تشهد مناطق ريفَي حلب الشمالي والشرقي، مناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، تظاهرات متواصلة منذ مطلع العام الجاري، احتجاجًا على ارتفاع أسعار الكهرباء إلى أكثر من الضعف، حيث عمّت التظاهرات مدن أعزاز والباب ومارع وصوران وجنديرس.
وكشفت احتجاجات الكهرباء أزمة معيشية خانقة يعاني منها الأهالي في الريف الحلبي، في ظلّ استمرار ارتفاع أسعار معظم الاحتياجات الضرورية التي تحتاجها الأُسر، وسط ارتفاع معدّلات البطالة وانعدام مصادر الدخل وانخفاض الأجور، الذي عكس واقعًا معيشيًّا سيئًا للغاية، ومليئًا بالتحديات اليومية التي تمرُّ بها الأسر، ما يرجّح استمرار الاحتجاجات وتعدُّد المطالب.
احتجاجات الكهرباء
تصاعدت الاحتجاجات في الريف الحلبي جرّاء سوء خدمة الكهرباء ورفع أسعارها، من قبل الشركة السورية-التركية لتوريد الطاقة الكهربائية (AK Energy)، وطالبَ المحتجّون المجالس المحلية والشركة إلى التراجع عن قرار رفع سعر الكهرباء، إلّا أن المجالس المحلية بيّنت عدم صلتها بالتعديلات على أسعار الكهرباء.
وقد رفعت شركة الكهرباء، في 2 يناير/ كانون الثاني، سعر تعبئة الكهرباء المنزلية إلى 1.47 ليرة تركية للكيلوواط، وفي حال التعبئة بأكثر من 150 ليرة تركية خلال الشهر ذاته فإن سعر الكيلوواط يصبح 2.5 ليرة تركية، الأمر الذي سيحرم الأهالي من استخدام الكهرباء في الطهي والتدفئة خلال فصل الشتاء، بعدما كان الكيلوواط ليرة تركية واحدة.
وبعد مضيّ أيام على تواصل الاحتجاجات، توصّلت المجالس المحلية في 7 يناير/ كانون الثاني، خلال اجتماعها مع والي مدينة كلس التركية ومسؤولي شركة الكهرباء، إلى تخفيض الباقة الأولى من تعبئة الكهرباء إلى 1.15 ليرة تركية لكلّ كيلوواط، والباقة الثانية خلال الشهر ذاته 2.30 ليرة لكلّ كيلوواط، بينما يمكن للمجالس المحلية تخفيض نسبتها المتّفق عليها.
وتُعتبر شركة AK Energy المورِّد الوحيد للكهرباء لمناطق شمال غربي سوريا، بعد إبرامها عقود مع المجالس المحلية لتغذية مناطقها بخدمة الكهرباء، وتتعاون الشركة مع مستثمرين محليين في كل منطقة من مناطق ريف حلب الشمالي.
وبرّرت الشركة أسباب رفع أسعار الكهرباء بأن المصدِّر في تركيا قد زادها بنسبة عالية تصلُ إلى أكثر من 100%، ابتداءً من تاريخ 31 ديسمبر/ كانون الأول 2021، وتمَّ العمل بها مباشرة واستيفاؤها من شركة الطاقة الكهربائية على السعر الجديد.
هذا بالإضافة إلى انهيار الليرة التركية وفقدانها نحو 40% من قيمتها، الأمر الذي تسبّب في ارتفاع تكاليف استجرار الكهرباء إلى مناطق ريف حلب الشمالي، وعدم مراعاة عملية البيع والتكاليف، إلا أن احتجاجات الأهالي مستمرة نظرًا إلى عدم تناسبها مع الواقع المعيشي.
أكّدت مصادر متطابقة، من العاملين في شركة الكهرباء في مدينة مارع، لـ”نون بوست”: “إن الاستثمار في الكهرباء تنامى بشكل تدريجي، حيث حقّق مستثمرو شركة الكهرباء أرباحًا عالية في غضون سنوات من انطلاقة شركة الشمال المساهمة، حيث كان يبلغ سعر السهم 5000 دولار أمريكي، بالاعتماد على المولدات الكهربائية خلال مرحلة الانطلاق، ثم وصل السهم إلى 12000 دولار أمريكي”.
وأضافت المصادر: “بدأت ترتفع أسهم الكهرباء تزامنًا مع تغذية المنطقة من الداخل التركي، وتوسُّع شبكة الكهرباء لتشمل عدة مناطق، إلى جانب الاعتماد على الشبكة القديمة التي كانت تغذّي المنطقة بالكهرباء، حيث وصلَ سعر السهم نحو 20 ألف دولار أمريكي”.
وخلال صيف 2021 بيعت بعض الأسهم لمستثمرين في المنطقة بقيمة 41 ألف دولار أمريكي، بينما وصلَ سعر السهم في عملية البيع الأخيرة خلال الأسابيع القليلة الماضية إلى 31 ألف دولار أمريكي، بحسب وثيقة اطّلع عليها موقع “نون بوست”.
ويبدو أن الأرباح المعلنة بين مستثمري الشركة زادت تكرار عملية البيع، فعلى سبيل المثال شركة الكهرباء في مدينة مارع شهدت عمليات بيع متكررة بفارق شهور فقط، وتنطبق عمليات البيع على معظم مدن المنطقة، الأمر الذي تسبّب في سوء خدمة الكهرباء وانقطاعها في مدينة مارع لأيام، بسبب تأخُّر دفع مستحقات الشركة المزوِّدة بالكهرباء للمدينة.
تراكُم أزمات المعيشة
كشفت احتجاجات الكهرباء واقع جُملة من الأزمات المعيشية التي تواجه الأهالي خلال حياتهم اليومية، كونها من الضروريات التي لا بدَّ من توفيرها، ولعلّ من أبرزها أزمة الخبز حيث ارتفع سعر الربطة إلى الضعف خلال ديسمبر/ كانون الأول، وتراوح السعر بين 1.5 ليرة و2 ليرة تركية للربطة الواحدة بعدما كان ليرة واحدة، في حين بررت المجالس المحلية أسباب ارتفاع أسعار الخبز بانقطاع الطحين المدعوم وقلّة الموارد للمجالس المحلية لتوفير مادة الطحين.
بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، الذي عكسته تقلُّبات الليرة التركية المتداولة في شمال غربي سوريا، مع اختلاف الأسعار وعدم استقرارها، وبالإضافة أيضًا إلى جشع التجّار واستغلالهم لأسعار الصرف في سبيل تحقيق أرباح تفوق العادة.
كما شهدت المنتجات الدوائية ارتفاعًا ملحوظًا مطلع ديسمبر/ كانون الأول 2021، بالتزامن مع احتياج الأهالي للأدوية خلال فصل الشتاء، حيث وصلت نسبة ارتفاعها إلى أكثر من 30% بعدما قامت حكومة نظام الأسد برفع سعرها، بحسب ما أوضح الصيدلاني فادي حافظ خلال حديثه لـ”نون بوست”.
إضافة إلى ارتفاع أسعار المحروقات ومواد التدفئة مع دخول فصل الشتاء، ما تسبّب في حرمان الأهالي من إمكانية الحصول على الدفء، الأمر الذي دفعهم إلى الاعتماد على الكهرباء التي سجّلت ارتفاعًا حادًّا، وهذا السبب الرئيسي للاحتجاجات.
أسباب أزمة المعيشة
خلّف ارتفاع المواد الرئيسية التي يحتاجها السوريون بشكل يومي، أزمةَ معيشة حادة وقعت على عاتق العائلات السورية المقيمة في شمال غربي سوريا، في ظل محاولات بائسة للالتفاف على الواقع المعيشي من خلال تأمين الضروري وفقًا للحاجة الملحّة، بحسب ما أشار الصحفي أبو العلاء الحلبي لـ”نون بوست”.
ويعدّ انهيار الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي أحد أبرز الأسباب التي ساهمت في ارتفاع الأسعار وعدم استقرارها، ولجوء الباعة والتجّار إلى إضافة أرباح إضافية تحافظ على أرباحهم، بينما في الوقت نفسه شكّل غياب دور المجالس المحلية في عملية الرقابة التموينية سببًا آخر في ارتفاع وتقلُّب الأسعار.
وأضاف الحلبي: “يعاني الأهالي من انخفاض في الأجور لا سيما عمّال المياومة، في ظل تحكُّم فئات معيّنة من التجار في مختلف القطاعات الخدمية والتجارية في المنطقة، تحصل على تسيير أمورها من المجالس المحلية، ولا يهمّها سوى الأرباح بالدرجة الأولى، ما ينذر بواقع معيشي غامض يرسم معالم حياة السوريين المتهالك على مرّ السنوات الماضية”.
في ديسمبر/ كانون الأول 2021، أقرّت المجالس المحلية التابعة للولايات التركية الجنوبية زيادة رواتب الموظفين، تراوحت بين 40% و50%، بعد سلسلة احتجاجات للعاملين في القطاع العام نتيجة خسارة الليرة التركية أكثر من ثلث قيمتها، إلّا أن تلك الزيادة لم تعوِّض سوى انهيار الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، ما دفع العاملين في القطاع العام إلى الاستمرار في الاحتجاجات من أجل رفع الأجور.
من جانبه، عدّد الباحث الاقتصادي، أدهم قضيماتي، خلال حديثه لـ”نون بوست” أبرز الأسباب التي ساهمت في تراكم الأزمات واحدة تلو الأخرى، وتأزُّم الوضع المعيشي لدى سكان الشمال الغربي لسوريا، ومنها:
- قصف نظام الأسد وروسيا على مناطق شمال غربي سوريا الذي ساهمَ في الحدّ من الاستثمار في المشاريع الصناعية والتجارية التي ستوفّر فرص عمل مستدامة وتقلِّل من نسبة البطالة التي تفوق الـ 89%.
- أزمة المخيمات التي تضمّ أكثر من مليون شخص، وتكرار المعاناة كل عام خاصة في فصل الشتاء، مع عدم الوصول إلى حلول مجدية تخفِّف من استنزاف المساعدات وعدم توجيهها إلى الاستثمار، ما سيوفِّر مصدر دخل دائم.
- جائحة كورونا وتبعاتها على الاقتصاد العالمي وما نتجَ عنها من زيادة أسعار المنتجات الغذائية والمحروقات عالميًّا، انعكس سلبًا على حياة المواطن في الشمال السوري وزادَ من حدة الضغط على المنظمات أيضًا لتأمين احتياجات الدعم.
- غياب سلطة إدارية موحّدة وتنظيمية يعاني منها الشمال السوري، حيث ساهم تعدُّد الإدارات في عشوائية خدمية وإدارية.
- سيطرة تجّار الحرب على مختلف الأنشطة الاقتصادية، والمنتفعين من الاستثمار المحلي، الذين يهمّهم زيادة مردودهم المادي لا العمل الخدماتي بالدرجة الأولى.
مع كل تلك الأزمات المعيشية التي تضرب مناطق شمال غربي سوريا، أي مناطق سيطرة الجيش الوطني ومناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، تغيب الحلول، وما يجري في الوقت الحالي هي حلول ترقيعية لا تجدي نفعًا على المستوى المنظور، كونها لا تحقِّق أي شيء من مطالب الأهالي في استمرارية استقرار الوضع المعيشي.
ويرى قضيماتي أن تحكُّم فئة رؤوس الأموال بواقع الخدمات والاستثمار فيها، وغياب حكومة حقيقية وإدارة واحدة تنظِّم شؤونها، عكسا واقعًا سيّئًا في فتح مجال الاستثمار، وعلى الإدارات المحلية المساهَمة بشكل أكبر في إدارة المنطقة، لأن وضع الشمال السوري وما يعانيه من أزمات خارجة عن إرادته يحول دون النهوض به اقتصاديًّا وتحقيق احتياجات السكّان.
كما أوضح أنه طالما كانت الأمور على هذا الحال ستكون الحلول ضيقة، لا سيما أن النشاط الاقتصادي مرتبط بشكل رئيسي باستتباب الأمن الذي سينعكس على مختلف القطاعات، والتي ستكون دورًا بارزًا في تحسين الواقع المعيشي المتهالك الذي يضرب شمال غربي سوريا.
وفي الختام، يتطلّب من المجالس المحلية والحكومات المتواجدة في المنطقة بذل المزيد من الجهود لاستئصال الفساد من المؤسسات، ما ينعكس على وحدة القرارات والقضاء على المحسوبيات وإيصال الخدمات لكل المناطق، وتوفير بيئة صناعية واقتصادية مناسبة وبالتالي الحدّ من البطالة، إلى جانب مراقبة الأسواق التجارية وأسعار السلع، وأيضًا أولوية الخدمات والابتعاد عن الاستثمار الخدمي.