذات يوم عاد ابنها بعلامة حمراء على جبينه، هنا أصبحت فرضية تعرُّضه للتعنيف واردة جدًّا، تقول الأم؛ زرعت جريس جهاز تسجيل للصوت في لعبة ابنها، أظهرَ تعرُّضه للتعنيف من قبل الحاضنة: “كانت تشتمه وتصرخ في وجهه وتضربه، كانت ترفع الغطاء عليه وهو نائم وتلطمه على وجهه من دون ذنب، كانت تنكّل به دون رحمة”.
من غير المستطاع مقارنة نِسَب شيوع العنف ضد الأطفال في الدول العربية، لأن أغلب الحالات لا يُبلَّغ عنها وعند التبليغ عنها فإنها لا توثَّق بطريقة إحصائية علمية دقيقة.
لم تتمالك الأمّ سماع بقية التسجيل، كما أنها لم تقوَ على احتضان طفلها وقتها، ولازمها صوت صراخه المتواصل لساعتَين دون من يهدئه، كانت مشاعر والدة شربل كمن يتركُ النارَ تحت الجمر مشتعلة، وهي بانتظار قرارات المحكمة بحقّ المربّيات اللواتي شاركن في تعنيف طفلها ذي العام والأشهر.
تناولُ قضية “تعنيف الأطفال داخل الحضانات” لا يمكن التغاضي عن الحراك الحاصل في تونس، حين اجتاحت صفحات فيسبوك في تونس، في الأيام الماضية، صور مخيفة لطفل تعرّض للعنف الشديد بإحدى حضانات الأطفال غير القانونية بمحافظة القيروان، وسط تونس.
توثِّق الصور الصادمة كيف أقدمت مربّية على تشويه وجه طفل يبلغ من العمر 4 سنوات ونصفًا، والأضرار الجسدية الكبيرة التي خلّفها الاعتداء، وانتشرت الحادثة على وسائل الإعلام لتتحوَّل إلى قضية رأي عام.
من غير المستطاع مقارنة نِسَب شيوع العنف ضد الأطفال في الدول العربية، لأن أغلب الحالات لا يُبلَّغ عنها وعند التبليغ عنها فإنها لا توثَّق بطريقة إحصائية علمية دقيقة، وبالتالي غياب الإحصاءات للقيام بهذه المقارنة، بالإضافة إلى عدم الاتفاق على تعاريف محدَّدة لما هو العنف وما هي أنماطه المختلفة.
أسئلة كثيرة تجعلك تطرح هذا السؤال: لماذا أصبحنا نشهد هذا الكمّ من العنف ضدّ أطفال صغار لا حول لهم ولا قوة؟ وما هو تأثير هذه الظاهرة على الأطفال وعائلاتهم؟
يقول مستشار الطب الشرعي والخبير في مجال حقوق الطفل، هاني جهشان: “يمضي بعض أطفال الأمهات العاملات عدةَ ساعات يوميًّا بعيدًا عنهن في الحضانات، وكما هو معروف من أن شيوع تعرض الأطفال للإهمال والعنف داخل الأسرة هو مشكلة حقيقية، وأيضًا تعرضهم للإهمال وحتى للعنف في دور الحضانة هو مشكلة لا يمكن التغاضي عنها”.
وأضاف جهشان في حديث لـ”نون بوست” أن الإخفاق بتوفير احتياجات الطفل الأساسية، إن كانت جسدية أو عاطفية، أو الفشل بحمايته من مخاطر البيئة المحيطة به، ليسا مقصورَين بطبيعة الحال أثناء وجوده بمنزله، بل يمتدان إلى وجود الطفل بالحضانة، فعند حصول إخفاق ستكون عواقبه شديدة على الطفل مقارنة مع الإهمال الذي قد يحصل داخل الأسرة، ويتعدّى كونه إهمالًا إلى إيذاء مقصود يعاقبُ عليه القانون.
وأشار إلى أن ما يُعرَف للعامة ويُفصَح عنه من حالات العنف في الحضانات، ما هو إلا مصادفة بحتة كالتصوير بمقطع الفيديو على صفحات التواصل الاجتماعي، أو أن يكون خطيرًا كأن يؤدّي إلى عاهة أو وفاة، ويتعاضد مع تراخي وزارة التنمية الاجتماعية بالرقابة الدورية على دور الحضانات.
كما نبّه جهشان إلى أن تردّي الأوضاع البيئية والبنية التحتية للدولة، وضعف التخصصات المهنية المناسبة في أغلبها، ينعكسان سلبًا على الأطفال ويفاقمان عواقب العنف الذي قد يتعرضوا له بكتمان داخل جدران الحضانة.
لا يعفي الدولة
إن عقاب الشخص الذي يلحق الضرر بالطفل نتيجة الإهمال أو العنف، لا يعفي الدولة من تحمُّل مسؤوليتها، فالدولة مسؤولة بموجب القانون الدولي عن انتهاكات حقوق الإنسان على أراضيها، بما في ذلك انتهاك حقوق الطفل، وهذه المسؤولية لا تنشأ حصرًا من أفعال تقوم بها الدولة، إنما الأغلب من التراخي باتخاذ تدابير إيجابية لحماية الأطفال، مثل التراخي بالرقابة على المؤسسات التي يتواجد بها الأطفال خارج أسرهم، بما فيها حضانات الأطفال، وفق حديث الخبير في مجال حقوق الطفل.
وتتفق التحقيقات المنجَزة حول هذه الجرائم على أنَّ الأسباب الحقيقية لوقوعها هو غياب الرقابة والأمن بهذه المحاضن، وخاصة التساهُل المفرط في طرق انتداب المربّيات، فأغلب الحضانات ورياض الأطفال التي تحدث فيها انتهاكات شنيعة بحقّ الطفولة، تقبعُ في المناطق الشعبية أو ما يُعرَف بـ”العشوائيات” وبرياض الأطفال، التي تكون فيها طرق الانتداب سهلة ولا تخضع لشروط تحدِّد المستوى التعليمي للمربية أو درجة وعيها الفكري.
كيف تكتشفين تعرُّض طفلك للتعنيف؟
تفيد الأكاديمية في مجال علم نفس الطفل والمرأة، خولة البكري، بأنَّ الأمّ يمكنها اكتشاف سوء معاملة الطفل في الحضانة من خلال التدقيق في سلوكياته؛ فالطفل المعنَّف غالبًا ما يكون قلقًا وحزينًا ويفقد حبه للَّعِب ويميل إلى العزلة، أو لجوء بعضهم إلى المشاجرة والعنف كردّة فعل طبيعية ناتجة عن العنف الذي يواجهونه بالروضة.
وسردت المختصة لـ”نون بوست” أن بعض العلامات التحذيرية التي يمكن ملاحظتها على الطفل المعنَّف تشمل علامات التعنيف البدني، مثل الجروح أو الرضوض أو الحروق أو الكسور، خاصةً في منطقة الرأس أو البطن، وبالأخص تلك التي لا يمكن تفسيرها.
كذلك علامات التعنيف الجنسي التي تظهر من حالات الفزع الليلي، مثل آلام في البطن، التبول اللاإرادي، التهابات المسالك البولية، آلام أو نزيف في الأعضاء التناسلية، وعلامات لمرض متناقل جنسيًّا و/ أو سلوك جنسي غير معتاد أو مناسب لعمر الطفل.
وتقول البكري إن علامات التعنيف العاطفي تكون بالتغيير المفاجئ في ثقة الطفل بنفسه، وتشمل آلامًا في الرأس أو البطن بلا سبب طبّي واضح، ومخاوف غريبة وغير معتادة، أو محاولات للهرب، أيضًا عدم زيادة الوزن لدى الطفل (خاصة إذا كان رضيعًا)، ومحاولات بائسة لكسب ودّ الآخرين، وربما الشراهة وسرقة الطعام.
وتؤكد أنَّ أخطر ما في هذا الوضع هو نشوء طفل عدواني وعاجز عن حب الآخرين، وهي أحاسيس وسلوكيات تُزرَع فيه بسبب العنف الذي سُلِّط ضدّه، والخطير هو بقاء العدوانية مع هذا الطفل في بقية مراحل حياته المستقبلية، ليخرج إلى المجتمع فردًا منتقمًا وحقودًا.
وتوصّلَ باحثون من المعهد الوطني لصحة ونمو الأطفال بالولايات المتحدة الأميركية، في دراسة على عيّنة تتكون من ألف طفل، إلى أن 17% من الأطفال الذين يقضون حوالي 30 ساعة أسبوعيًّا في دور الحضانة لديهم مشكلات سلوكية. وفي هذا الصدد، بيّنت دراسة أجرتها جامعة كامبريدج أن مستوى هرمون الكورتيزول، الذي يفرزه الجسم حين يكون الشخص في وضع مثير للتوتر، يتضاعف لدى بعض الأطفال خلال الأيام التسعة الأولى لتواجدهم في دور الحضانة.
ويقول العلماء إن هرمون الكورتيزول ضروري للجسم ومفيد لأدائه، ولكن بشرط أن يتمَّ إفرازه بمستويات منخفضة، ولكن إذا ارتفعت نسبة هذا الهرمون في الجسم بشكل متكرر، فإن ذلك يمكن أن يصيب الطفل بأمراض خطيرة.
هذه المخاطر حذّرَ منها خبراء في علم النفس، الذين يرون أن الطفل الصغير يتطوّر بشكل أفضل على الصعيد الاجتماعي والعاطفي والفكري بين أحضان والدَيه، أو عندما يشرفُ على تربيته شخص مؤهّل أكاديميًّا وثقافيًّا ونفسيًّا للتعامل مع الأطفال، وهذه هي النقطة التي تحدث الفرق بين روضة ناجحة وأخرى “عشوائية”.
سُبُل المعالجة
عن الإجراءات الأوّلية لمعالجة التعنيف، تقول الأخصائية والمستشارة النفسية سوزان شعث، إن سُبُل المعالجة العاجلة إذا شكّكت الأم بأن طفلها قد تعرّض للتعنيف أو سوء المعاملة، هي الاتصال فورًا بطبيب مختص في طب الأطفال، أو بأي هيئة مختصة في حماية الأطفال.
وأوضحت شعث خلال حديثها لـ”نون بوست”، أن الأطباء ملزمون بالتبليغ عن أي حالة مشتبهة من تعنيف الأطفال أو إهمالهم إلى السلطات المختصة، وقد يقوم الطبيب كذلك بإسداء النصائح للأمّ بمراجعة معالج سلوكي، وبتزويد السلطات المختصة بالمعلومات اللازمة لإجراء تحقيق في الحادثة.
وتضيف: “في بعض الأحيان، قد يشهد الأطباء في المحكمة للحصول على الحماية القانونية للطفل، أو للمساعدة في وضع الأشخاص المتّهمين بإساءة معاملة الأطفال وراء القضبان. ومهما كانت طبيعة التعنيف، فإنه من الضروري أن يتمَّ اتخاذ خطوات سريعة للتبليغ عنه، والحصول على المساعدة، حيث إن التأخُّر في التبليغ عن هذه الجريمة يقلِّل فرص الطفل في الحصول على الشفاء التام”.
إليكِ معايير اختيار الحضانة الجيدة لطفلك
عادةً ما تلجأ الأمهات العاملات لوضع أطفالهن في الحضانة، نظرًا إلى الأعباء والضغوط التي تواجههن، وبعضهن يجدنها طريقة مناسبة لإكساب الطفل خبرات جديدة نظرًا إلى أهمية هذه المرحلة في حياة الطفل، إلا أنهن قد يشعرن بالقلق والحيرة حيال كيفية اختيار حضانة مناسبة للطفل.
ولا شك أن هذه المسألة صعبة ليس فقط لوجستيًّا ولكن أيضًا عاطفيًّا، فليس من السهل أن تترك الأمّ طفلها في رعاية غرباء لا تعرفهم، خاصةً إذا كان في عمر صغير جدًّا بحيث لم يتعلّم الكلام بعد ولا يستطيع أن يعبِّر عن مشاعره وأفكاره.
في هذه الخصوص، أشارت الأخصائية النفسية وتعديل السلوك، نسمة عصام، أن الحضانة تعزِّز الانفصال الإيجابي والضروري عن الأم والمنزل، كما تعدّ أول مرحلة انتقالية للطفل، وإن نجاحه في الانفصال المؤقت عن الأم والعائلة هو بحدّ ذاته إنجاز بالنسبة إلى الحضانة، إلى جانب دورها في تنمية التركيز والفهم والإدراك والتخيُّل عند الطفل.
تابعي تصرفات طفلك وحالته الصحية، وإذا كان في سنّ تسمح له بالتحدث اسأليه عن يومه.. فإذا كان الانطباع جيدًا استمري، إذا لاحظتِ اكتسابه عادات خاطئة أو حالته الصحية ليست على ما يرام توقفي عن إرساله فورًا.
وتضيف عصام لـ”نون بوست”: “يأتي دور الحضانة في تنمية قدرات الطفل في التعبير عن أفكاره ومشاعره، وطريقة التحدث مع الآخرين وصنع حوار ما بينه وبين العالم الخارجي غير الأب والأمّ، بالإضافة إلى المهارات التعليمية والإيجابية من ضمنها تعلُّم التحدث والكتابة من سنّ 3 سنوات”.
وتكمل: “كما تأهّله الحضانة ليكون لديه حصيلة لغوية لاستخدامها في مقابلة دخول المدرسة، وتنمية التعامل مع الآخرين، و تعليمه السلوكيات الصحيحة والشعور بالثقة بالنفس والقدرة على التعبير عن المشاعر والأحاسيس للآخرين، والأهم أن الحضانة تُعتبَر المكان الآمن للطفل في حال انشغال الأمّ عنه، في حال تمَّ اختيار الحضانة بشكل صحيح”.
وتبيّن أخصائية تعديل السلوك أن معايير اختيار الحضانة تتمثل في اختيار المكان ونظافته، فيفضَّل أن يكون قريبًا من العمل، بحيث تستطيع الأم أن تصل إليه بسهولة، ولا يفضّل اﻷماكن البعيدة للطوارئ، تتوفر به عوامل التهوية والتعقيم، وضرورة فهم طبيعة اﻷنشطة التي تقدمها الحضانة إن كانت هناك أنشطة تعليمية أم ترفيهية فقط، ومعرفة سنّ اﻷطفال الذين يلتحقون بها وعددهم.
ونبّهت إلى أهمية معرفة العاملين في الحضانة، من ناحية عددهم إن كان كافيًا لتغطية عدد واحتياجات الأطفال الصغار، وأيضًا من أنهم على دراية وخبرة عالية بالتعامل مع اﻷطفال في سنّ طفلك، ولديهم شهادات معتمَدة، ويتعاملون مع اﻷطفال برفق ونظافة فائقة.
كما التأكد من توافر عوامل السلامة واﻷمان للصغار من تأمين للأبواب والشبابيك، وكاميرات مراقبة، ونوعية اﻷرضيات واﻷلعاب، ووجود صندوق إسعافات أولية للصغار، لافتةً إلى أنه لا بدَّ من الاتفاق على آلية التواصل مع العاملين بالحضانة في وقت وجود طفلك بها، سواء من خلال الهاتف أو وسائل التواصل الاجتماعي.
نهايةً، تابعي تصرفات طفلك وحالته الصحية، وإذا كان في سنّ تسمح له بالتحدث اسأليه عن يومه.. فإذا كان الانطباع جيدًا استمري، أما إذا لاحظتِ اكتسابه عادات خاطئة أو حالته الصحية ليست على ما يرام، توقفي عن إرساله فورًا؛ وفق نصائح الأخصائية النفسية وتعديل السلوك نسمة عصام.