بالقرب من مدينة مطماطة القديمة المشتهرة بمنازلها الأثرية التي تقع تحت الأرض حيث تم تصوير فيلم “حرب النجوم” الأول سنة 1976، تقع قرية توجان على تلة ترتفع عن الأرض نحو 500 متر، قرية جبلية معلقة سكنها الأمازيغ منذ مئات السنين.
من بعيد لا تبدو بيوت الأمازيغ التي تشبه ألوانها لون الأرض والجبل ظاهرةً للعيان، لكن عندما تقترب منها تجد أن هذه المباني الصخرية يتخللها أبواب وشبابيك زرقاء زاهية اللون، من خلالها تدب الحياة نحو الفضاء الخارجي الذي أحسن السكان استغلاله.
قرية توجان، ستكون أولى محطات نون بوست ضمن ملف “قرى معلقة”، في هذه الرحلة الشيقة نحو الجنوب التونسي، سنتعرف معًا على هذه القرية الصغيرة الجميلة وسكانها الأصليين وبعض عاداتهم وتقاليدهم، وكيفية تطويعهم لمحيطهم البيئي لتسهيل عيشهم.
سكان القرية الأصليون
قرية جبلية معلقة تعيش من الطبيعة، أحسن الأهالي استغلال محيطها الطبيعي، فلا تكاد تفرق بين معمارها والجبال المحيطة بها، إذ تتماهى منازلها مع ألوان جبالها وتتداخل فيها، أسسها الأمازيغ في أعالي جبل مطماطة لتفادي خطر الغزو الأجنبي المحدق بها، تراثها المادي والمعنوي شاهد على حضارات تعاقبت على المنطقة، ويعني لفظ “توجان” في اللغة الأمازيغية عين ببداية الجبل.
جولة صغيرة في قرية توجان، الواقعة في الجنوب الشرقي لتونس، ضمن محافظة قابس، تُبين لنا أن كل سكانها ينطقون اللغة العربية، لكن عددًا كبيرًا منهم يتكلم الأمازيغية أيضًا، فقد حفظوها وتناقلوها عن آبائهم وأجدادهم، ذلك أن أصل سكان القرية أمازيغي.
يتراوح عدد التونسيين الناطقين والمتحدثين بالأمازيغية، حسب بعض التقديرات، بين 40 و50 ألف
يعني لفظ الأمازيغ “الرجال الأحرار”، وتقول بعض المصادر التاريخية إن تاريخهم يرجع إلى عصر الإمبراطورية الرومانية على الأقل، وقد ظلوا في شمال إفريقيا منذاك، حيث ما زالوا محافظين على هويتهم الثقافية واللغوية المستقلة.
يمتد تاريخ القرية إلى نحو 1000 سنة، ومن بين ما يميزها اعتمادها على تقويم خاص كباقي قرى ومدن الأمازيغ المنتشرة في شمال إفريقيا، ففي الزمن الأمازيغي، نحن الآن في سنة 2970، وهو تقويم فلاحي يرتبط بالأرض، ويرجع الأمازيغ إحياء رأس السنة الأمازيغية إلى سنة 950 قبل الميلاد، وهي السنة التي استطاع فيها الملك الأمازيغي شيشونق الانتصار على ملك الفراعنة رمسيس الثالث.
وبصورة عام، يتراوح عدد التونسيين الناطقين والمتحدثين بالأمازيغية، حسب بعض التقديرات، بين 40 و50 ألف، يتوزعون جغرافيًا على عدة محافظات تنتمي أغلبها إلى إقليم الجنوب الشرقي للبلاد، عدد كبير منهم يعيش في قرية توجان المعلقة.
لم يكن اختيار أهالي توجان الجبل للسكن اعتباطيًا، وفق كاهنة الطالبي الناشطة الحقوقية الأمازيغية، فقد كان مرده الحروب المتتالية على شمال إفريقيا سواء من جهة الشرق أم الغرب، أي أن الأمر ينم عن خبرة عسكرية كبيرة للأهالي، وحتى المنازل يكون اختيارها عسكريًا، حتى تمكن ساكنها من رؤية العدو من مسافة بعيدة، وفق حديث كاهنة لـ “نون بوست”.
يًشارك الناشط الأمازيغي أحمد محروق، كاهنة طالبي كلامها، إذ يقول لـ”نون بوست”: “قرية توجان كغيرها من القرى الأمازيغية المشيدة على سفوح سلسلة جبال الظاهر، بنيت هنالك حتى تكون محميةً من الغزوات والغارات الخارجية”.
قديمًا لم يكن هناك قانون وضعي بل كان قانون الغاب طاغيًا أين يلتهم القوي الضعيف، وفق محروق، وعليه فإن أمازيغ الجنوب الشرقي التونسي اختاروا بناء قراهم على أعالي الجبال كنوع من أنواع الحماية والأمن، ويدل ذلك على حجم الحروب والفوضى المنتشرة في تلك الأزمنة الغابرة إضافة إلى ذكاء السكان الأصليين وابتكارهم لسبل النجاة والصمود، وفق قوله.
استخدام المحيط البيئي للعيش
رغم صعوبة العيش في الجبال، فإن له مزايا عديدة، وفق محروق، أهمها اعتدال الطقس عكس الصحراء التي يكون الطقس فيها جافًا، إلى جانب وجود الحجارة في الأودية المجاورة وأجذع النخيل والأشجار والجبس.
يضيف أحمد محروق في حديثه لـ “نون بوست” أن “الأمازيغ استغلوا قديمًا هذه العناصر والمواد لبناء منازلهم بسواعدهم، فهذه المواد تتوافر أساسًا في المناطق الجبلية وتقل في المناطق الأخرى، ما سهل عليهم العيش هناك”.
بدورها تقول كاهنة الطالبي: “طوع الأمازيغ الجبل كي يسكنوا فيه، كما طوعوا الطبيعة، ولم يكن التطويع سهلًا، فقد كانوا مرغمين في البداية على ذلك، لكن مع الوقت تغير الأمر وأصبحت الحياة أفضل وتطورت القرية وشيدت منازل جميلة وقصور فوق الجبال”.
يعتبر إنتاج المرقوم أو صناعة الصوف من أهم الصناعات التقليدية التي تنتجها توجان
تتابع طالبي “معظم المنازل هي بيوت حفر أي بمثابة غار محفور في الجبل، فيها المطبخ وغرف جلوس وغرف نوم، وتحمل تصاميم خاصة بها، حيث تقع الساحة عادة في منتصف المنزل وتكون مفتوحة على السماء، ومن تلك الساحة تتفرع العديد من الغرف تربط بينها الممرات، وعادة ما تكون أغلب تجهيزات المنزل مصنوعة من الصخر كالأسرة، أما أدوات المطبخ فتكون مصنوعة من الطين وبعض الأدوات التقليدية”.
كما تكون هذه البيوت مفتوحة على بعضها البعض، للاستعانة بذلك وقت الأزمات، ففي الفناء يوجد خندق بمثابة النفق، حيث تمتد شبكة من الممرات تحت الأرض منذ قرون لحماية سكان توجان من الهجمات، ومع بناء المدينة على قمة التل فهذه الأنفاق تسير أفقيًا ورأسيًا تحت الأرض ولها 7 نقاط وصول رئيسية.
استغل الأهالي، حجارة الجبال في بناء المنازل، كما استخدموا الأشجار في صناعة أدوات الفلاحة، فيما اعتمدوا على الفلاحة للتغذية، حيث يأكلون ما تنتجه الأرض والحيوانات الموجودة هناك كالنحل والأغنام.
وحينها كانت الحمير وسيلة الرفع والتنقلا، فكان الحمار المجاهد والرفيق الذي سهل حياة الأمازيغ في تلك الربوع، فقد كان السكان يستخدمون الحمير لنقل البضائع والأشخاص من سفح الجبل إلى القمة لقدرتها على التحمل.
المرقوم وصناعة الصوف
لم يستغل الأهالي، الحيوانات للتغذية والتنقل فقط، بل استغلوها أيضًا للملبس، ذلك أنها تنتج الصوف، ووظفوا هذا الأمر لصناعة الأنسجة التقليدية، على رأسها المرقوم الذي أصبحت تشتهر به القرية، وتُعرف من خلاله، كأنه رمز لها.
سمي المرقوم بهذا الاسم لأنه يعتمد على الأرقام والحساب في نقش الصوف وتزيينه بمختلف الألوان، وما يشد الانتباه أن صنّاع هذه الأنسجة التقليدية لا يستخدمون الورقة والقلم وإنما يعتمدون على مخزون الذاكرة فقط.
ويعتبر إنتاج المرقوم أو صناعة الصوف من أهم الصناعات التقليدية التي تنتجها توجان، وهي مهنة تتوارثها السيدات في القرية المعلقة بحرفية وفنّ، فكل منزل في القرية عبارة عن معمل صغير لإنتاج المرقوم، ويُستعمل المرقوم كسجاد للأرضيات أو كغطاء للوقاية من برد الشتاء.
إلى جانب المرقوم، هناك العديد من العادات والتقاليد المتوارثة عن الأجداد في توجان
تقول كاهنة الطالبي: “المرقوم نسيج أمازيغي، ينقسم إلى عدة أنواع، فهناك نوع مخصص للمفروشات وآخر للنساء حتى يلبسنه، ويحتوي هذا النوع على خصوصية المرأة وزينتها”، وتبين محدثتنا أن كل أم تعلم بناتها صناعة المرقوم.
كما تعلم الأمهات بناتها، دلالة الصور التي تزين هذه الأنسجة كالغزال والجمل والحوت والفراش والعقارب، حتى تبقى هذه الرسوم المعتمدة لتزيين المرقوم أو ما يسمى “الوشمة” راسخة في مخيلة نساء القرية وذاكرتهن، حتى يتوارثها الأجيال.
تتميز صناعة المرقوم بدمجها لفن النسج والرسم على الصوف، في البداية تعد المرأة الصوف تمهيدًا لاستعماله، بعد ذلك تجلس المرأة أمام آلة النسيج التي تُعرف باسم “بالسداية” المصنوعة من الخشب، ثم تبدأ بتمرير خيوط الصوف – أو ما يطلق عليها اسم “الطّعمة” – الواحد تلو الآخر بين خيوط “السداية” باستعمال “المرود” بمهارة شديدة وتركيز تام، بين الفينة والأخرى تضرب الخيوط بسرعة فائقة بـ”الخلالة” (قطعة خشب أو حديد مدبب طرفها) حتى تلتحم الخيوط مع بعضها بعضًا وتكوّن نسيجًا متينًا دون فراغات.
عملهم شاق لكنه ممتع في الوقت ذاته، إذ يوفر لهم بعض المال الذي يساعد عائلات القرية على مجابهة صعوبات الحياة، كما يُمكنهم من الحفاظ على تراث الأجداد من خطر الاندثار في ظل انتشار صناعة النسيج العصرية وعدم دعم الدولة لهم. إلى جانب المرقوم، هناك العديد من العادات والتقاليد المتوارثة عن الأجداد في توجان، تلك القرية الجبلية المعلقة التي تحكي عن صمود الأمازيغ في الجبال وتطويعهم الطبيعة خدمة لهم، مشكلة لوحة مختلفة الألوان والرموز.