لا يكلّ فلاديمير بوتين عن محاولات إعادة أمجاد روسيا القيصرية إلى سالف عهدها، محاولة في الوقت نفسه مواجهة المدّ الغربي حول روسيا، فقد بدأت موسكو في السنوات الأخيرة بإظهار قوتها العسكرية وفرض أجندتها في العديد من بلدان العالم، وأصبح للجيش الروسي تحركات واسعة لإثبات حضورها وإعادة روسيا إلى مكانتها الدولية القيادية، كما يأمل فلاديمير بوتين إلى الأمر.
تريد روسيا إعادة إمبراطوريتها دون أي تغيير أو تجاوز صورة إمبراطورية الدماء وقياصرة القتل الذين ذبحوا الملايين، وكذا يفعل بوتين اليوم عبر التدخُّل بمصائر بلدان كاملة والولوغ بدماء الشعوب ودعم الديكتاتوريات والمساهمة في إخماد الانتفاضات الشعبية المطالبة بالحرية والكرامة، كما حصل في سوريا وأخيرًا في كازاخستان، ولعلّ بوتين يؤكد ذلك بقوله: “لن نسمح بثورات ملونة مجددًا” في دول الجوار الروسي.
لا يمكن النظر إلى حاضر أو مستقبل روسيا ومحاولات الصعود إلا بالرجوع إلى الماضي، والوقوف على ذكريات المجازر الدامية التي ارتكبها قياصرة روسيا ومن بعدهم حكّام البلاد المتعاقبين ضد شعوب المنطقة وعلى رأسهم الشعوب المسلمة، فلا يمكن نسيان مجازر القرم وغزو بلاد الأفغان، ومجازرهم بحقّ التركستان، وقتلهم وتهجيرهم لمئات آلاف الشيشانيين، أو دعمهم للمجازر بحقّ المسلمين في البوسنة والهرسك، وهنا لا ننسى أن الروس هم أول من اعترفوا بكيان الاحتلال الإسرائيلي.
سوريا: نهب وقتل
منذ الصرخة الأولى للشعب السوري بوجه حكم نظام بشار الأسد، لم تتوانَ موسكو عن دعم حكم الديكتاتور، فكانت صوت النظام في المحافل الدولية طوال 11 عامًا من عمر الثورة السورية، حتى باتت تتحكّم بمفاصل البلد وفئات من الجيش والاستخبارات، واستولَّت على خيرات البلاد وثرواتها، كما سيطرت على أهم منفذ بحري في البلاد ضمن عقود إيجار وقّعتها مع حكومة النظام.
ليس ذلك فقط، فقد خاضت روسيا على الأراضي السورية معارك عديدة ضدّ فصائل المعارضة السورية، ولطالما وصمَت معارضي حكم بشار الأسد بأنهم “إرهابيون”، وهو ما فعلته بباقي البلدان.
كما كانت سوريا حقل تجارب لمئات الأسلحة مثلما صرّح المسؤولون الروس في أكثر من موقف، مؤكدين أن سوريا كانت ميدانًا تدريبيًّا كبيرًا ومهمًّا للضبّاط والجنود الروس، ولا بدَّ من التذكير بوجود قاعدة حميميم التي تضم أسراب الطيران الروسي التي تطلق حممها لقتل السوريين.
تمثل سوريا أهم الجبهات حاليًّا لموسكو، فهي طريقها إلى المياه الدافئة وثروات شرق المتوسط، بالإضافة إلى تمثيلها دور اللاعب القوي في ملفات الشرق الأوسط، مع الاستفادة من وجود نظام تابع لها في سوريا، ما يعزز نفوذها عالميًّا، عدا عن الاستفادة من الآثار والثروات الباطنية الموجودة في سوريا.
ولا بد من الإشارة إلى أن روسيا خلال حربها المفتوحة في سوريا قتلت وجرحت آلاف المواطنين السوريين، فقد أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في سبتمبر/أيلول المنصرم تقريرها السادس عن انتهاكات القوات الروسية، منذ بدء تدخُّلها العسكري في سوريا في 30 سبتمبر/أيلول 2015، وقالت في بيانها إن الانتهاكات الروسية في سوريا ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، مشيرة إلى أن “التدخل العسكري الروسي غير شرعي وتسبب في مقتل 6910 مدنيين بينهم 2030 طفلًا و1231 حادثة اعتداء على مراكز حيوية”.
وفي بيان للدفاع المدني السوري المعروف بـ”الخوذ البيضاء”، فإن الهجمات الروسية في سوريا “تركّزت على مراكز المدن ومنازل المدنيين والمرافق الحيوية، بغرض تهجير المدنيين، وتدمير كل أشكال الحياة. استهدفت 68% من الهجمات البالغ مجموعها خمسة آلاف و586 هجومًا، منازل المدنيين، بواقع ثلاثة آلاف و805 هجمات، وجاءت الحقول الزراعية بالمرتبة الثانية بنحو 885 هجومًا تشكّل 16% من مجموع الهجمات الروسية”.
أوكرانيا: الخاصرة الرخوة
يحشد فلاديمير بوتين حاليًّا على حدود بلاده مع أوكرانيا العدّة والعتاد وآلاف العناصر، فيما يبدو أنه تجهيز لغزو للبلد الذي تعتبره روسيا جزءًا منها، وتعتبره مناصرًا للقوى الليبرالية الغربية. يعود تاريخ الصراع بين البلدَين إلى العصور الوسطى، لكنهما تاريخيًّا يتشاركان الأصول نفسها، التي تعود إلى دولة روس الكييفية، وهذا هو السبب في إشارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى البلدَين بأنهما “كيان واحد”.
في عام 2004 تدخلت روسيا إلى جانب الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش لقمع الثورة التي اندلعت ضده، وذلك لأن موسكو لا ترضى العبث بحديقتها الخلفية، وظلَّت تدعم رجلها يانوكوفيتش حتى عزله عام 2014.
حينها توجّهت موسكو لاحتلال جزيرة القرم وتحريك قوات انفصالية في شرق أوكرانيا، ولعلّ روسيا تدركُ أهمية وجود أوكرانيا تحت الهيمنة الغربية بنظامها الحاليّ، إذ إن أوروبا وأمريكا تهتمان بأوكرانيا لمحاصرة روسيا، إضافة إلى إطلالتها على البحر الأسود وغناها بالثروات الباطنية، ما يفسر أن إصرار روسيا على التدخل في أوكرانيا يتركز على عدة دوافع أهمها الدافع السياسي، فلأوكرانيا رمزية سياسية بالنسبة إلى موسكو أمام الغرب ككلّ، إضافة إلى الدوافع الجيوسياسية والاقتصادية، حيث كانت أوكرانيا تحتضنُ شبكات نقل الغاز الروسي إلى أوروبا.
يُذكر أن شبه جزيرة القرم التي استولت عليها روسيا عام 2014، عانت تاريخيًا من الحكم الروسي، إذ تعدّ مذابح الروس في شبه جزيرة القرم من أبرز المذابح التي وثّقتها صفحات التاريخ ضمن قائمة الجرائم الإنسانية الأشرس في العالم، وسقطَ فيها ما يزيد على نصف مليون مسلم على أيدي القوات الروسية، فيما شُرِّد أضعافهم خارج بلدانهم، ومن تبقى عاش حياة أقرب للموت.
ليبيا والوقوف إلى جانب القاتل
في ليبيا، لم تدخل روسيا الحرب بقواتها الرسمية، بل استعانت بقوات مرتزقتها التي تُسمّى “فاغنر”، إضافة إلى استجلاب مرتزقة من جنسيات مختلفة لمساعدة خليفة حفتر الذي كان يواجه حكومة الوفاق الشرعية والمعترَف بها دوليًّا.
دعمت موسكو هؤلاء المرتزقة بكل أنواع السلاح، إذ إن القيادة الأمريكية في إفريقيا أعلنت في مايو/أيار 2020 نشر موسكو لعدد من الطائرات العسكرية في المنطقة الليبية، الواقعة تحت سيطرة حفتر.
ومع محاولة حفتر في السيطرة على العاصمة الليبية طرابلس منذ أبريل/نيسان 2019، ورغم الدعم الروسي إلا أنها لم تؤتِ أكلها، خاصة بعد التدخل العسكري التركي الذي جاءَ بعد طلب رسمي من حكومة الوفاق التي كان يرأسها فائز السراج آنذاك، حيث بدأت الكفّة ترجح للوفاق، ذلك أن قوات حفتر تقدمت في مواقع مهمة قبل التدخل مثل قاعدة الجفرة في الجنوب، التي أصبحت مركز العملية، وسيطرت أيضًا على مدينتَي غريان وترهونة، وعدد من القواعد العسكرية جنوب طرابلس، ومطار طرابلس القديم، ومعظم الشريط الساحلي الغربي.
الدعم الروسي المستمر لحفتر رغم خسارة المعركة عسكريًّا، يبيّن أهمية ليبيا بالنسبة إلى روسيا، فموسكو تستطيع من خلال هذا البلد زيادة الرقعة المطلة على المياه الدافئة في المتوسط بالاتصال مع أماكن وجودها في سوريا، إضافة إلى الاستفادة من ثروات ليبيا النفطية، وبذلك تكون ليبيا نقطة ارتكاز للانطلاق نحو إفريقيا أكثر فأكثر.
تجدرُ الإشارة إلى أن مجموعة “فاغنر” الروسية، إلى جانب قوات حفتر، ارتكبت مئات الانتهاكات بحقّ الليبيين خلال السنوات الماضية، ونقلت شبكة “بي بي سي” البريطانية عن مقاتلين سابقين شهادتهم بـ”افتقار مجموعة فاغنر إلى أي مدونة سلوك” وارتكابها جرائم حرب والقتل العمد للمدنيين، وزرع الألغام والأفخاخ الخادعة في المناطق المدنية. كما وثّق التحقيق تورُّط مقربين من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في علاقات مع مجموعة المرتزقة “فاغنر”، بينهم ديمتري أوتكين ويفغيني بريغوزين.
كازاخستان والتدخُّل السريع
شهدت كازاخستان في الأيام الأخيرة احتجاجات كبيرة قوبلت بعنف مفرط من السلطات، ولأن كازاخستان تُعتبر إحدى الحدائق الخلفية لموسكو، ما كان من الرئيس الكازاخي قاسم توقاييف إلا أن طلب المساعدة من روسيا تحت غطاء معاهدة منظمة الأمن الجماعي، ولم تمضِ ساعات إلا لبت موسكو النداء وتوجهت قواتها إلى مدينة ألماتي التي شهدت أعنف احتجاجات في البلاد.
بدوره قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاثنين: “القوات الروسية أُرسلت إلى كازاخستان لمساندة السلطة بعدما استهدفها الإرهاب العالمي”، ولعلها الحجة ذاتها التي يجول بها بوتين بلدان العالم، وأعلنَ خلال اجتماع عبر الفيديو مع قادة دول حليفة، بينهم رئيس كازاخستان، “ما إن تنجز القوة مهامها ستنسحب من أراضي كازاخستان”، وحذر بعد ذلك من أن روسيا لن تسمح “بثورات ملوَّنة” في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة.
يشير تحذير بوتين من الحركات الاحتجاجية إلى أن روسيا تخاف من فقدان السيطرة على هذه البلدان التي كانت في الماضي ضمن الاتحاد السوفيتي، وفي حال انفراط عقدها الحاليّ ستبقى موسكو دون حدود قوية، ولعل أوكرانيا المثال الأقرب، فقد باتت ورقة ضغط بيد الغرب، ولا يريد بوتين لكازاخستان أو غيرها أن تكون كذلك.
وأسفر عنف السلطات الكازاخية ضد الاحتجاجات الشعبية عن عشرات القتلى، إضافة إلى اعتقال نحو 8 آلاف شخص، ويُذكر أن رئيس كازاخستان، قاسم جومارت توكاييف، وصفَ المتظاهرين الذين ينظمون احتجاجات في مدينة ألماتي بـ”العصابات الإرهابية”، موضحًا أنهم “تلقوا تدريبات خطيرة في الخارج، وأنهم استولوا على أشياء كبيرة من بينها طائرات، وهو الأمر الذي أكدته روسيا في إطار دعمها لتوكاييف، وهو السبب الذي أدخلت قواتها إلى ألماتي من أجله.
البلدان المذكورة في هذا التقرير ليست الوحيدة التي تحاول موسكو أن تجول فيها لاستعراض قوتها وفرض نفوذها، بل تحاول الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك، لكن المؤكد أن روسيا توجد حيث يوجد الطغاة وتعمل بكل جهدها لإجهاض آمال الشعوب، وليس السيناريو السوري أو الكازاخي منا ببعيد.